يصرّ الرئيس سعد الحريري على زيارة دمشق جواً لا براً، فلا يختبر عملياً ما لم يدرسه في الأصل نظرياً (بحكم نشأته في السعودية) في كتب الجغرافيا بشأن مجاورة لبنان وسوريا، ولا يلحظ التفاصيل الكثيرة بشأن تنامي القوة الاقتصادية لسوريا، في السنوات العشر الماضية، الذي يترجم على يمين الأوتوسترادات ويسارها: مدناً تعليميّة وأخرى صناعيّة، عواصم جديدة تزاحم العواصم القديمة، مشاريع زراعية وأخرى بترولية وشركات عابرة للحدود تغزو البلاد. وبحكم انشغال الحريري بالقضايا الكبرى، تغيب عنه تفاصيل العلاقة التي لا تجمع الرئيس السوري بشار الأسد بالأمين العام لحزب الله حسن نصر الله فقط، بل الشعب السوري بمجمله بالأمين العام نفسه، فبحكم ضيق الوقت ربما لم يتسنّ للحريري سماع السوريين يتحدّثون عن نصرالله ولا رؤية صور السيّد «تزيّن» السيارات وواجهات المحال، فضلاً عن أن إيمان «الشيخ سعد» بعظمة «لبنان أولاً» يجعله يصدق أن دمشق ستخسر حليفها الاستراتيجي الأكبر، الذي أمّن لها بانتصاره في حرب تموز انتصاراً على مخطط عزلها، لا لشيء إلا لإسعاد فارس سعيد ودغدغة فارس خشّان. ومن مشاكل الحريري الإضافية في تعامله مع السوريين، أنه لا يقرأ ما يكتبه مثقفو هذا الشعب، وقول أدونيس مثلاً في مجلة «فكر» إن الأرض التي ينتمي إليها، مثل الطبيعة: القديم فيها جديد أبداً. في وقت يستدل فيه من النقاشات السورية ـــــ السورية بشأن سعد الحريري، أن من ركّب الزجاج العازل لسيارات الأخير، خدعه؛ فهو يعجز عن رؤية ما يحيط بسيارته، فيما يرى السوريون بوضوح كل ما في السيارة.
هذه الرؤية تسمح للمقرّبين من الرئيس السوري بشار الأسد بأن يقولوا إن الحريري الابن سقط في جميع امتحانات بناء الثقة، وهو ضيّع فرصة وراثته رفيق الحريري. هنا ينتقل الحديث بسرعة إلى صيغة الماضي: في لحظة سابقة، كانت سوريا مندفعة لإنجاح الحريري الابن، سهلت حصوله على الأكثرية، استقبله الرئيس السوري بشار الأسد رغم تحفظات معظم المحيطين به، تلاقت فوق رأسه يدا الرئيس السوري والملك السعودي لتباركاه، وضغط الأسد على أصدقائه اللبنانيين ليضمن تأليف الحريري حكومة وحدة وطنية. في المقابل،لم يتصرف الحريري في الحكومة، بحسب التقويم السوري له، كرئيس حكومة وفاق وطني، فعطّل في مجلس الوزراء كل ما لا يعجبه عبر لعبة تأليف اللجان (التي لا يجاريه فيها براعة إلا الوزير زياد بارود)، ولم يسعَ وراء تشكيلات تحظى بالإجماع الوطني، وبدل الاستفادة من التقارب السعودي ـــــ السوري بدأ «النق» على السعوديين وتكبير بعض القضايا الصغيرة في محاولة منه لتأزيم العلاقة السعودية ـــــ السورية في لبنان أيضاً. إضافة إلى تغطيته، بالرغم من أنه رئيس حكومة وفاق وطني، للمؤامرة الجديدة على حزب الله وذهابه في «الوقاحة» إلى حد إقناع القيادة السورية بمساعدته في هذا الأمر. يذكر هنا، أن القيادة السورية فتحت قبل حرب تموز أبوابها للنائب فؤاد السنيورة، لكن سرعان ما عادت وأقفلتها إثر الحرب نتيجة ما اعتبرته، بأفضل الحالات، تلكؤاً في حماية حزب الله. هكذا، يصل المعنيون بمتابعة الملف اللبناني في دمشق إلى حد التأكيد أن سعد الحريري في أدائه الحكومي ومحاولات اللعب على التناقضات والهرب إلى الأمام والتذاكي يثبت أن فؤاد السنيورة هو مثاله الأعلى، لا رفيق الحريري. بناءً على ذلك، فإن القيادة السورية بدأت معاملته باعتباره فؤاد السنيورة، لا رفيق الحريري. وهي ماضية في هذا الأمر تحت شعار «تعزيز العلاقات الرسمية بين البلدين». هذا الأمر يعني أن العلاقة منقطعة بالكامل: رئيس الوزراء السوري ناجي العطري، لا الرئيس السوري بشار الأسد، في انتظار سعد الحريري إذا رغب في زيارة الشام. مستشارة الرئيس السوري الوزيرة بثينة شعبان ستواظب على عدم الرد على الاتصالات الهاتفية لنادر الحريري، فيما لا عمل لوسام الحسن في ريف دمشق. وبعد إحجام الحريري عن إيفائه بالوعود، لن يكون باستطاعة الأسد مساعدته في إدارة شؤون بلده كما يدأب على الطلب منه، وعلى الحريري بالتالي الاستنجاد بغير الأسد (رمي السعوديين والسوريين الكرة في ملعب اللبنانيين يشير إلى انهيار مبادرة السين ـــــ سين التي استدعت عقد قمة ثلاثية في قصر بعبدا). في النتيجة، يبدي السوريون أسفاً لخيار سعد الحريري، ويؤكد هؤلاء أن الرئيس الأسد أسكت كل الأصوات المشككة بصوابية استقبال سعد الحريري وتكريمه بعد كل ما قاله وفعله، وقدم الرئيس الأسد ضماناته، معتبراً أنه قادر على بناء الثقة، ليفاجأ كثيراً لاحقاً. ويروى في هذا السياق أن الرئيس رفيق الحريري في لقائه الأول مع الرئيس بشار الأسد، فهم تواضعه ضعفاً ولطفه جبناً فأساء في أحد مجالسه الكلام بحق الرئيس السوري، لكن، وبسرعة استثنائية، فهم رفيق الحريري أنه أخطأ التقدير فغيّر كثيراً في تعامله مع الرئيس السوري ونظرته إليه. بينما «الشيخ سعد» لا يظهر أي تفهم لطبيعة النظام السوري وأي فهم لثوابت هذا النظام وأولوياته في لبنان.
