بينما كان ضباط الاستخبارات العسكرية الإسرائيلية يقرّون بصحة وثائق الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصر الله ودقّتها في طريقة اكتشاف مشروع العمل العدواني في بلدة أنصارية قبل سنوات بعيدة، كان آخرون من رفاقهم يستذكرون تلك الليلة التي سهرت فيها القيادات الامنية والعسكرية والسياسية الإسرائيلية تنتظر الأنباء عن العملية التي تعطلت في لحظة يقظة للمقاومين. ظل الجميع يعملون إلى ساعات الفجر وهم ينتظرون التقارير عمّا بقي من أشلاء لعناصر وحدة الكوماندوس الذين قتلوا في الهجوم الفاشل.
أمس، كان ضباط كبار في استخبارات العدو، وفي غرف استخبارات أجنبية وعربية ينتظرون أول التقارير عن أول مهمة أمنية عالمية تنفّذ بغطاء رسمي لبناني على تخوم الضاحية الجنوبية، تحت عنوان البحث عن معطيات تخص التحقيقات الجارية في جريمة اغتيال الرئيس رفيق الحريري. كذلك، وصلت المعلومات عن فشل لوجستي منع تنفيذ الاختراق الذي لا يترك مكاناً في الدولة اللبنانية من دون حرمة. كان لا بد لغضب النسوة اللواتي أعطين الإشارة العملية المطلوبة لفرقة المجانين التي يدفع اللبنانيون بدلات أعمالها التخريبية بحجة معرفة حقيقة من قتل رفيق الحريري.
مساء أمس، أوردت الوكالة الوطنية للأنباء بياناً قصيراً جاء فيه: «فتح النائب العام التمييزي القاضي سعيد ميرزا تحقيقاً في حادث الاعتداء على أعضاء لجنة التحقيق الدولية لدى الطبيبة إيمان شرارة، وأحال القضية إلى مفوّض الحكومة لدى المحكمة العسكرية القاضي صقر صقر، لكون عناصر الدورية من قسم المباحث الجنائية المركزية وسلبت منهم هواتفهم».
سعيد ميرزا وصقر صقر يريدان معرفة حقيقة من تعرّض للمحققين الدوليين، وربما يُعدّان الاستنابات القضائية لاستدعاء العشرات من النساء وأزواجهن وأولادهن والأقارب للسؤال عن سبب ما حصل، إذ يبدو أن القضاء اللبناني مصرّ هو أيضاً على تسهيل «مهمّة من يريد الوصول إلى الحقيقة».
هل يتذكر الرئيس ميرزا مجزرة حلبا بحق مجموعة من القوميين السوريين الاجتماعيين الذين قتلوا ومُثّل بهم أمام شاشات التلفزة، وبرعاية رجل دين ونائب حالي وأصحاب مؤسسات تربوية، وبتواطؤ عناصر أمنيين بلباس الخدمة؟ ألا يستحق من قُتل ظلماً يومها معرفة من قتله ومن حرّض ومن خلق المناخ والتعبئة التي سبقت الجريمة المروّعة التي هي الآن بأهمية موازية، تماماً، بل ربما أكثر، من جريمة اغتيال الحريري نفسه واغتيال جميع من قتل من قادة 14 آذار؟
ألا يحق لنا السؤال عن تلك الحقيقة؟ ألا يحق لنا السعي الى تحقيق العدالة هناك؟ أم أن الذين قتلوا على أيدي سفاحين ومجرمين من صنف القرون الوسطى لديهم حصانة تمنع الوصول إليهم، بينما يجب علينا جميعاً، سلطات قضائية وأمنية وطبية وقانونية، أن نوفر الغطاء والدعم لمجموعة من عملاء الاستخبارات الخارجية الذين يسعون بوقاحة قلّ نظيرها للوصول إلى هرمية قيادة المقاومة في لبنان؟
هل يعرف الناس ما الذي يعمل عليه جواسيس دانيال بلمار المنتشرون بين علب بيروت الليلية وأزقّتها الأمنية؟
هل يعرف الناس أن هؤلاء يعملون، بطلبات رسمية، على جمع معلومات تضمّ مئات آلاف الملفات الشخصية والمؤسساتية والرسمية ومنها سجلات النفوس وسجلات الجامعات والمدارس وسجلات المستشفيات والمؤسسات الطبية، والعيادات الخاصة، وملفات تضم عشرات آلاف الصور الفوتوغرافية لمهرجانات سياسية وشعبية قبل أن ينطلق فريق متخصص بالعمل على تحليل المعلومات على ربط المعلومات بعضها ببعض لوضع سجلات متكاملة عن عدد كبير من الأشخاص «ذوي الاهتمام persons of interest»، الذين يفوق عددهم 1000 مواطن لبناني، وغالبية هذه التحقيقات لا صلة لها بجريمة اغتيال الحريري إلا من خلال إيراد الطلبات الخاصة بها على أوراق كتب عليها: المحكمة الخاصة بلبنان.
هل يعرف اللبنانيون أن قسماً كبيراً من هذه الملفات لا يطّلع عليها إلّا عدد قليل من المحققين ورئيس الدائرة الناشطة هو ضابط الاستخبارات البريطاني مايكل تايلور؟
هل يعرف اللبنانيون أن هناك معلومات عديدة جُمعت من أشرطة فيديو مسجلة عن كاميرات مراقبة وتسجيلات لمكالمات هاتفية وداتا، يُقرّ العمل القانوني بها بحجة حفظ أمن الناس وتسهيل الوصول إلى الحقيقة، بينما لن تستخدم أغلبية هذه الوثائق والمعلومات في المحكمة، فيما لا يحق لنا طرح أسئلة عما إذا كان في ذلك منطق بوليسي مهنيّ، أو عما سيكون عليه مصير هذه المعلومات بعد انتهاء عمل المحكمة؟ وهل هناك ضوابط لعدم تسريب هذه المعلومات إلى جهات خارج المحكمة؟
حسناً، ربما يريدون منا أن نقول لهم صراحة: لم نعد نريد معرفة الحقيقة. لم تعد تهمنا هذه الحقيقة، ولم نعد نكترث لغضب هذا أو ذاك إذا ما فشل هؤلاء العملاء الدوليون في الحصول على المعلومات التي يدّعون أنها تقودهم الى الحقيقة...
نعم، لم نعد نريد هذه الحقيقة، ولا هذه العدالة، بل صار مطلوباً طرد هؤلاء من لبنان، ومنعهم بكل الوسائل من التجوال هنا أو هناك، وممنوع على أحد التعاون معهم، ومن يفعل ذلك يكن مثل كل العملاء الذين كُشفوا وهم ينشطون في شبكات تجسّس للعدو. لم يعد هناك من يستأهل التضحية بشيء لأجله.