بعدما فطمته أمّه على عجل، نطق أحمد الحريري بكلمة السرّ. أفصح
عن المكنون، وأفشى بما لا يُشاع في العلن ـــ إلى الآن. لم يجد أمام نقد حزب الله (الذي يشعر أن رأسه يُقدّم على طبق من قبل الصهاينة للمحكمة الدوليّة) إلا القول إن الحزب يكرّس «عرفاً» في التهجّم على «موقع» (الجذر من الطائفة) رئاسة الوزراء. والأمانة العامة لـ14 آذار استفاقت وعقدت اجتماعاً طارئاً، وقد توجّهت قبل أيّام بنداء «استنهاض» إلى الشعب اللبناني. ورؤية نصير الأسعد في الأمانة العامّة تؤكّد أن الشعب اللبناني لا بدّ أن يُستنهَض لأن طلب الأسعد لا يُردّ بسبب سحره الجماهيري، وكذلك رؤية فارس سعيد ينهض فوراً عن الكنبة. إنه الاستنهاض
أسعد أبو خليل*
دخل إعلام آل سعود المعركة المستجدّة في لبنان باكراً. جريدة «الوطن» (المملوكة من الأمير خالد الفيصل، المُتحالف مع الجناح السديري وشقيق سعود الفيصل ـــــ عرّاب الفتنة الأوّل في لبنان منذ اغتيال الحريري) شنّت هجوماً عنيفاً على حزب الله واتهمته بالطائفيّة. أي إن الجريدة الوهّابيّة تتهم طرفاً بالطائفيّة: هذا مثلما يبدي معلّقون في صحف آل سعود أسفاً على وضع المرأة في إيران. لكن وفداً رفيعاً من حزب الله عاد وزار السفير السعودي في لبنان وتم تبادل العناق والنفاق لا الخناق، على مدى ساعتيْن. وإعلام «إم.تي.في» (الذي ينحاز إلى إسرائيل في أي صراع بينها وبين حزب الله، أو هكذا يبدو لي) لم يصله بعد أن المجلس الحربي للقوّات اللبنانيّة بات أثراً بعد عيْن. ودينيز رحمة فخري (التي كادت تصفع الوزراء الشيعة أثناء حرب تمّوز) تعتبر نفسها في الميدان، لا في الإعلام. وجريدة «النهار» تحتضر، وسمات احتضارها بادية من خلال عدم محاولتها اصطناع الموضوعيّة (ولو المزيّفة).
في أوّل إشارة إلى التأزّم ينفجر إعلام الحريري وآل سعود بالعنصريّة والمذهبيّة الصريحة. فشلت شركات الأمن الخاصّة وانهزمت، فما بقي إلا الكراهية والتعصّب الوهّابي. كان ينقص الحفل هذا الأسبوع خطبة عصماء من سحر الخطيب للتحدّث عن المعاملة الحسنة التي لقيها الروافض منها، وللحديث عن خيبتها من الأوغاد الشيعة. وتناقلت المواقع الحريريّة (بما فيها موقع «القوّات اللبنانيّة») تحذيراً من ظهور للشيعة في مناطق لبنانيّة يجب أن ينوجد فيها أفراد من الطائفة الغريبة عن الوطن التي ـــــ مثل مزارع شبعا ـــــ تحتاج لإثبات هويّتها. ذكرت المواقع تلك أنه من السهل تمييز الظهور الشيعي الدخيل لأنهم يتميزون بأنهم من «أصحاب اللحى» و«ظفر الإصبع الصغير الطويل». نشرة الحريري اليوميّة (وهي غير نشرة قريطم اليوميّة التي لا تصل إلا إلى الخاصّة) نشرت تقريراً ليوسف بزّي عن خطر قيام الشيعة بشراء الأراضي في الجنوب، وشبّهت «الظاهرة» بالمستوطنين اليهود في أرض فلسطين. ويستدلّ من هذه الفظاظة الطائفيّة والعنصريّة على خفّة سعد الحريري وعدم إدراكه جسامة التطوّرات المحليّة والإقليميّة. لكن عدم كفاءته ونقص معرفته وضعف لغته وإدراكه لا تنقص من مسؤوليّته، بل تزيد منها.
