كانت الحرارة العالية، وقيظ الشمس الحارقة، أحد أشد التجارب المؤلمة التي عانينا منها، حيث تسبب الحر بإنهاك العديد منا وتعرض البعض الآخر للجفاف؛ فالقليل فقط من الطرق المزدحمة تم تزويدها بإمدادات المياه، وبعض طرق الحجاج المشتركة، كمكان الرجم على سبيل المثال، كانت خالية من أي إمدادات للمياه، عدا وجود بعض رجال الشرطة الشباب الذي يرشون المياه عشوائيًا على وجوه الحجاج.
آداب ومهارات تواصل المشرفين وعناصر الشرطة المنتشرين داخل وحول المسجد، كانت قصة أخرى يرثى لها، فمع وجود حجاج يأتون من مئات البلدان ومن كل فج عميق، كان من المفترض أن يتم التواصل معهم بلغة واحدة أخرى، على الأقل، غير اللغة العربية، ولكن الواقع كان مختلفًا، ليس ذلك فحسب، بل إن الطريقة التي كان الحراس يصرخون بها بصوت عالٍ في وجه الحجاج، بل حتى في وجه الحجاج الأكثر لطفًا، كان أمرًا غير متوجب، كما أنه سبب الذل للعديد من الحجاج، فلم يسبق، في أي وقت مضى، وأن تحدث أحد معي أو مع والداي بذات الطريقة المشينة التي تحدث بها الحراس معنا.
كما يبدو بأن الشيء الوحيد الذي خُوّل رجال الشرطة الشباب للقيام به، يتمثل بالصراخ بكملة "لا" باللغة العربية، ووضع متاريس على طرق الدخول في الوقت والمكان الذي يحلو لهم دون سابق إنذار، مما قدم وصفة واحدة بديلة واضحة، التدافع وسحق الحجاج في أي مكان من الأراضي المقدسة.
كنا في المسجد عندما قام رجال الشرطة بوضع متراس يحظر خروجنا من المسجد، حيث قالوا لنا بأنه يجب علينا الانتظار في مكاننا حتى انتهاء الصلاة التالية، وبعد حوالي ساعة ونصف الساعة، تزايد الضغط البدني الذي سببه تجمع مئات الناس الذين تجمعوا وراءنا، مما تسبب بقلق وهلع شديدين وحالات من فرط التنفس، وحينها سألت الحارس بأدب للسماح لنا بالخروج، ومن بعدها توسلت له حرفيًا ليسمح لنا بالخروج كون دواء السكري الذي تستخدمه والدتي كان في الفندق الذي يقع في مكان قريب جدًا من المسجد، ومستويات السكر لديها كانت تنخفض، ومع ذلك لم يشكل ذلك أي فرق لدى الحراس، وعندما عثرنا أخيرًا على حاج لترجمة ما كنا نقوله، رفض الحراس إخراجنا أيضًا، وأخيرًا عندما أجهشت بالبكاء وسألت الحراس "ماذا سيحدث إن انهارت والدتي وماتت هنا؟"، فكان الرد بهزة لا مبالية من الكتفين "إذا ماتت فقدرها أن تموت".
عائشة خان، وهي مديرة أعمال تجارية تقطن في مانشستر، وأحد أعضاء المجموعة السياحية ذاتها التي خرجنا معها، أخبرتني بعد بضعة أيام عن الحادثة المأساوية التي تعرضت لها إثر عدم فتح السلطات للحاجز ليسمحوا لزوجها بالوصول لها أثناء شعورها بتوعك شديد، وحينها إنهارت عائشة جسديًا، وحتى حين ذلك بقي المشرفون يضحكون ضمن مجموعة صغيرة، ولم يقدموا أي مساعدة لزوجها لاستدعاء سيارة إسعاف لإنقاذها، وتستذكر عائشة بأسى كيف كان زوجها يركض بذعر من طرف إلى آخر استجداءً للمساعدة.
