رسم الموقف الأخير لوزير الخارجية السوري وليد المعلم من القرار الظني والمحكمة الدولية في اغتيال الرئيس رفيق الحريري، الثلاثاء 28 أيلول، ملامح التصعيد الذي ستشهده المرحلة المقبلة، بعدما أخرجت دمشق إلى العلن، لأول مرة، موقفها الصريح من القرار الظني والمحكمة. بذلك وجّهت، في هذا التوقيت بالذات، أكثر من رسالة إلى الداخل اللبناني، كما إلى الخارج، وإلى واشنطن من منبرها وعبر صحيفة أميركية، كي تشير إلى الطريقة التي ستقارب بها اندفاعتها الجديدة حيال هذين الاستحقاقين البالغي الخطورة والدقة.
تنطلق ملامح المرحلة الجديدة من معطيات أبرزها:
1 ـــــ بعدما اكتفت منذ عام 2005 بالتحفظ عن اتخاذ موقف سلبي من التحقيق الدولي، ثم من المحكمة الدولية، بقولها إنها غير معنية بكل منهما، نظراً إلى أن لا معاهدة بينها وبين الأمم المتحدة بإزائهما، وأن القضاء السوري يفصل وحده في أي اتهامات توجّه إلى سوريين بتورّطهم في اغتيال الحريري، وبعدما اكتفت بالتكتم عن موقفها من القرار الظني ما خلا المداولات العميقة التي كانت تجريها مع حليفها حزب الله حوله والإعداد لخطة مواجهته، جهرت بمعارضتها للمحكمة والقرار الظني على السواء. وهي إذ تنظر ـــــ كحزب الله ـــــ إلى القرار الظني على أنه جزء من المشكلة الأم التي هي المحكمة الدولية، فإن انخراطها العلني في المواجهة بات يتجاوز القرار الظني إلى العمل على تقويض المحكمة الدولية. بدأت الخطة بمحاولة تفكيك المحكمة قطعة بعد أخرى، بدءاً بالقرار الظني، مروراً بشهود الزور، بيد أنّ السهام أصبحت، منذ الآن، مصوّبة إلى المحكمة.
2 ـــــ في وقت مبكر، أبلغت دمشق إلى حلفائها الدائمين وحلفائها العائدين موقفها من قرار ظني يتهم أعضاءً في حزب الله باغتيال الرئيس الأسبق للحكومة، وعدّت هذا الاتهام استهدافاً مباشراً للمقاومة وسلاحها، وتالياً استهدافاً مماثلاً لها، رغم تراجع التحقيق الدولي عن اتهامها بما شاع عام 2005 من أنها هي المتورّطة في اغتيال الحريري. وبناءً على موقفها هذا، حدّدت حدود التحالفات الجديدة وأخصّها مع رئيس الحكومة سعد الحريري ورئيس الحزب التقدّمي الاشتراكي النائب وليد جنبلاط الذي سبق الحريري إلى التوجس من القرار الظني قبل انفتاحه على سوريا، بعد ساعات قليلة على صدور مقال دير شبيغل في 24 أيار 2009. ثم انضم الحريري بخجل وبطء إلى التوجس نفسه، من غير أن يذهب مذهب الزعيم الدرزي في رفض علني للقرار الظني. وإلى الآن لم يرفضه.
إلا أن الرئيس السوري كان قد تحدّث عن القرار الظني بوضوح لا لبس فيه في القمة التي جمعته بالعاهل السعودي الملك عبد الله في دمشق، في 29 تموز.
يومذاك قال عبد الله للأسد إنه سيبذل قصارى جهده لتأجيل صدور القرار الظني بضعة أشهر. كان ردّ الرئيس السوري أن المطلوب ليس تأجيلاً لبضعة أشهر لا تحل المشكلة، بل لأمد غير منظور.
عنى بذلك إلغاء القرار الظني.
3 ـــــ توافرت لدى دمشق، كما لدى حزب الله، معلومات كافية عن إخفاق المسعى السعودي لتأجيل طويل الأمد للقرار الظني، ترافق مع إشارات التقطها الطرفان من أكثر من مصدر، وجّهت الاهتمام من سبل معالجة القرار الظني والحؤول دون إصداره إلى استكشاف مرحلة ما بعد صدوره. كان المظهران الأبرز في ذلك ما سمعه في 22 أيلول مسؤول العلاقات العربية في الحزب الشيخ حسن عز الدين من السفير السعودي علي عواض عسيري، ثم ما سمعه أيضاً بعد يومين، في 24 أيلول، من القنصل العام في السفارة المصرية أحمد حلمي، وتمحور حول السؤال الآتي: ماذا سيحصل بعد صدور القرار الظني؟
عَكَسَ السؤال ما يشبه اليقين بأن القرار سيتهم أعضاءً في حزب الله باغتيال الحريري الأب، ومحاولة استطلاع ردّ فعل الحزب حياله. تزامن ذلك أيضاً مع مواقف أميركية وأخرى مصرية تمسّكت بدعم المحكمة الدولية وإحقاق العدالة. ضاعفت ردود الفعل هذه خيار دمشق وضع المواجهة مع المحكمة على نار حامية.