لا يترك إعلام الحريري ـــــ الزرقاوي مجالاً للشك في نيّاتهم الخبيثة والتدميريّة. فتصدّر نشرة «المستقبل الوهابي» يوم الاثنيْن وفي صدر صفحتها الأولى خبرٌ مُناصر لقمع العائلة البحرينيّة المالكة «ضد الإرهابيّين» الشيعة هناك وخبر آخر عن منع العائلة المالكة في الكويت التجمّعات خشية «تصاعد التوتّر السني ـــــ الشيعي» هناك. الحلف الجهنمّي المُنطلق في الرياض والمُنتهي في تل أبيب له محطّة فرعيّة في بيروت ـــــ وقد تنامى موقع المحطّة بناءً على رغبة بوش في التعويض عن خسارته في العراق وفي أفغانستان، وبعدما استنفدت الإمبراطوريّة وسائل الضغط العسكريّة التي ظنّت أنها ستُسقط النظاميْن السوري والإيراني ليكتمل عقد أنظمة الولاء والطاعة العربيّة. لا تحاول الصحافة الحريريّة في الملمّات إخفاء حماسة انضوائها في المؤامرة السعوديّة للنفخ في نار الفتنة وتأجيجها كلما دعت الحاجة، أو كلما شعر الفريق الحريري بالضعف والوجل. جريدة الحريري تريد أن تقول إنه يتضامن مع القوى الطائفيّة في البحرين والكويت واليمن، كما أن الجريدة عنونت لخبر مراسلها الدحلاني عن مؤامرة من حماس ضد... إسرائيل. وهل يخفى حلفهم مع إسرائيل بعد اليوم؟ وهل يُقدّم قولهم الرتيب «إن إسرائيل عدوّ» أو يُؤخّر؟
وفي الأزمات، تعمد الوسائل الإعلاميّة الحريريّة إلى اختلاق ما يناسبها من أخبار. موقع «ناو ليبانون» يتخصّص في عزو تصريحات غريبة لحزب الله. يتخصّص المدعو محمد الضيقة في «نقل» تصريحات مفيدة للحريري وضارّة لحزب الله وعزوها لـ«مصادر مقرّبة من حزب الله»، من نوع: مصادر مقرّبة من حزب الله تقرّ بأنه حزب إرهابي وإيراني ولا يريد إلا الخراب للبنان، وهلم جرّا. (وقلّدهم في ذلك «إم تي في» التي بثّت «خبراً» نقلاً عن مصدر «قريب من التيار الوطني الحرّ» يقول فيه إن ميشال عون عميل إسرائيلي). والطريف أن الإعلام الحريري ينقل تعليقات ناريّة كلّها في معرض الردّ على تصريحات ذلك «المصدر المُقرّب» من حزب الله الذي يخصّ إعلام الحريري وإعلام آل سعود بزبدة الأقوال. والإعلام السعودي يفعل الشيء نفسه، موحياً أن المصادر المقرّبة من حزب الله تحرص على التصريح بالمكنونات فقط للمصادر المعادية لحزب الله. لكنّ هناك جانباً مهماً في استسهال الكذب والاختلاق والنمط الصفراوي في الصحافة العربيّة: إن تملّك آل سعود (وحلفائه) لمعظم وسائل الإعلام العربي يسهّل عمليّة الكذب والاختلاق لأن غياب المنافسة يعني غياب الرقابة والمحاسبة الصحافيّة. لا مهنيّة بوجود التملّك السعودي ـــــ الحريري. هذا يُفسّر معاداة إعلام الحريري لجريدة «الأخبار» قبل أن تصدر. هالهم أن تصدر جريدة لا يموّلونها.
