ما قاله رئيس الاستخبارات العسكرية «الإسرائيلية» عاموس يادلين قبل ايام لمناسبة انتهاء ولايته على رأس جهاز «أمان» وتسليم خلفه، في ما يشبه جردة حساب لما قام به ذلك الجهاز، إنما هو اعتراف صريح بمسؤولية المخابرات «الإسرائيلية» عن كل ما ذكره لا سيما حيال اغتيال من وصفه بـ»الساحر»، الاسم السري الذي أطلقته على القائد العسكري في المقاومة عماد مغنية. إضافة الى ما ذكره حول الفائدة التي حققتها الدولة العبرية من خلال اغتيال رئيس الحكومة الاسبق رفيق الحريري في بيروت عام 2005 ليشكل ذلك قرينة تضاف الى جملة القرائن التي قدمها الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصرالله حول فرضية ضلوع «إسرائيل» في ذلك الاغتيال الذي كان يراد منه تغيير وجه المنطقة ضمن خطة سميت في حينه مشروع «الشرق الأوسط الجديد».
ما كشفه يادلين حول اغتيال مغنية والحريري يطرح سؤالين مباشرين،
السؤال الأول: يتعلق بالرد الموعود على جريمة اغتيال الحاج عماد، والتحقيقات التي توصلت اليها الجهات المحققة، إن في دمشق او ما يتصل بها، خصوصا بعد الكثير الذي نشر سابقا في وسائل الإعلام، وتمت الإشارة من خلاله الى أن عملية رصد الأدلة قد ثبّتت مسؤولية «إسرائيل» عن عملية الاغتيال، وهو الأمر الذي أكده السيد نصرالله في أكثر من مناسبة تحدث فيها، كما أكد بأن عملية الرد حتمية ولكن توقيتها يخضع لمعايير معينة وظروف يجب أن تتوفر ليكون بالمستوى الذي تريده المقاومة وجمهورها. غير أن كلام يادلين أو اي تبجح «إسرائيلي» حيال هذا الموضوع إنما يلقي بظله الثقيل على من ينتظر هذا الرد لا سيما وأن ما تتداوله بعض الجهات السياسية المتصلة بدول غربية وسفاراتها يتحدث بثقة عن أن اغتيال مغنية لم يكن ليحصل لولا «سقوط ورقته» في حسابات حزبه ومن يدعمه، وأن ذلك إنما يخدم خط التسويات الذي يرتفع منسوبه كل يوم منذ تقديم تلك الورقة بين إيران والولايات المتحدة الأميركية، ثم كان الاتفاق الأخير الذي جرى حول الحكومة العراقية وقضى بافساح المجال لنوري المالكي بتولي رئاسة الحكومة بعد أكثر من سبعة اشهر على انتهاء ولايته وظهور نتائج اقل ما يقال فيها أنها ملتبسة، علما أن اتجاه الإدارة في واشنطن وبعض حلفائها العرب لم يكن ليعطي المالكي هذا الحق لولا الضغط الذي مارسته إيران على هذا الصعيد.
من يُسوّق هذه النظرية يلجأ الى وضعها على الطاولة بصيغة المعلومات المؤكدة وذلك في سياق الحديث عن جملة امور تم التفاهم عليها ليس آخرها إعطاء الضوء الأخضر للرئيس الإيراني محمود أحمدي نجاد لزيارة لبنان بعد خطوة العراق مباشرة، وهم يستدلون على ذلك بأن الولايات المتحدة قد أقرت بدور إيراني فاعل على الساحة الإقليمية ثمنه تأمين انسحاب أميركي سلس من العراق في نهاية العام 2011، وتأمين المصالح العليا للولايات المتحدة الأميركية في المنطقة، لا سيما وأن حلفاء واشنطن الكبار قد اصبحوا هرمين ولم يعد باستطاعتهم لا حفظ المصالح ولا تقديم المزيد، وهم مشغولون في رعاية أوضاعهم الخاصة أمام عجزهم عن مواجهة ما وصلت اليه طهران من نفوذ، بالرغم من كل الضغوطات التي تعرضت لها ـ إيران ـ على مدى العشر سنوات الاخيرة، التي لم تخل من حروب ضروس سياسية وعسكرية خاضتها إن على مستوى ملفها النووي وإن على جبهة حلفائها في كل من لبنان وسورية.