على أرض الواقع، طريقة إسعاف المرضى ضمن سيارات الإسعاف كانت تشكل معضلة أخرى، فسيارات الإسعاف كانت تُعاق ضمن حركة المرور المتوقفة دون إفساح أي مجال لها للمناورة أو للتجاوز، وفي إحدى الحالات، وبعد أن توقفت مع مجموعة من الحجاج والأطباء لمساعدة سيدة ارتمت على الأرض خوفًا من أنها قد تعرضت لنوبة قلبية، كان من المغيظ للغاية أن أرى وصول مسعفين بالاسم فقط، وهم في الحقيقة مجرد سائقين في زي أبيض، لا يتمتعون بأي تدريب طبي حقيقي، حيث رفضوا حتى سماع الطريقة التي وقع بها الحادث، وعندما تقدمت قليلًا لأرى الجزء الخلفي من سيارة الإسعاف المعنية، صُدمت لعدم رؤيتي لأي معدات طبية واضحة ضمن السيارة على الإطلاق، وحينئذ تم إبعادنا باستهتار من قِبل الطاقم الطبي، حتى أن بعض أفراد عائلة السيدة المصابة تُركوا في الشارع مستسلمين للبكاء، بدون إعطائهم أي فكرة عن المكان الذي ستتجه له سيارة الإسعاف.
هناك العديد من التجارب المؤلمة الأخرى التي يمكن أن تروى حول هذا الموضوع، ويعرفها معظم الحجاج، ولكن إصرار البعض على أن مقتل مئات الأشخاص في حادثة التدافع تمثل مشيئة الله، وهي بالتالي أمر لم يكن بالإمكان تجنبه، هو شيء أرفض أن أتقبله؛ فأنا أرى بأن الإسلام يقوم على العقل والمنطق، فما لم تفعل كامل ما بوسعك وفق الوسائل التي تحوزها لتجنب وقوع الحوداث السيئة، لا يمكنك بعدها استخدام ذريعة إرادة الله لتبرير ما حصل.
بعض الأشخاص الذين أدوا مناسك الحج سابقًا يصفون كيف تسير الأمور على نحو أفضل ببطء مع مرور الوقت؛ فالسلطات السعودية ترفض منح تأشيرات الحج إذا سبق لمقدم الطلب أداء فريضة الحج خلال السنوات الخمس الماضية، في محاولة للسيطرة على تدفق الحجاج إلى بيت الله الحرام، وحاليًا يتم إتمام أعمال البناء في المسجد، وهي الأعمال التي أدت بشكل غير مباشر إلى وفاة مئات الأشخاص في الشهر الماضي عندما سقطت إحدى الرافعات فوق سقف المسجد الحرام، ومع ذلك فإن الحاجة إلى التغيير الجذري أصبحت ملحة.
جزء كبير من سوء إدارة الحج ينبع من أداء المملكة العربية السعودية بحد ذاتها، فالسلطات التي توجد حول وداخل الأماكن المقدسة غير مخولة لاتخاذ قرارات مستقلة، في حين يتم التعامل مع أفراد الأسرة المالكة وضيوفهم ككبار الشخصيات مع امتيازات مخصصة، وبالتالي ليس لدى العائلة المالكة أي دافع لحث السلطات لخلق نظام آمن وعملي.
في مكة المكرمة رأيت مسلمين، ولكنني لم أرَ إلا القليل من الإسلام، لم ألمس الرأفة والتراحم من مضيفينا، ولم أشعر بقلقهم ورغبتهم بتحقيق مصالحنا، إنني أحث جميع المسلمين والحجاج وجميع الناس، بألّا يخنعوا ويقبلوا بما ذكرته أعلاه باعتباره جزء من تحدي أو تجربة الحج، بل يجب أن يرفعوا أصواتهم، راسلوا نوابكم المحليين في البرلمان، اكتبوا رسائل إلى المجالس الإسلامية، واستفيدوا من مجموعات المجتمع المحلي للتعبير عن غضبكم، بغية إضافة زخم على الصخب الذي باشر بالظهور بالفعل ضمن الساحة الدولية.
الحج، هو من الشعائر الإسلامية المقدسة التي من المفترض أن تنير حياة الناس وتغيرها، لا أن تعرضهم للخطر أو للموت، ولقد حان الوقت لعودة الأمور إلى نصابها.