ولقد فجّر جميل السيّد قنبلته مستفيداً ولا شك من الارتباك الحاصل في صفوف 14 آذار، ومن الخفّة وعدم الكفاية اللذين يحكمان أداء رئيس الحكومة الغائب (لكنه يجري اتصالات من يخته وهذا يكفي، على ما يفيدنا عقاب صقر الذي عانى الأمرّين في الأسبوعيْن الماضييْن). السنيورة، رغم مسؤوليّته عن التخاذل الرسمي وعن ربط لبنان بمصالح أميركا في عهد بوش وعن محاربة الفقراء وذوي الدخل المحدود في كل سنوات تبوّئه المسؤوليّة الوزاريّة، كان على الأقلّ مُمسكاً بملفّات الحكم ومُتابعاً لمجريات الأمور. تنعّمت المعارضة بوصول سعد الحريري. وإذا كان نيرون يوصم (عن خطأ إذ إن تأريخ مرحلة حكمه تعرّضت لتشويه) برؤية روما تحترق (مع أنه هرع إلى روما من قصره في «إنزيو» من دون حرّاس عندما بدأ الحريق في 18 تموز عام 64 م.)، فإن سعد الحريري هرب من البلاد في أوّل بادرة توتّر. رئيس حكومة لبنان غاب في سردينيا ولم يرجع يوم مواجهة العديسة، وغاب اليوم والبلد على كفّ عفريت. غاب سعد عن السمع مثلما غاب الماريشال للّو المرّ عن السمع أثناء عدوان تمّوز.
أمّا جميل السيّد، فلم يتعوّد بعد البعد عن السلطة، فهو لا يزال يتكلّم كمن يُمسك بناصية بعض من السلطة. تمتّع بنفوذ لحقبة طويلة ثم عاقبه حكم الحريري الانقلابي بعد اغتيال رفيق الحريري. لكن التعاطف مع جميل السيّد صعب: حقبة حكمه لم تكن ذهبيّة من ناحية الحريّات، ولكن من غير المُنصف الحكم عليه وتبرئة رفيق الحريري الذي شاركه الحكم وتعاون معه في أكثر من ملف. تستطيع أن تُعجب بحدّة ذكاء السيّد (وخصوصاً أن الذكاء صفة نادرة في النخبة السياسيّة الحاكمة في لبنان)، وتستطيع أن تقول إنه أكثر فاعليّة في الخصام السياسي وفي استفزاز الخصم من كل طيف 8 آذار السياسي الذي نجح فريق الحريري في وضعه في موضع الدفاع عن النفس منذ اغتيال رفيق الحريري. 8 آذار لا تحسن الهجوم، وجميل السيّد علّمها بعض الدروس في الهجوم فانتشت.
لكن إذا كنتَ (أو كنتِ) لا تنتمي إلى فريق 8 آذار أو 14 آذار، فماذا تقول؟ أولاً، لا تجوز المفاضلة بين فريقيْن طائفيّين حتى العظم. ثانياً، في مقياس المعاداة لإسرائيل، هناك أعوان لإسرائيل في الجانبيْن: فالحركة العونيّة تعاونت في سنوات الغربة مع عتاة الصهاينة في الغرب (الذين عادوا وتحالفوا مع «ثورة (حرّاس) الأرز») كما أن بعض حركة «أمل» تعاون مع الاحتلال الإسرائيلي وخاض معارك عداء ضد الشعب الفلسطيني مثل داود داود الذي قاد تظاهرات هتفت «لا إله إلا الله والفلسطيني عدوّ الله»). لكنّ فريقاً واحداً من الفريقيْن يتحالف جهاراً مع المحور الإسرائيلي منذ اغتيال الحريري، فيما ينتمي فريق 8 آذار إلى فريق مُمانع أو مُواجه أو رافض لإسرائيل ـــــ وإن بدرجات مُتفاوتة. وهنا المفاضلة جائزة.