وفي موضوع الوعود، يشرح أحد المطلعين أن الأهم من تعهد الحريري التصريح لصحيفة الوطن السورية هو تعهده بالإيعاز إلى الأجهزة الأمنية والقضائية بملاحقة شهود الزور الذين تحدث عنهم، ما لم يف به أيضاً، وهو الأساس للقيادة السورية التي يهمها المضمون لا الشكل. وفي هذا السياق، خلافاً للتضارب في مواقف أفرقاء المعارضة السابقة، ثمة جزم سوري بضرورة نزع غطاء الشرعية اللبنانية عن المحكمة الدولية، تمهيداً لنزع الشرعية الدولية عنها، لا العمل لتأجيل القرار الاتهامي لأن التأجيل يعني إبقاء الأوضاع في توتر مستمر في بيروت. وفي هذا السياق، يسود اطمئنان في دمشق إلى أن موعد الحرب المذهبيّة الشيعيّة ــ السنيّة في المنطقة لم يحن بعد.
بموازاة القطيعة المستجدّة بين الحريري والأسد (الاتصال الأخير أجراه الأسد بالحريري قبل نحو ثمانية أيام، فيما تندرج زيارة السفير السوري للحريري أول من أمس في سياق العلاقات الطبيعية بين دولتين) ثمة تعويل سوري على اكتمال الانتقال الجنبلاطي إلى الموقع السياسي القديم ـــــ الجديد. وبحسب المعلومات، هناك شخصان يستحقان المتابعة بدقة في هذين الأسبوعين هما جنبلاط والرئيس ميشال سليمان (مع بعض التحفظ على موقف سليمان إثر نشره التوضيح الأخير)، ويفترض أن يرسما بمواقفهما خريطة طريق إنقاذية للمترددين والقلقين على تفجر الأوضاع في لبنان. وسط معلومات عن ترقب السوريين تطور الموقف الجنبلاطي ـــــ السليماني ليصل إلى حد إبلاغ الحريري أنهما حاولا معه ولم يقتنع، ولا يستطيعان بالتالي تحميل ضميرهما أي مسؤولية جراء موافقتهما على ما سيحصل، سواء أكان تغيير حكومة أم تعديل قرارات أم تأليف حكومة جديدة. في هذا السياق، ثمة حسم سوري بأن سعد الحريري لن يجد أحداً يصفق معه لقرار اتهامي يتهم حزب الله باغتيال الرئيس رفيق الحريري إلا بعض السلفيين وسمير جعجع والياس عطا الله.
ختاماً، ثمّة انطباع في دمشق بأن الحريري هو غير والده؛ الرجل الذي يتعامل مع إعلامه وتياره بمنطق رجل الأعمال يكرر الخطأ نفسه في علاقاته السياسية، وخصوصاً مع دمشق، فيما «القديم في سوريا جديد أبداً»، وللبلد المجاور ثابتة أساسية: حماية حزب الله ـــــ الحزب الذي حمى سوريا وقطع الطريق على الشرق الأوسط الجديد الذي لا مكان فيه لبشار الأسد، وعدم التساهل مع المتآمرين عليه.
حزب الله وسباق المئة متر
يتوقف المسؤولون السوريون في نقاشاتهم عند نقطة لافتة هي عدم رؤية معظم اللبنانيين أبعد من أنوفهم أو عدم وجود أي تخطيط بعيد المدى. ويروي أحد المسؤولين في هذا السياق أن الرئيس بشار الأسد الذي كان يتابع الملف اللبناني عام 1998 اعتقد أن اختيار الرئيس إميل لحود لسليم الحص لرئاسة الحكومة سيلقى ترحيباً كبيراً من اللبنانيين لأنه «سيشدّ أحزمتهم» سنتين يرتاحون في نهايتهما من جزء كبير من الدين العام، لكنه سرعان ما فوجئ بموقف اللبنانيين في انتخابات الألفين، وفهم طبيعة اللبنانيين. بحسب المسؤولين أنفسهم، ربح اللبنانيون ورقة يانصيب بعيدة المدى اسمها المقاومة، لكن رغبة بعض السياسيين بالربح السريع تجعلهم يهرولون لبيع حزب الله. ووفقاً لأحد المسؤولين الدمشقيين، فإن الحزب في السنوات القليلة الماضية كان يتمسك بطريقته في العمل الاستراتيجي البعيد المدى، ما أفقده القدرة على المبادرة في السياسة المحلية اللبنانية، لكن أخيراً تغيّر الوضع، فهم الحزب أن عليه التمتع ببعض المرونة والسرعة في العمل المحلي، وهو بدأ منذ عدة أشهر العمل على الطريقة اللبنانية، وسيظهر لخصومه أن من يفوز بسباقات الثلاثة آلاف متر قادر على الفوز بسباق المئة متر.