لم تعد المشاكل التي تواجه مكتب بيروت في قناة «الجزيرة» خافية على أحد. كذلك لم تعد الخلافات بين أعضاء المكتب الواحد، وخصوصاً بين مدير المكتب غسان بن جدو ومراسل المحطة عباس ناصر سرّاً. خرجت في الأيام القليلة الماضية أخبارٌ تؤكّد أن ناصر يتّجه إلى الاستقالة من عمله في الفضائية القطرية، فيما تقترح إدارة المحطة في الدوحة نقله إلى عاصمة عربية أخرى تفادياً للصدام المستمرّ بينه وبين بن جدّو.
وإن كانت المشاكل قد تأخّرت في الظهور إلى العلن، إلا أنّها تعود إلى سنوات، وتحديداً إلى عام 2007. يومها، بدأت التوترات تظهر بين بن جدو وناصر. وتزامنت مع تلقّي المراسل اللبناني عرضاً مغرياً من قناة «بي بي سي» البريطانية للعمل في مكتب بيروت، فقبل ناصر العرض، وقدّم استقالته من المحطة الأشهر في العالم العربي، ووقّع العقد مع القناة البريطانية.
لكن فجأة عاد ناصر إلى «الجزيرة»، وقيل إنّه فسخ عقده مع «بي بي سي». تعدّدت يومها التفسيرات، لكنّ مقرّبين من مكتب بيروت قالوا وقتها إن أمير قطر اتّصل بناصر وطلب منه البقاء في المحطة. وافق ناصر عارضاً شروطه وهي: تحوّله إلى مراسل أوّل في المكتب، وحصوله على منصب نائب المدير في بيروت، إلى جانب إظهار هذه الترقية على الشاشة، أي إرفاق اسمه على الهواء بلقب «مراسل أوّل» (Senior). قبلت إدارة الدوحة بالشرطين الأولين، فيما رفضت إظهار الترقية على الشاشة. وهكذا كان، عاد ناصر إلى المكتب، واستمرّ العمل عادياً، لتعود الأوضاع وتتفجّر بعد عودة ناصر من أسطول الحرية (في حزيران/ يونيو الماضي)، وقد بدا ذلك واضحاً حتى للمشاهد. من منّا لا يذكر كيف حصل تضارب في معلومات ناصر وبن جدو عند زيارة الملك السعودي والرئيس السوري للبنان؟ كل هذه الخلافات دفعت بعضهم إلى القول إن الخلاف ابتعد عن أطره المهنية ليصبح خلافاً شخصياً. وتقول مصادر مطّلعة على أوضاع المحطة إنّ ناصر كان يتجاهل بن جدو ويتعاطى مباشرة مع مكتب الدوحة، فيما تقول مصادر أخرى إنّ مدير المكتب عمد إلى تهميش ناصر والتقليل من أهمية عمله. ويستشهد هؤلاء بغياب ناصر الكلي عن تغطية زيارة الرئيس الإيراني للبنان أخيراً. وبين هذا الرأي وذاك، بدأت المشاكل تؤثّر على باقي العاملين في المكتب، فاعتكفت المراسلة بشرى عبد الصمد ستّة أشهر، مشيرةً إلى أن الصلاحيات التي أعطاها مكتب الدوحة لناصر غير محقّة.
وفي ظلّ هذه الأجواء المتوتّرة، اختارت إدارة القناة بداية شهر رمضان الماضي لإرسال لجنة تحقيق مؤلّفة من ثلاثة إداريين إلى مكتب بيروت للبحث في حقيقة الخلاف. وبعد انتهاء اللجنة من تحقيقاتها، تقرّر سحب الامتيازات التي أعطيت لناصر في عام 2007، واتُّهم بتهديد زملائه، إلى جانب اتخاذ قرار بنقله إلى مصر لتغطية الانتخابات التشريعية ثمّ إلى السودان، على أن يتقرّر لاحقاً مصيره. وقد علمت «الأخبار» أنّ هذا التقرير لم يعجب ناصر الذي وجده مجحفاً بحقه، فقدّم طعناً به، وهو حالياً ينتظر الردّ على هذا الطعن، وإلا فسيقدّم استقالته من المحطة. وينتقد مقرّبون من ناصر السياسة المتّبعة تجاهه حالياً، إذ إنّه لا يظهر على الهواء رغم مداومته يومياً في مكتب بيروت.
لكن ما هي خلفية الصراع بين ناصر وبن جدو؟ هل هي المواقف السياسية، وخصوصاً أنّه تردّد منذ فترة أن ناصر أصبح مقرّباً من 14 آذار، وهو ما أغضب بن جدو وإدارة الدوحة معاً؟ أم أنّ طموحات المراسل اللبناني المهنية داخل المكتب لم تعجب بن جدو؟ ولماذا تدهورت فجأة العلاقة التي جمعت الصحافيَّين اللذين جمعتهما صداقة في مكتب «الجزيرة» في إيران قبل قدومهما إلى بيروت؟
في اتصال مع «الأخبار»، أعلن ناصر أن الخلاف بينه وبين جدّو «شخصي وترجم بممارسة ضغوط غير مهنية عليّ داخل المكتب». ويضيف أنه حتى الساعة لم يقدّم استقالته. وعند سؤاله عن حقيقة ما تردّد عن أنّ خلفيات الخلاف سياسية، أبدى استغرابه، مؤكداً أن خطّه «الداعم للمقاومة معروف في الماضي وحتى اليوم». أما مدير مكتب «الجزيرة» في بيروت، فيلتزم الصمت كما فعل منذ بداية الخلافات. لا يرغب بن جدو في اتصال مع «الأخبار» التعليق على ما يجري في هذه القضية بالذات، والعاملون في مكتب بيروت يلتزمون السياسة ذاتها. لكن الجو العام في مكتب بيروت ينحاز إلى موقف بن جدو، إذ يرى بعض من واكب الخلافات أن ناصر «لم يوفّق بحساباته ولعب اللعبة الخطأ بمعاداته لأحد أبرز المديرين في القناة القطرية، وخصوصاً أن بن جدو منحه أكثر من فرصة لتصحيح مسار العلاقة».
قد تكون سحابة صيف تمرّ على «الجزيرة» في بيروت كما يحدث في معظم المؤسسات الكبرى. لكن المؤكّد أنّ المحطة القطرية قد تخسر أحد أبرز صحافييها الميدانيين الذين صنعوا تميّزها في حادثة أسطول الحرية وقبلها في عدوان تموز ومحطات كثيرة أخرى.
خضّات متلاحقة
يربط بعض المراقبين بين المشاكل التي تواجه مكتب بيروت، والخضات المتلاحقة التي شهدتها «الجزيرة» في الفترة الأخيرة: من اعتكاف عدد من المراسلين البارزين في المحطة ثم استقالتهم مثل حافظ الميرازي، وميشال الكيك، وحسين عبد الغني، وصولاً إلى استقالة مجموعة من المذيعات اللواتي واكبن انطلاقة «الجزيرة»، وهنّ جمانة نمور (الصورة)، ولونا الشبل ونوفر عفلي ولينا زهر الدين، مروراً ببعض التغييرات الإدارية التي حصلت في مكاتب الدوحة. وتقول مصادر مطّلعة على أجواء الفضائية إنّ إدارة «الجزيرة» تتصرّف بذهنية أنّ المؤسسات الإعلامية تدار بحزم وبقرارات صارمة، فيما يرفض أي إعلامي التعاطي معه على هذا الأساس