لا شك بأن النظام الأمني الذي رُكِّب بعد اغتيال الحريري ظَلم ليس فقط الضبّاط الأربعة (الذين اعتُقِلوا لتسهيل عمليّة الاستيلاء العُنوي على السلطة) ظلم من الشعب اللبناني والفلسطيني ما ظلم. ويحق للسيّد أن يعترض وبقوّة على ما تعرّض له من ظلم، لكنه يجب ألا يتوقّع أن يتعاطف الشعب اللبناني كلّه معه. كان أحرى بالسيّد ألا يركّز في اعتراضه على المحكمة الدوليّة على مظلمته الشخصيّة لتسليط الضوء على خطورة المحكمة الدوليّة حيال الوضع اللبناني برمّته. لا يمكن السيّد أن يتوقّع من الذين عانوا الحقبة السابقة أن يبدوا تعاطفاً معه إثر تعرّضه لظلم في حقبة قمعيّة لاحقة. لكن الفريق الحريري لا يخلو من نفاق مفضوح في كل مواقفه: هم كانوا مع المرّ (الأب والابن) شركاء في الحقبة السابقة التي لم تستقِم من دونهم. يشير إعلام الحريري إلى مضايقة سمير قصير على يد جميل السيّد (وهو أمر لا يمكن إلا أن يُستنكَر) لكنه لا يذكر أن عدوّ حريّة الصحافة الأكبر في تلك الحقبة كان رفيق الحريري نفسه الذي حارب بالمال وبتطويع القانون وسائل الإعلام التي أبدت استقلالاً أو بدر منها انتقاد لشخصه هو.
من حق جميل السيّد أن يبدي عنجهيّة وتعجرفاً في وجه الطبقة السياسيّة التي تهينه اليوم، إذ إنه يذكرهم (وهنّ) وهم يتسكّعون على باب داره عندما تنعّم بالسلطة. لكن من واجبه أن يتواضع ـــــ وأن يتواضع كثيراً ـــــ بوجه الشعب اللبناني الذي لا يقيّمه فقط على حسن سرعة الإدارة في الأمن العام وعلى سرعة تجديد الجوازات بل على ممارسات القمع التي سادت آنذاك (والآن طبعاً). المحكمة الدوليّة كانت مشروعاً مشبوهاً منذ البداية وكان على حزب الله أن يعي ذلك باكراً، لكنه كان مشغولاً بنيل الثلث المعطّل. الـ«نيويورك تايمز» أكّدت أن فريق الحريري دخل في مفاوضات مع المحكمة الدوليّة لتأخير إطلاق الضبّاط الأربعة إلى ما بعد الانتخابات النيابيّة. إن مجرّد حصول المفاوضات يكفي لإزالة أي شك في تسييس المحكمة التي أنشئت بقرار محض سياسي، إلا إذا كان هناك من يصدّق أن الحزن على وفاة الحريري كان شديداً في مجلس الأمن إلى درجة أنه لم يكن هناك بدّ من تشكيل المحكمة. ثم، هل مَن يصدّق أن هدف المحكمة هو منع جرائم الاغتيال؟ وهل منعت المحاكم والعقوبات حول العالم الجرائم؟ لكن ثمّة أسئلة لم يجب عنها جميل السيّد. إذا كان يعرف أن رفيق الحريري قد استولى بالقوّة على الأملاك في وسط بيروت، فلماذا صمت عن ذلك عندما كان في السلطة وكان باستطاعته وقف هذه السرقة الموصوفة؟
أمّا محمد كبّارة، فقد اشتاق إلى أن يُعلن ترشيحَه غير الرسمي لقيادة منظمة القاعدة في حال وفاة أسامة بن لادن. لكن قراءة كبّارة كانت أسوأ من قراءة سعد الحريري لـ«بيانه» الوزاري. فتحوّل «أهل السُنّة» إلى «أهل السِنّة»، غير أن كبّارة يُعَدّ من الراسخين في شؤون التأجيج المذهبي، فلعلّه يعلم ما لا نعلم. كبّارة هذا أعلن العداء لحزب الله جهاراً. كاد أن يقول إن العداء لإسرائيل ما عاد بذي بال، على طريقة آل سعود. ثم هدّد بمطاردة الشيعة في كل مكان، فيما كان وديع حدّاد يطارد العدوّ الإسرائيلي في كل مكان.
