منح الغرب والولايات المتحدة وإسرائيل بمواقف علنية منددة ومحذرة من الزيارة، الفرصة للدكتور احمدي نجاد ليكون تحت الأضواء لأيام عدة، ويقدم مطالعته ورؤيته لمسار الأحداث في الشرق الأوسط، ويحظى بدعاية مجانية لمواكبة هذه المواقف وترقبها ونشرها وتعميمها على مساحات من الرأي العام، لم يكن لها فرصة بلوغها لولا هذه الأضواء.
السياق المبرمج من الزيارة لم يحظ ولن يحظى بفرصة التحليل والتوقف، سواء ما يتصل منه بالتعاون الثنائي اللبناني الإيراني في مجالات الطاقة والتبادل التجاري، أو ما يتصل ببناء جسور التواصل الشخصي والدبلوماسي والرسمي بين قيادات البلدين، وقد كان هذا الشق من الزيارة ناجحا بامتياز.
كانت الرسالة شديدة الوضوح هنا: «العقوبات والحصار لا يغيران من استعداد إيران للمساهمة في تخفيف أعباء أزمة الطاقة، ومواردها، التي يعانيها لبنان، والحسابات العقائدية والمذهبية والقومية والطائفية ليست عاملا محركا، في تحديد النظرة الإيرانية لبلد التعدد بامتياز»، فلبنان التعدد هو المنشود وهو المرغوب حسبما أكدت الكلمات المدروسة بعناية للرئيس نجاد، والعلاقات الإيرانية اللبنانية تنطلق من هذا الاعتبار لتعميق التواصل وتعزيز شبكات الأمان الحامية للتعدد اللبناني.
بقي المشهد الرئيس الذي استقطب الاهتمام هو الجانب السياسي المتصل بالصراعات الكبرى التي تعصف بالمنطقة، والتي قدمت الدعاية الخارجية للرئيس نجاد فرصة ذهبية لعرض أفكاره ونظرته لمستقبل هذه الصراعات، ومن خلاله تصورات القيادة الإيرانية لكيفية الإسهام في ملاقاة هذه الصراعات والإسهام في صناعة هذا المستقبل.
تركز خطاب الرئيس نجاد على رسم معادلات محسوبة بدقة، لم يخفف من دقتها الطابع الحماسي الذي رافق بعض نبرات الخطاب في حضور الحشود الشعبية، ولا بهتت جرأته في المناسبات الرسمية والأكاديمية، بدا واضحا أن الرئيس الإيراني مدرك تماماً لمكانة بيروت وحساسيتها وما يمكن أن تقدمه من منصة إعلامية فريدة لضيوفها، منذ استقبالها للقائد الروماني ثيوس الذي قال لرفاقه: تعالوا نذهب إلى بيروت نحتفل بنصرنا، فعندما نعلن نصرنا في بيروت سيعلم العالم كله أننا انتصرنا.
وفي بنت جبيل كان واضحا أن خطاب النصر الثاني هو الذي يطلقه الرئيس الإيراني بعد خطاب النصر الأول الذي أطلقه السيد حسن نصرالله العام 2000، فالرئيس نجاد جاء يعلن طلائع النصر على المشروع الأميركي في المنطقة، بعدما كان إعلان السيد نصرالله لطلائع النصر على المشروع الإسرائيلي.
في خطاب النصر المتكرر بمصطلحات متعددة كانت المضامين متلازمة وواضحة حول ثلاثة أبعاد:
الأول: أن هذا النصر استراتيجي ولا عودة لعقارب الساعة إلى الوراء، فقد نضبت الموارد المعنوية والمادية والأخلاقية التي يمكن بوساطة إعادة ضخها، إنعاش المشروع الأميركي الإسرائيلي المترنح، وأن هذا النصر تقوده جبهة نواتها تفاهم إيراني -سوري -تركي يقف العراق ولبنان على جناحيها النسبي والمطلق.
