مرّت أربع سنوات تقريباً على خروج رئيس الهيئة التنفيذية في القوات اللبنانية سمير جعجع من السجن. يعيش الرجل في قصر راعى مصمّموه أصول بناء الثكنات التي اعتاد جعجع التنقل بينها. يهتم بأناقته، فيختار يومياً ما يلائم مزاجه من البذلات المميّزة التي تعدّها له دنيز طوق ـــــ شقيقة زوجته ـــــ. يطبخ له أهم الطبّاخين في البلد، يدوزنون له البروتينات والفيتامينات ليحافظ على رشاقته، ويكثرون من الحلو بعد الطعام، آخذين في الاعتبار أن الحكيم لا يحبّ الفواكه. يغنّج هرة ستريدا وهرّه، مظهراً عطفاً كبيراً على الحيوانات. وهو يركض يومياً في القصر، ويتسلّى على دراجته الهوائية. إضافة إلى ذلك، باتت الصحف السياسية اليومية تصله قبل أن يطلع الضوء على معراب، وهناك في القصر ـــــ الثكنة مجموعة من الشباب «الأذكياء» سياسياً الذين يعدّون له تقارير يومية، غنيّة بالمعلومات والتحاليل. رغم ذلك، ورغم نقاوة الهواء الذي يتنشّقه الحكيم، هو لا يصدق شيئاً ممّا يحصل حوله. كل ما يسمعه، بحسب قوله خلال اتصاله أمس مع «قواتيي برلين»، هو «مجرد قرقعة». فالرؤية من معراب تظهر أن «ثورة الأرز ثابتة».
في السياسة، لا مفاجآت منتظرة من خطاب جعجع بعد عشرة أيام في احتفال الشهداء الذي تحوّل تقليداً سنوياً في ملعب فؤاد شهاب في جونية. فرئيس الهيئة التنفيذية ما زال «ثابتاً في ثورة الأرز»، يعوّض عند كل منبر يصل إليه عمّا كان يأمل قوله يوم 14 آذار 2005 لو لم يكن في السجن، وسط اقتناع لدى القواتيّين بأن رئيسهم يعبّر اليوم في مواقفه تجاه سوريا وحزب الله عمّا تهجس به الأكثرية الشعبية.
خط الدفاع الجعجعي
في الموضوع السوري، خلافاً لما يشاع، تنفي القوات اللبنانية ما يُحكى عن رسائل إيجابية قواتية توجه إلى سوريا. فالقوات معنية على صعيد العلاقة مع سوريا بالضغط الدائم لمنع العودة إلى الوراء وإلزام الأطراف المعنية كلها بتعزيز منطق الدولتين الحرّتين السيّدتين والمستقلتين، حتى ولو كان المعني الأول والأخير بهذا الضغط هو حليف القوات، رئيس الحكومة سعد الحريري، باعتباره المسؤول عن «منطق الدولتين». وبثقة مفعمة بالنفس، يقول أنصار جعجع في حزب القوات إن أبناء عكار والمنية والضنية وطرابلس والقلمون، كما أبناء جبيل وكسروان والمتن والبقاع، يجدون في كلام «الحكيم» رادعاً يحول دون عودة السوري إلى لبنان. يصدّق هؤلاء أن موقف جعجع مؤثّر شعبياً وسياسياً، تماماً كما يصدّقون أن وليد جنبلاط بات الزعيم الثاني في الشوف بعد سمير جعجع، لأن غالبية الدروز يؤيّدون الحكيم فكرياً وسياسياً وغرائزياً، فيما يخصّص فريق العمل الحربيّ المميز في الموقع الإلكتروني للقوات اللبنانية جزءاً كبيراً من وقته للبحث عن تصاريح لوئام وهاب وفايز شكر يتنبّآن فيها بعودة السوري كي يسوّقوها، زاعمين أن وهاب وشكر يعبّران عن النيّات السورية الحقيقية بالعودة إلى لبنان، مع العلم بأن جعجع في الظروف الحالية لا يملك خيارات كثيرة. ففي ظل