4 ـــــ يبدو الرئيس السوري أكثر اطمئناناً إلى اقتراب العراق من تذليل العراقيل أمام تأليف حكومة نوري المالكي التي تحظى بدعمه وإيران، وتحفظ له السيطرة على الحصة السنّية فيها. ويتحدّث بعض المعلومات عن أن الزيارة المرتقبة للأسد لطهران مطلع الأسبوع المقبل، ترمي إلى وضع اللمسات الأخيرة على تأليف الحكومة العراقية الجديدة، بعدما نجح الرئيس السوري في استيعاب تناقضات التنافس بين المالكي وإياد علاوي، الأمر الذي سيتيح له الالتفات إلى الداخل اللبناني للمضي في معركة المواجهة مع المحكمة الدولية.
والواقع أن دمشق باتت الآن أكثر استعداداً للتمييز بين موقفها القائل بوقوفها على مسافة واحدة من الأفرقاء اللبنانيين في نزاعاتهم على الملفات الداخلية وإدارة شؤون الحكم، وبين تصرّفها على أنها فريق مستهدف في المواضيع الاستراتيجية كالتهديد الذي تمثله لها ولحليفها القويّ حزب الله المحكمة الدولية. لن تقف عندئذ على الحياد، ولن تتردّد في خوض المواجهة. كان كلام المعلم إنذاراً أول إلى استدارة مختلفة حيال السباق المحموم بين مَن ينتظر القرار الظني، ومَن يريد الحؤول دون إصداره.
5 ـــــ طابق كلام الوزير السوري ما قاله النائب سليمان فرنجية الأسبوع الماضي بعد يومين من مقابلته الأسد، وما كان قد قاله جنبلاط أيضاً غداة زيارته الرئيس السوري في 4 آب. كلا الزعيمين، الماروني والدرزي، بمفردات مختلفة لرسالة واحدة مباشرة، خشيا من قرار ظني يقود إلى حرب أو إلى فتنة. بالتأكيد لم يلقَ كلام المعلم ردّ فعل مشابهاً من الحريري أو من تيّار المستقبل. ومن المرجح أن لا أحد يتوقع من رئيس الحكومة رداً على الوزير السوري، الذي حمل في موقفه رسالة واضحة من الأسد إلى أن سوريا أصبحت ـــــ أو تكاد ـــــ في قلب المواجهة الجديدة.
يشير ذلك إلى امتحان صعب سيواجهه الحريري: لا يسعه رفض الموقف السوري الجديد من نعت المحكمة بالمسيّسة والتوجس من عنف سيسببه القرار الظني، كي لا يتهم بخروجه عن الالتزامات التي قطعها للأسد بعد المصالحة مع سوريا بإرساء علاقات مميّزة بين البلدين وحماية المقاومة. ولا يسعه أيضاً الموافقة على كلام المعلم الذي يؤول إلى إرباك الحريري أمام تيّاره وقاعدته الشعبية وحلفائه. إذ لا يعدو اتخاذه موقفاً مناهضاً للقرار الظني قبل صدوره، على غرار ما قاله حزب الله وجنبلاط وفرنجية وقالته سوريا، إلا إعلان خروجه من المحكمة.
6 ـــــ يضع موقف وزير الخارجية السوري المعادلة التي أطلقها رئيس الحكومة وتيّار المستقبل، وهي التشبّث بالمحكمة والاستقرار في آن واحد، أمام المأزق. شأن حزب الله، أورد المعلم معادلة معاكسة، بل مناقضة تماماً لتيّار المستقبل: المحكمة والقرار الظني ضدان لا يقودان إلى الاستقرار، بل إلى الحرب. كان حزب الله قد أرسل الإشارة الأبلغ إلى هذه المعادلة في 18 أيلول، لدى تبنيه في المطار استقبالاً شعبياً للمدير العام السابق للأمن العام اللواء الركن جميل السيّد، اختلط فيه الأمن بالسياسة. بيد أن هذا التحرّك حصل بالتنسيق المسبق بين الحزب والأجهزة الأمنية المعنية في المطار.
فحوى هذه الرسالة أنها انبثقت أولاً من قرار مدروس ومتعمّد اتخذ على أرفع مستوى في قيادة حزب الله، وأنها قرنت التحرّك الأمني بالموقف السياسي كي يقول الحزب إنهما توأمه، عندما يكون في مواجهة تحد يعرّض المقاومة وسلاحها لتهديد مباشر على نحو ما حدث في 5 أيار 2008. لم يُصغَ حينذاك إلى إشارات طابقت بين الأمن والسياسة، بمقدار ما رمى الاعتصام في وسط بيروت إلى إظهار وجه آخر لموقف سياسي رافض.