يذكر اصحاب هذه النظرية كنموذج، المملكة السعودية «الهرمة» المشغولة باطعام أكثر من سبعة آلاف «فرع» من العائلة المالكة الذين يحتاجون الى مئات ملايين الدولارات سنويا، في ظل تدوير للسلطة يبقي الأمور على حالها منذ تأسيس الدولة في السعودية، في حين لم ينجح التطور العمراني وولوج عصر التكنولوجيا بتطوير العقل الحاكم بما يكفل استيعابا لما يحصل من تطورات بالغة الأهمية على الساحتين الدولية والإقليمية. كما أن ذلك العقل ما زال يعمل على استرجاع كل الحيثيات التاريخية في محاولة لفرض وجوده وعدم تقبل أي وجود آخر. وفي هذا السياق يقرأ اصحاب النظرية نفسها أن ذهاب السعودية في اتجاه تحسين العلاقات مع إيران مرده الى الوهن الذي أصاب المؤسسة الحاكمة وما فرضته نتائج الأحداث في الفترة الأخيرة، خصوصا وأن محور إيران قد نجح في التماسك بالرغم من كل العواصف التي هبت عليه.
النموذج الآخر الذي يذكره أصحاب هذه النظرية هو مصر، التي لا ترى هذه الايام سوى إنجاح عملية التوريث لجمال مبارك، بينما هي بدأت بشكل فعلي التخفيف من حدة التوتر الذي كانت تقوده على أكثر من جبهة لا سيما اللبنانية منها، وذلك من خلال الهرولة باتجاه طهران وإعادة الوصل معها عبر عدد من المشاريع الاستراتيجية الحيوية في المجال الاقتصادي ليس اقلها إعادة فتح خط الطيران المدني بين البلدين وبمستوى عال جدا، إضافة الى إعادة الحياة الى العلاقات المصرفية والتبادل الصناعي، ناهيك عن «الغَزَل» المضطرد في الخطاب المقرِب بين المذاهب.
السؤال الثاني: حول ما طرحه يادلين ويتعلق باغتيال الحريري والفائدة التي حققتها الدولة العبرية من ذلك، في حين ان الخطير في الأمر هو رهان يادلين نفسه على ما سيصدر عن المحكمة الدولية من قرار ظني «سيتوجه الى حزب الله»، واعتبار ذلك نصرا لجهاز الاستخبارات الذي شغله - بحسب تعبيره – ليتأكد بأن قرار المحكمة المنتظر إنما هو نتاج «إسرائيلي» خالص وقد صنع في «إسرائيل»، وهو التصريح الثاني لمسؤول «إسرائيلي» تنفيذي بعد رئيس الأركان «الإسرائيلي» السابق غابي أشكينازي الذي عبّر عن هذا الموضوع بالطريقة عينها قبل مدة وجيزة.
وفي السياق، لا بد من السؤال عن موقف الدولتين اللتين ذكرتا آنفا كنموذج مما صدر عن «أشكينازي» وأكده يادلين قبل ايام، حول القرار الظني للمحكمة التي تكاد أن تتحول الى كرة نار قد تلتهم المنطقة بالخلفية التي على ما يبدو قد وضعتها «إسرائيل» لها، وتشكل قاعدة لتحقيق اهداف لم تعد خافية على أحد؟... وما هو موقف أصحاب الحق في الرد على اغتيال مغنية مما يسوّق حول صفقة سقوط ورقة «الساحر» لانتهاء صلاحيتها ناهيك عما قاله يادلين حول اعادة تفعيل شبكات التجسس على غير صعيد في لبنان؟.
ما هو ظاهر من خلال ما يجري على الساحة الإقليمية وانعكاسه على الداخل في لبنان يبين بما لا يدع مجالا للشك، بأن ما آلت اليه الأوضاع هو نتيجة مؤكدة لتقدم فريق وتراجع فريق آخر يلجأ للتعبير عن تراجعه من خلال تسويق منطق التسويات التي يجري الحديث عنها. كما أن دخول التصريحات «الإسرائيلية» حول «انجازاتها» الأمنية إنما يندرج في إطار رفع المعنويات عند التسلم والتسليم، ليتبين بأن سقوط «الساحر» ما هو إلا خسارة معركة في حرب لن تتوقف إلا بتكريس الغالب.. والمغلوب.