تموضع الرئيس ميشال سليمان في الوسط، والعماد ميشال عون والنائب سليمان فرنجية إلى جانب حزب الله وسوريا، لا يبقى أمام رئيس الهيئة التنفيذية إلا الوقوف مع دوري شمعون وفارس سعيد لبناء حيثيّته في الداخل والخارج، وخصوصاً أن الثابتة الأساسية، وربما الوحيدة، في العلاقة بين جعجع وسوريا، هي أن النظام السوري بتشعّباته كلها جازم برفضه إقامة علاقات طبيعية مع القوات اللبنانية الممثّلة بجعجع. وبالتالي، في «مهرجان الشهداء» ستقدّم القوات اللبنانية نفسها كخطّ دفاع متقدّم ضد عودة السوري، وعلى هذا الخط يقف كثيرون لا ينتمون بالضرورة إلى القوات اللبنانية. لكن، كما كانت القوات (وبعضها ما زال) ترى أن كل مسيحي هو قوات لبنانية، فإن كل قلق من عودة السوري إلى لبنان، وكل مستعد لمواجهة هذه العودة، هو قوات لبنانية. تراهن القوات على كثرة المحتشدين فوق هذا الخط المفتوح طبعاً للنائب خالد الضاهر وغيره ممّن لن تفتح لهم أبداً أبواب الشام مجدداً، ولن يشملهم عفو السلطان.
عقدة السلاح
انتقالاً إلى حزب الله، ثمة ملاحظة أوّلية يمكن كلّ متحاور مع القواتيين أن يسجّلها، وهي الرغبة القواتية الكبيرة في إظهار أنفسهم نموذجاً مسيحياً عن حزب الله، أقلّه من حيث التنظيم والثبات على الموقف والوضوح في الخطاب. ويبدو واضحاً أن أنصار الحزب الذي سلّم سلاحه يواجهون مشكلة كبيرة مع الحزب الذي لم «ولن» يسلّم سلاحه. فيقول القواتيون كلاماً كثيراً ينتهي كلّه إلى المطالبة بنزع سلاح حزب الله. وتلعب القوات هنا لعبة جديدة، فتقنّع رغبتها في نزع سلاح حزب الله بالدعوة إلى قيام الدولة. وتعتقد القوات في هذا السياق أنها تربح نقطة مسبقة على خصومها، لأن من لا يرغبون في أن يكون المسيحيون رأس حربة في المطالبة بنزع سلاح حزب الله، سيصمتون حين يتعلق الأمر ببناء الدولة. وبالتالي تدور القوات حول نفسها ولا تقدّم جديداً في موقفها من حزب الله. ويشار هنا إلى أن القوات اللبنانية التي لا تثير عبر وزرائها في الحكومة قضايا اجتماعية واقتصادية، والتي لا يؤدّي نوابها دوراً اشتراعياً كبيراً، لا تملك إلى جانب عدائها لسوريا أيّ ملف يسمح لها بشدّ عصب أنصارها إلا ملف سلاح حزب الله، مع العلم بأن القوات حدّت كثيراً من ضجيجها بشأن سلاح الحزب منذ أسابيع عدة، بعدما ارتاحت إلى أن «المهمة أنجزت» وبدأت تبشّر أنصارها بأن المحكمة الدولية ستفعل ما عجزت عنه إسرائيل، و«سيجد حزب الله نفسه أمام السيناريو نفسه الذي تعرّضت له القوات إثر اضطرارها إلى تسليم سلاحها في بداية التسعينيات». فيتوقع بعض القواتيين المتفائلين أن يُقبض على الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصر الله ويُزجّ به في سجن وزارة الدفاع. في المقابل، يتصرف الحزب، الحريص على مشاعر سعد الحريري وجمهوره، والذي يراعي الأحباش ويهرع لمصالحتهم، و«يطبطب» للنائب وليد جنبلاط ويغنّجه، كأن القوات اللبنانية من خارج المكوّنات اللبنانية (...).
