يستعد الفتى باسل لاستقبال عامه الدراسي الجديد في البقاع الغربي. استعدادٌ لا تبدو عليه الحماسة، فالفتى الثائر والرافض لواقعه «يتسكّع» في شوارع قريته طوال النهار وبعض ساعات الليل، بعدما فشل في العثور على فرصة عمل واحدة في فصل الصيف تساعده على تلبية متطلباته «الشبابية» قبل أن يعود إلى مقاعد الدراسة، التي يجدها «بلا معنى أو طعمة»، إذ إن خياره النهائي والمحسوم منذ الآن هو حزم حقائب السفر إلى فنزويلا، واللحاق بشقيقه الذي غادر المنزل العائلي ومقاعد الدراسة من أجل العمل، على أمل أن يلحق بهما شقيقهما الأصغر، الذي لا يجد في أوقات «فراغه» إلا مواجهة والدته و«التمتع» بنرجيلة في غفلة عنها.
«وضعُ» الفتى باسل (14 عاماً) وطموحه ليسا حالة نادرة أو فريدة من نوعها في البقاع الغربي. فقراره المسبّق بالسفر والهجرة إلى بلاد الله الواسعة، هو حالة عامة تسيطر على أفكاره وعلى أقرانه في القرية «المحتلة» بالقصور و«الفلل» الفارهة، والفارغة من أيّ حياة تذكر. فطموح باسل ورفاقه هو الهجرة التي لا بد منها، فلا خيارات أمامهم سوى الرحيل والسير على طريق من سبقهم من الأجداد والآباء والإخوة «شو في هون؟ نتعلم ونسافر» يقول باسل، الذي لا يخلو كلامه من تعبيرات «استهزاء» و«مسخرة» على حاله والحال السياسية في لبنان. يتابع الفتى: «أخي محمد سافر منذ سنتين إلى فنزويلا، وماشي حالو كثيراً. شو كان بدو يبقى يعمل هون؟ وأنا بس يصير عمري 18 سنة بدي سافر لعندو، وأخي الصغير كمان راح يلحقنا». ويضيف إن شقيقه ترك مقاعد الدراسة قبل سنتين وغادر إلى فنزويلا، حيث بدأ العمل فور وصوله و: «شغلو هونيك ماشي كتير... وأحسن من مليون شهادة. وإذا بقي هون شو كان راح يعمل؟ كان بدو يكزدر بالضيعة، ويروح على المدرسة ويشرب أركيلة».
يمضي معظم فتيان وشباب أغلبية قرى البقاع الغربي أوقاتهم في «الكزدرة» وتنظيم سهرات النراجيل قبل أن يحين موعد سفرهم إلى خارج البلاد. فجلّهم وجد في شهر رمضان مناسبة «كريمة» للتعبّد والصلاة والاستماع إلى بعض الخطب الدينية في مساجد قراهم، حيث لا تخلو بعض خطب «مشايخ» متخرجين حديثاً من تحريضات بالجملة والمفرق و«استغلال» بطالة هؤلاء الفتيان وتعبئتهم بما لا يتناسب مع عاداتهم وتقاليدهم الاجتماعية، أو حتى السياسية التي كانت تطبع حياة منطقتهم طوال عقود مضت. ويؤكد الشاب محمد ع. (19عاماً) أنّ موعد هجرته إلى كندا قد حان، و«أنا أمضي ما بقي لي من وقت هنا في الصلاة والصوم والاستماع إلى دروس دينية». وما هي هذه الدروس؟ يجيب: «كلو حكي بحكي... بس عم ضيّع وقت حتى سافر. والشيخ مش قوي إلا بالحكي عن الكفار اللي بدن يخربوا لبنان». يضيف ممازحاً: «يمكن رفيقي أحمد (...) هوي اللي بدو يخرّب لبنان لأنو ما بيصلّي ولا بيحب الشيخ». ويختم: «أختي سافرت إلى كندا مع أمي، وأنا هنا مع جدي أنتظر إنجاز معاملات السفر. ما في شي هون».