يفتحون ثغورهم مدهوشين عندما يتحدّث أحدٌ عن «البيئة الحاضنة». براءة الأطفال في عيون آل الحريري وآل الجميّل، وخصوصاً عندما يسارعون للقول تحت أنفاسهم إن «إسرائيل عدوّ. وقد التقط عمّار حوري الإشارة: علم أن حديث أحمد الحريري عن تهديد «كرسي» رئاسة الوزراء هو كلمة السرّ. أشار عمّار حوري (المُبتسِم دائماً ـــــ وهذا إشارة الى التدريب الإعلامي الذي يخضع له كل أعضاء الفريق الحريري، ممّا يساعد طبعاً في الإطلالات الإعلاميّة، فيما يؤدّي الظهور الإعلامي لبعض قادة حزب الله، مثل نعيم قاسم، إلى إخافة الأطفال) إلى الطابع المذهبي لحزب الله. لم يسأله إعلام الحريري عن الطابع المذهبي لحزب آل الحريري. ثم أضاف الحوري كلاماً عن الهجوم على السنّة. طبعاً، إثارة الفتنة المذهبيّة جزء لا يتجزّأ من العقيدة الدينيّة ـــــ السياسيّة للحكم السعودي وقد مارسها بالدم على مرّ العقود، وليس فريق الحريري إلا التابع. رفيق الحريري أدخل سلاح الفتنة المذهبيّة بصورة قويّة عام 1998 بعدما أدرك أن المال الوفير والتدخّل السوري لمصلحته لا يكفيان لتدعيم زعامته. شنّ حملة مذهبيّة غير مسبوقة على سليم الحصّ، وكانت فعّالة. أذكر أنني رأيتُ سليم الحص آنذاك وكان مستاءً من الحملة لكنه أكّد حرصه على عدم النزول إلى هذا الدرك. وعى رفيق أن أرخص الأسلحة في لبنان هو أشدُّها فتكاً وفاعليّة. ما همّ لو أنه أشعل صراعاً في الشارع ما دام يضمن بقاءه على كرسي السلطة والشهوة.
هؤلاء يأتمرون بأمر واحد من الصحافيّين، بإمرة صغار الأمراء من آل الفتنة (سعود) في الرياض. طارق الحميّد يتحدّث باسم أكبرهم، ويهاتف السنيورة فيهبّ (من وصف الحميّد نفسه) مذعوراً ومنصاعاً. والكذب واختلاق الأوصاف جزء لا يتجزأ من ديدن إعلام الوهابيّة المتحمّس للفتنة منذ أن باشر محمد بن عبد الوهاب «جهاده» الإرهابي في حينه (ضد السنة والشيعة والآخرين). حذّر محمد رعد من «الفتنة» فقال الحميّد إن محمد رعد هدّد السنّة بالفتنة. لا رقيب ولا حسيب والعطاء بمثقال الكذب والتملّق.