حشد لا يُصرف
بعيداً عن العناوين السياسية، تبذل القوات كالعادة جهداً كبيراً ليكون «مهرجان الشهداء» غنيّاً شعبياً، في ظل اعتقاد القوات أنها قادرة اليوم على أن تحشد شعبياً أكثر من ميشال عون، مع العلم بأن القوات بفضل ذكاء بعض العونيين باتت تلعب وحدها في جامعات عدة، من بينها معاقل عونية سابقة. والأكيد هنا أن القوات قادرة تنظيمياً، بفضل قبضة جعجع الحديدية من جهة وروح الجماعة القواتية غير الموجودة عند القوى المسيحية الأخرى من جهة أخرى، على أن تضبط وتنظّم مهرجاناتها أكثر بكثير من القوى المسيحية الأخرى، وخصوصاً التيار الوطني الحر الذي ما زال أكبر بكثير شعبياً من القوات (بحسب نتائج الانتخابات النيابية والبلدية). يشار هنا إلى أن القوات ستثبت مرة أخرى أنها قادرة على ضمان حضور آلاف عدة في مهرجانها، ولديها الدقة التنظيمية، لكنّ المطّلعين على تفاصيل النموّ القواتي يؤكدون أن هذه مجرد تفاصيل، والتحدي بالنسبة إلى القوات اليوم هو إيجاد حزبيين قادرين على إثبات حضورهم في مناطقهم، على غرار عشرات العونيين الذين يحتشدون في كل قضاء، معدّين أنفسهم للنيابة أو غيرها. والثابت الوحيد هنا أن القوات لا تملك اليوم أيّ وجه بارز يسوّق لنفسه، في بعبدا أو عاليه أو الشوف (باستثناء جورج عدوان)، وقد بذل إدي أبي اللمع جهداً كبيراً ليضمن أنه الوجه القواتي الوحيد في المتن، فيما اضطرت القوات إلى استحضار مرشحها إلى النيابة في كسروان عام 2005، شوقي الدكاش، بعدما عانت من فراغ في السنوات الثلاث الماضية اضطرها إلى طلب مساعدة كارلوس إده، فتصرّفت مع ترشّح عميد الكتلة الوطنية باعتباره قوّاتياً. أما جبيل، فلا تبحث القوات عن شخص تبرزه، «لأن فارس سعيد مكفّى وموفّى». وبالتالي، بعيداً عن معايير الكمية والنوعية الكتائبية، لا تبرز في الحشد القواتي نوعية تسمح لجعجع بالقول يوم 25 أيلول: «أنا هنا»، مع العلم بأن جعجع يعترف بوجود هذه المشكلة، وهو مع بعض مساعديه يبحثون عبثاً منذ عدّة أشهر عن حلول. ولا تخفي بعض المصادر القواتية خشيتها من أن تخسر القوات بعض أنصار حلفائها الذين استقطبتهم في السنوات القليلة الماضية، نتيجة اشتياق هؤلاء إلى الزعامات المحلية.
بعيداً عن المضمون، في الشكل تسلّط القوات الضوء مرة أخرى في إعلانها على الوردة الحمراء، في ظل رغبة في أن تصبح هذه الوردة رمزاً قواتياً يحلّ على الأرجح بدلاً من الصليب المشطوب أو جمجمة الصدم. وهي تكرر محاولاتها تجاوز آثار ماضيها. من يشاهد داني شمعون، والشهداء الآخرين الذين سقطوا إثر اغتيال مؤسس القوات بشير الجميّل عام 1982، في إعلانها الأخير، يستغرب تناسيها صورة الشهيد رشيد كرامي.