الثاني: أن حلف النصر هذا ليس حلفاً عقائدياً ولا دينياً ولا مذهبياً ولا قومياً، وهو متعدد الهويات والانتماءات من هذه الزوايا كلها، بل هو حلف قوى الاستقلال في هذه المنطقة، وهو بهذا المعنى حلف نابع من تطلعات الشعوب بممارسة السيادة على مواردها ومصائرها، كما هو نابع من بلوغ الإرادة السياسية للدول الفاعلة في المنطقة مستوى من حسن الإدارة للموارد ما يجعلها في مصاف الدول الكبرى، تكنولوجياً كما هو حال إيران، واقتصادياً كما هو حال تركيا، وقدرة على إدارة الاستقرار وصناعة المعادلات في حالات الصراع والتفاوض كما هو حال سورية، وهذا الحلف ماض في خيار البناء وليس المقاومة فقط، وهو ماض في التحول إلى قوة اقتصادية سياسية تكنولوجية صاعدة تستقطب المزيد من دول المنطقة الراغبة بالنمو والمؤمنة بحق الاستقلال.
الثالث: إن حلف النصر لا يتطلع إلى تحويل التغيير المتصاعد لحسابه في المنطقة إلى تغيير في توازنات المنطقة التقليدية، سواء ما يتصل بدور الكيانات ووحدتها أو ما يتصل بالتوازنات بين الطوائف والمذاهب والقوميات، بل على العكس يدرك حلف النصر أن المنطقة تتعرض إلى خطر العبث بتوازناتها في لحظة انتحارية لقوى المشروع الذي يترجل عن صهوته مهزوما، ولهذا تعير قوى حلف النصر عناية خاصة لتأكيد حرصها وتمسكها بمراعاة التوازنات الكيانية والقومية والطائفية والمذهبية، وتدعو الآخرين إلى عدم الوقوع في خديعة وأوهام صناعة الصراعات والفتن من جهة، أو خديعة حل القضية الفلسطينية بما لا يستجيب للحد الأدنى من مقومات الحق الفلسطيني من جهة أخرى، وتمد قوى حلف النصر يدها لكل هؤلاء لتقول لهم، مكانكم معنا على ضفة النصر فلا تقفوا على ضفة الهزيمة.
بهذه الأبعاد رسم الرئيس نجاد من بيروت خطاب الخريطة الجديدة للجغرافيا السياسية المقبلة للشرق الجديد، وبهذه المعاني كان من يفترض انه رمز التطرف لهذا الحلف في قمة الاعتدال كما وصفه من يفترض أنهم غلاة القلقين والخائفين.
شهادة جانبية قالها احد المخضرمين بعد الزيارة، إذا كان مأخذ بعض العرب على سورية هو علاقتها بإيران، فهل سيشكل خطاب الانفتاح الإيراني مدخلا لشهادة واجبة لحكمة واستشراف الرؤية السورية كما في الحالة التركية؟ وليس خافيا ان النسيج التركي الإيراني الثنائي نفسه صناعة سورية إلى حد كبير؟
قمة تركية- إيرانية- سعودية -مصرية- سورية ربما تكون وصفة خلاص من الفوضى التي تنتظر المنطقة، ونقطة انطلاق لمواجهة استحقاقات الساحات الساخنة في فلسطين ولبنان والعراق، بقدر ما هي حجر الأساس لنظام إقليمي جديد يدير المصالح والتوازنات في المنطقة، ويكرر ما قاله الرئيس الراحل حافظ الأسد للرئيس الأميركي السابق جيمي كارتر مع تعثر مساعي السلام قبل ثلاثين سنة: «إن واشنطن العاجزة عن جلب إسرائيل لسلام شامل وعادل يجب أن ترتضي التعامل مع نظام إقليمي من دون إسرائيل، يكفل الاستقرار في أكثر مناطق العالم تعرضاً للاهتزازات والزلازل».
المشكلة هي أن العقدة كي تصبح أمريكية يجب أن تكف عن أن تكون عربية أولا.