وهناك جانب طريف في صفّ أعوان إسرائيل في لبنان (وهم الذين ينضوون في فريق حلف بوش في حرب تمّوز ـــــ لا تنفع المكابرة بعدما قدّم قادة في هذا الفريق درع الأرز إلى جون بولتون، وهو على يمين بوش وعلى يمين شارون). ما إن ينقضّوا على حزب الله لسبب ما، حتى يسارعوا إلى النيل من سلاح المقاومة أو حتى من ضرورة دعم المقاومة. أي إن هذا الفريق الظريف يودّ أن يقول إن الفريق الذي يقف متفرجّاً عندما تعتدي إسرائيل على لبنان يقدّم جميلاً لحزب الله عبر السماح له بالدفاع عن لبنان. أي إنه على حزب الله أن يكون ممتناً لفريق آل الحريري لأنه يسمح له بردّ عدوان إسرائيل وبتقديم أبنائه للدفاع عن الحدود. وعندما يغضب فريق آل الحريري، يقول إنه لا قدسيّة أو مشروعيّة للسلاح، أي إنه يطالب جهاراً بالاستسلام أمام إسرائيل، إلا إذا كانت استراتيجيا الحريري تعتمد حصراً على دموع السنيورة (الذي لم يتورّع عن وصفها بأنها أقوى من الصواريخ وهي تصل إلى الرياض وإلى تل أبيب وواشنطن) وعلى أكل الأفاعي من قبل الجيش اللبناني. وأكل الأفاعي الذي يندرج في إطار عروض الجيش اللبناني في مختلف المناطق اللبنانيّة يشكّل ضربة للقوة العسكريّة الإسرائيليّة. ما حاجة لبنان للمقاومة بوجود أكَلة الأفاعي؟
والطريف أن فريق الحريري يستولي على مقدّرات الدولة وينتهك سيادة البلد ويستعين بالخارج في كل صغيرة وكبيرة (على طريقة رفيق الحريري) فيما هو يصدح بشعارات الدولة والحضارة والسيادة. جيزيل خوري (وهي تحبّ السيادة حبّاً جمّاً) سألت على محطة صهر الملك فهد ضيفاً سعوديّاً إذا كانت السعوديّة «ستسمح» بإسقاط حكومة الحريري. مندوب الأمم المتحدة في لبنان يجول على الساسة ويعلّق على السجالات الداخليّة، فيما يستنكر الأمين العام للأمم المتحدة ما يُقال في لبنان. لو أن فريق الحريري يُصارح اللبنانيّين بالحقيقة لجاهر بأن خطته تقضي وضع لبنان تحت وصاية سعوديّة ـــــ إسرائيليّة مُشتركة (هل كان احتفاء «إم.تي.في» بالسلام هو من أجل السلام مع الكيان الغاصب، نسأل؟).
الدولة عند هؤلاء هي سيطرة عصابات الحريري على كل مقدّرات الدولة لأن الدولة لم تقم بعد الطائف. إذا كانت الدولة بمفهوم ماركس جهازاً من أجل قمع طبقة من قبل طبقة أخرى، فإن الدولة في لبنان قبل الحرب كانت من أجل قمع طوائف وطبقات أخرى. أما عهد الطائف، فقد استحدث دولاً تتعايش في الظاهر تحت علم واحد. لكل من الطوائف الثلاث دولة خاصّة بها، فيما يُوزّع الفتات وبقايا الطعام على ما بقي من طوائف.
تفكيك اللغة الكوديّة لفريق 14 آذار لا يحتاج إلى جهد. السيادة تعني إلحاق لبنان بالمحور السعودي ـــــ الإسرائيلي، والحضارة تعني تفوّق طائفة على أخرى (تماماً كما كان حزب الكتائب يستعملها قبل الحرب). لقد قاد تيري ـــــ رود لارسن انقلاباً شاملاً في لبنان بعد اغتيال الحريري، وسهّلت له طموحات نجيب ميقاتي مهمّته (كما أن نزق عمر كرامي وسرعة استقالته قدّما خدمة إضافيّة للانقلاب). لا إصلاح لهذا النظام، والإصلاح غير منشود لدى الطرفيْن معاً. كان اليسار الثوري يرفع شعار تغيير النظام بالقوّة (رفع جميل السيّد هذا الشعار لكنه أرفقه بمديح جزل لـ«شهامة الملك السعودي»، كيف تستقيم الثورة مع الوهّابيّة؟)، وليس هناك من يرفع هذا الشعار اليوم. حزب الله يتجنّب اللغة الطائفيّة لكنه أسير النفور الطائفي السائد، وأسير عقيدته وتركيبته الطائفيّة. صحيح أنه حاول أن يبني تحالفات خارقة للطوائف، لكن التحالف مع الأحباش كان حميماً جدّاً.
الحلّ؟ ليس من داخل النظام أو الطائف، بل عبر ضربهما معاً.
* أستاذ العلوم السياسيّة
في جامعة كاليفورنيا