ابراهيم الأمين
بلد الانهيارات الطائفية والمذهبية يقترب من لحظة الجنون القصوى. وليس معلوماً إن كان من المفيد إعادة عرض الفصل الأخير من آخر مسرحيات زياد الرحباني «بخصوص الكرامة والشعب العنيد»، حيث الناس يأكل بعضهم بعضاً. لكن يمكن ملاحظة الآتي:
أولاً: إن الاحتقان المذهبي لا سابق له في البلد، وإن التعبئة بلغت مرحلة غير منطقية. وكل التراجع القائم في الحالة الحريرية ـــــ وهو تراجع جدي، ويمكن ملامسته في كثير من المناطق ـــــ لا علاقة له بالعصبية السُّنية الجاري العمل عليها بقوة، سواء من أنصار الحريري أنفسهم، أو من جهات أخرى ذات خلفيات سياسية أو أمنية أو دينية. والمشكلة في أن التعبئة لا تقتصر على الناس العاديين، وأنها لا تحصل فقط في حلقات الأزقة ومجالس النواب والسياسيين، بل تتصل كثيراً بوسط نخبوي عند هذه الفئة يراقب المشهد العام من العراق إلى لبنان. وهناك مناخ من شأنه أخذ الأمور إلى أبعد مما نعتقد. وليس أمراً عفوياً ما تشجعه استخبارات عربية وقوى 14 آذار، ولا سيما «القوات اللبنانية»، على تحركات في المناطق السُّنية في الشمال وبيروت والساحل، مترافقة مع حملة إعلامية تتضمن حملة قاسية على إيران خلال زيارة أحمدي نجاد لبيروت.
ثانياً: ما يسمّيه فريق 14 آذار «فائض القوة» لدى شيعة لبنان، لا يتصل عملياً بمشكلة هذه الطائفة، إذ إن الأمر لا يتصل بما تملك من قدرات غير متوافرة عند الآخرين، وخصوصاً لناحية التسلح، بل في أن الشيعة الذين ناضلوا لعقود لتحقيق موطئ قدم داخل الدولة ومؤسساتها، ربما كانوا أساس مَن عمل على رسم خريطة لبنان الكبير الحقيقية، من خلال منح الأقضية دوراً يحقق توازناً مع دور جبل لبنان.
لكن مشكلة الشيعة ما بعد عام 1985، أن قادتهم عملوا على تحقيق حضور شكلي في إدارات الدولة، بطريقة تشير إلى نقص في فهم أهمية الدولة، لا كمؤسسات فقط، بل كمركز استقرار دائم. وهو الأمر الذي انتقل في مرحلة أخرى إلى العمل على تقليد المسيحيين، ومن ثم حالة الحريري السُّنية، في بناء مؤسسات اكتفاء ذاتي في القطاعات التربوية والاجتماعية والسلوكية والاقتصاد الاستهلاكي. وبعد ربع قرن، تتصرف القيادة الشيعية على أنها لا تزال في موقع المعارضة، وهو أمر يرتب حسابات من نوع آخر. وإذا لم يحصل تغيير في هذا الاتجاه، فإن قدرة الآخرين على تحويلهم خصماً للدولة تبقى أقوى بكثير.
ثالثاً: تعيش القوى المسيحية في 14 آذار مرحلة حساسة هي الأولى التي تواجهها منذ فترة طويلة. لم يعد بمقدور هذه الشخصيات الحديث عن غياب التمثيل المسيحي في الدولة ومؤسساتها كلها، وهي لا تجيد في المقابل شرح نتائج الحضور في الدولة ومؤسساتها، وكذلك نتائج التحالفات التي قامت بها خلال السنوات الماضية، لجهة طمأنة المسيحيين أكثر إلى مستقبلهم في لبنان.
وإذا كان صعباً على هؤلاء العودة إلى صياغات السنوات السابقة لانقلاب عام 2005، فإن الأصعب إعادة الاعتبار إلى موقع بكركي كمرجعية عامة، بعدما صار البطريرك الماروني نصر الله صفير طرفاً في النزاع، وهو يعاني أصلاً ضائقة شعبية لا تنفع معها العبارات الكبيرة، بل إن البحث القائم على مستوى الفاتيكان حول كل المؤسسات الكنسية يشير إلى إدراك الأزمة القائمة على مستوى الدور والوظيفة.