تقطيع الوقت عند الشاب محمد ع. حتى يحين موعد سفره وإنجاز معاملات هجرته إلى كندا، بالاستماع إلى «كلو حكي بحكي» من رجل دين يحرض ضد «كفار» مجهولين يريدون تخريب لبنان، ينبع من فراغ يقضّ مضاجع شباب البقاع الغربي، الذين لا يجدون إلا في «النراجيل» والاستماع إلى بعض كلام رجال الدين ما يعينهم على انتظار «الفرج» و«الباسبور» و«الفيزا» أو «التسلية» بما ينسيهم بعض قلقهم، أو استغلال بعض مناظرات نواب البقاع الغربي وراشيا الذين يجولون في قرى المنطقة وبلداتها نهاية كل أسبوع خلال تأدية واجبات «الأتراح» التي أصبحت عملاً «تشريعياً» مهمّاً في عمل النائب، إذ إن دورهم الاشتراعي الأساسي لا يعدّ ذا قيمة انتخابية مقارنةً «بتشريع» قيامهم بواجبات اجتماعية يجدها بعضهم في البقاع الغربي «خير» وسيلة للتقرب من الناس، والاستماع إلى بعض همومهم ومطالبهم التي تسجل على دفاتر صغيرة، إذ إن في «أجندة» أحد نواب البقاع الغربي أكثر من «طلب واسطة» للحصول على فيزا من سفارة فنزويلا (10 طلبات)، عدا «طلبات» أخرى هي شقيقة أو قريبة من طلب الهجرة. ويكشف هذا النائب أن تواصله اليومي (عبر الهاتف) مع شباب منطقته يتمحور حول طلب واحد اسمه «واسطة الفيزا». مبدياً أسفه لما يعانيه شباب منطقته، ولاقتصار طموحهم على تأشيرة هجرة من دون عودة إلى هذه البلاد. يتابع: «القضية ليست جديدة أو طارئة، بل هي متوارثة، وأصبحت على ما يبدو تقليداً، ونحن عاجزون بصراحة عن إقناع الشباب بأهمية البقاء هنا وتنظيم حياتهم وفق الواقع القائم». ويختم: «للأسف، الهجرة هي الباب الوحيد المفتوح اليوم أمام شبابنا من أجل العمل... في منطقتنا لا فرص عمل متوافرة، ولا يمكن إيجادها بين يوم وآخر. إنها أزمة وطنية». النائب الذي يأسف لاقتصار طموح شباب منطقته على «فيزا»، لم يسأل على ما يبدو عن الأسباب وعمّن يقف خلفها، وهو في الأساس والأصل لن يسأل أو لن يكلف نفسه، أو حتى مكتبه، إجراء دراسة واحدة عن «سر» «طموح الفيزا» عند شباب البقاع الغربي وراشيا، فالمطلوب من هؤلاء الشباب أن يكونوا فقط «صوتاً» انتخابياً في مواسم الانتخابات النيابية والبلدية، وأن يستمعوا إلى وعود عن توفير فرص عمل من خلال إقامة مصانع ومؤسسات بقيت حبراً على ورق. فالنائب المذكور ومن خلفه فريقه السياسي، لا يختلفان في وعودهما عمّن سبقهم إلى المقعد النيابي طوال عقدين من الزمن «إنه أمر محزن».
«أمر محزن» فعلاً وواقعاً. إنه حزن يعم البقاع الغربي وراشيا منذ فترة طويلة، بعدما وصلت الأمور الاقتصادية ـــــ الاجتماعية إلى خطها الأحمر، فموجات الهجرة التي بدأت تتحول إلى «تسونامي» في المنطقة ليست ذات شأن تستحق العناية أو حتى إجراء دراسة واحدة عن أسباب تفاقهما. فكل ما يعني نواب المنطقة، الحاليّين والسابقين، هو تلبية دعوات المآدب العامرة، أو إقامة المآدب وحفلات الطرب على ضفاف نهر الليطاني، الذي تزكم روائحه الكريهة الأنوف حين يهب «الهواء الغربي» ليلاً حاملاً معه نحو القصور والفلل والمزارع «الترفيهية» المشيّدة شرقه ما يكفي من «روائح» الإهمال المتعمد على وقع أغاني «الطرب السياسي» والأصوات الغنائية الشجية التي لا تشبه أصوات الشباب المطالبين بتأشيرات هجرة، أو بفرص عمل خارج منطقتهم، التي تتحول شتاءً إلى بلاد حزينة لا يجد فيها العجزة وكبار السن سوى استراحة عمر، أو محطة قسرية لوداع أحبّة وانتظار من سبقهم.
50 % من أهالي البقاع الغربي في الاغتراب
هجرة الشباب في البقاع الغربي أصبحت تقليداً وواجباً اجتماعياً في معظم بلدات المنطقة وقراها منذ عقود، ولا سيما منذ ما بعد الحرب الأهلية التي عصفت بالبلاد سنة 1975، حيث لا يخلو «بيت» من مهاجر، أو من تكدّس حقائب السفر فوق الخزائن وفي الغرف، وهي حال ازدادت أواسط تسعينيات القرن الماضي، وارتفعت وتيرتها منذ عام 2005 ارتفاعاً كبيراً وفق معطيات «انتخابية» كان قد أجرى دراستها فريق سياسي في العام الماضي، أظهرت أن ما نسبته 50% من أهالي البقاع الغربي في بلاد الاغتراب، ولا سيما عنصر الشباب، الذي حوّل اغترابه القرى والبلدات إلى ما يشبه «الموت السريري البطيء»، حيث لا تخلو قرية واحدة من هجرة عائلات بأكملها إلى بلاد أكثر استقراراً وأمناً.