يصعب الكلام والتحليل في حضرة الموت، «هل إنتحر أو قُتل؟»، «هل كان يعاني من اضطرابات نفسيّة أو أنه كان على خلاف مع أحد»؟، «هل رمى نفسه أم أنّ أحدهم دفعه؟»... أسئلة كثيرة لا يمكن وصفها إلّا بالسخيفة مهما كانت دوافعها أمام جثة شاب في ربيع عمره مرمية تحت منزل ذويه، وأمام أم وأخت وأخ جالسين من دون حركة أو كلمة، وبتعابير وجه إنقطعت منها الحياة.لا يكاد يمر يوم إلّا وتملأ أخبار العثور على جثث في مختلف المناطق، صفحات الجرائد وشاشات التلفزة، وقد يكون يوم أمس من أكثر الأيام ازدحاماً بأخبار الموت، فقد عُثر على المواطن ط. ض. في العقد الرابع من العمر جثة في عمشيت- الطريق البحرية.
أمّا داخل شاليه في أحد المنتجعات في عمشيت، فوُجد المواطن طوني بطرس (50 عاماً) من بلدة بشلله قضاء جبيل مصاباً بطلق ناري من بندقية صيد في أسفل ذقنه، وقد نفذت من أعلى الرأس، ووُجد السلاح المستخدم داخل الشاليه ما يرجّح فرضية الإنتحار.
وكذلك عُثر على عاملة أثيوبية مشنوقة بحبلٍ ومتدلّية على غصن شجرة في حديقة رب عملها في بلدة بليدا- قضاء مرجعيون، من دون أن تُعرف الدوافع. كما عُثر على جثة السوري عبد القادر جميل الأعرج (1961) في محلة المصنع على الطريق الدولية بعد مركز الأمن العام اللبناني بنحو كيلومترين، توازياً مع وفاة المواطن ع.عثمان، إثر سقوطه من شقة سكنية في الطابق العاشر، في محلة الريفا- القبة- طرابلس.
وفي كلٍّ من هذه الحوادث كانت عناصر الأدلّة الجنائية والأطباء الشرعيون يحضرون لاتخاذ الإجراءات اللازمة وتحديد أسباب الوفاة، رغم أنّ مَن يموت يأخذ سرّه معه.
حادثة أدونيس
قد تكون الحادثة التي أخذت الجدل الأكثر هي العثور على جثة الشاب ايلي كريدي (27 عاماً) في أدونيس- المنطقة الخضراء عند مدخل مبنى ملاصق للذي يسكنه مع ذويه، والجدل يعود لتناقل روايتين بين سكان المنطقة، إحداهما تفيد بأنّ كريدي قُتل، فيما الأخرى بأنه انتحر.
صمت مدوٍّ
حالة ذهول طغت على سكان المبنى الذي شكّل مسرح الحادثة المأساوية... تدخل بيت كريدي فتعتقد أنه خالٍ من الناس لتفاجأ بأنه مزدحم بالجيران والأقارب، إلّا أن لا همسة ولا حركة تخرج عن أيٍّ منهم، الأم والأخت والأقارب جالسون جنباً الى جنب، لا أحد ينظر الى الآخر أو يتكلم، لا أحد يذرف دموعاً، فالصدمة كفيلة بتجفيفها، لحظات صمت طالت بين أهل الضحية، فما نفع الكلام في هذا الموقف؟
حسم فرضيّة الإنتحار؟
وفي السياق، يقول مصدر مواكب للتحقيقات لـ«الجمهورية» إنّ «البعض رجّح في البداية أن يكون كريدي قد قُتل نظراً لوجود جروح في يديه ورجليه بدت وكأنها طعنات سكين، ولأنّ وجهه لم يبدُ وكأنه وجه شخص رمى بنفسه من الطابق الخامس، وهو ما دفع بالترجيحات للصبّ في خانة القتل ونقل جثته الى مدخل بنايته كما كان متداوَلاً».
ويشير الى «أنّ التحقيقات الأوّلية كشفت أنّ كريدي انتحر رامياً بنفسه من الطابق الخامس، غير أنه علق بأسلاك الكهرباء الممدودة أثناء هبوطه ما تسبّب بجروحٍ في يديه، أما ضغط الإرتطام فتسبّب في خروج عظمة من إحدى رجليه من جسده ما بدا وكأنه طعنات سكاكين من جهة، ومروره بين الأسلاك خفّف وطأة الإرتطام على جثته من جهة أخرى وهو ما جنّب وجهه التشوّه كما يحصل عادةً عند سقوط أحد من هذا العلوّ»، مضيفاً: «رئته «بجّت» على الضغط، ما تسبّب بالنزيف وسيلان الدم من جسده».
بدورها، تستبعد أخته أن يكون ايلي قد قُتل، وتؤكد لـ«الجمهورية» أنها ما زالت تحت تأثير الصدمة، خصوصاً وأن لا بوادر يأس كانت بادية على وجه ايلي، وتقول: «فلننتظر نتائج التحقيق، فلا أحد سيعرف ما الذي حصل معه وكل الكلام يبقى في إطار التحليل».
توتّر في الفترة الأخيرة
ومن جهته، يوضح أحد جيران كريدي لـ«الجمهورية» أنّ «ايلي شاب رياضي ولا يمكن لأحد أن يكون قد دفعه من شرفة المنزل، فلن يقوى احد على ذلك نظراً لضخامة جثته، لكنّ الغريب أنه عندما فُتحت حقيبته وُجدت فيها صور للقديسين، فكيف لشخصٍ مؤمن بهذا القدر أن يخضع للحظة تخلٍّ؟»
أما أصدقاء ايلي الذين بدت ملامح الغضب واضحة عليهم، فيرفضون فكرة الإنتحار: «ايلي رفيقنا من نحنا وصغار منعرف كل شي عنّو ما معقول ينتحر»، ويضيف أحدهم: «ايلي مدرّب رياضة، وكانت هذه وسيلته لتفريغ تعصيبه من الحياة، فلكل منا مشكلات حياتية وبالطبع كانت لدى ايلي مشكلاته إلّا أنّ سلاحه كان الرياضة»، ليقاطعه آخر قائلاً: «ايلي في الفترة الأخيرة كان متوتراً جداً، خصوصاً وأنّ كلاماً انتشر حول احتمال إقفال النادي الذي كان يعمل لحسابه في مدرسة تعود ملكيتها لزوج أخته، وبعدما سافر إلى إسبانيا لسببٍ معيّن، «بس ما ظبط»... قد تكون هذه الأسباب شكّلت دافعاً عنده للإنتحار رغم أنه لم يبدُ عليه يوماً مظهر الكآبة، «بس مين بيعرف يمكن هلأ أنا عم إضحك وإطلع عالبيت إقتل حالي»، هذه لحظة تخلّي».
إذاً، فتّح العدد المرتفع لحوادث الإنتحار أمس العيون على هذه الظاهرة التي عادت نسبتها للصعود في ظل المشكلات المادية وغلاء المعيشة والبطالة، والضغوط النفسية التي يعاني منها سكان لبنان على مختلف جنسياتهم... «فل وأخد سرو معو»، هي العبارة الوحيدة التي تصف ما حصل مع ايلي وكذلك مع جميع القتلى الذين وُجدت جثثهم أمس، ورغم كل التحليلات والتقويلات، يبقى أنّ كلّاً من هؤلاء الضحايا ترك جروحاً لن تندمل في قلوب أشخاصٍ عرفوه، أحبّوه وصلّوا يوماً طالبين من الرب أن يحميه...
(ربى منذر/ الجمهورية)