تطور جديد طرأ أول من أمس على العلاقات التركية ـــــ الإسرائيلية، قد يكون أشد خطورة من جريمة «أسطول الحرية» في 31 أيار الماضي وما تلاها من تأزّم؛ فقد أقرّ مجلس الأمن القومي التركي (يجمع القيادتين السياسية والعسكرية برئاسة رئيس الجمهورية)، النسخة الجديدة من «الدستور السري»، أو «الكتاب الأحمر» الذي يُعَدّ الوثيقة الرسمية الأهم في تحديد الاستراتيجيات العريضة التركية الخارجية والداخلية لخمس سنوات مقبلة. كثير من العناصر الجديدة أُدخلت إلى النص، لكن أبرزها على الإطلاق هو تصنيف إسرائيل بأنها «تهديد رئيسي لتركيا». ففي الفصل المخصَّص لـ«التهديدات الخارجية لتركيا وعلاقاتها الخارجية»، وردت العبارة الآتية: «يجدر التركيز على أن انعدام استقرار المنطقة بسبب النشاط الإسرائيلي، وسياساتها (الدولة العبرية) التي قد تسبّب بسباق تسلُّح في المنطقة، هما تهديد لتركيا».
وتوقّفت الصحف التركية طويلاً عند هذه العبارة «التاريخية»، على اعتبار أنها المرة الأولى في سيرة العلاقات التركية ـــــ الإسرائيلية منذ 1949 التي تُذكَر فيها إسرائيل كتهديد خارجي بالنسبة إلى تركيا. وأكثر ما كان لافتاً هو أن هذا التصنيف لم يُربَط بجريمة «أسطول الحرية»، بل بمسألة أخطر من موقعة «مرمرة»، وهي السياسات العبرية التي تزعزع استقرار الشرق الأوسط، وتشجّع على انطلاق سباق تسلُّح في المنطقة.
ويكتسب هذا التصنيف قيمته المضافة عندما نعلم أنّ النسخة الجديدة من «الكتاب الأحمر السري للغاية»، أزالت سوريا وإيران (بالإضافة إلى اليونان «جزئياً» وبلغاريا وجورجيا وأرمينيا) من لائحة الدول التي تُعَدّ تهديداً خارجياً لتركيا، ولو أنّ عبارة «يجب أن يكون الشرق الأوسط منطقة خالية من السلاح النووي» بقيت موجودة في النص (في إشارة إلى إيران)، حتى من دون ذكر الجمهورية الإسلامية بالاسم. وهذه الجمهورية كانت في نسخة عام 2005 (التي انتهى مفعولها رسمياً أول من أمس) مصنَّفة على أنها «التهديد الأول» لتركيا على خلفية نظام حكمها الإسلامي وقدراتها النووية.
ولا بد هنا من التأكيد أن خروج سوريا وإيران (جزئياً) من دائرة الأخطار، واستبدالهما بإسرائيل، هو تحوُّل استراتيجي من العيار الثقيل، ستكون له تداعيات على مستوى المنطقة؛ فأنقرة، في الوقت الذي لا تزال تصرّ فيه على أنها غير منخرطة بأي حلف في الشرق الأوسط (بين ما يُسمّى حلف الممانعة وحلف المعتدلين العرب)، تخطو خطوة بعيدة عن شعارات «ضرورة التصالح مع إسرائيل» في مقابل نيلها اعتذاراً وتعويضاً منها عن «جريمة الأسطول». الترجمة العملية تفيد بالآتي: تركيا أتاتورك، التي كانت محسوبة قبل 2002 على المعسكر الغربي الأميركي، انتقلت مع وصول «العدالة والتنمية» إلى منطقة وسطية، محايدة، قبل أن تخطو، مع «الكتاب الأحمر» الجديد مسافة باتجاه المحور الآخر، ذاك الذي بات يعرف بأنها «محور سوري ـــــ إيراني».
وهكذا، بات منطقياً استشراف مزيد من التوتر مع تل أبيب، وتراجع إضافي في التعاون الثنائي بينهما على الصعد الأمنية والاستخبارية والتجارية والتسليحية، في مقابل المزيد من التقارب بين حكومة رجب طيب أردوغان وكل من دمشق وطهران وحلفائهما في فلسطين ولبنان. وليس واضحاً بعد تأثير هذا التصنيف الجديد على العقيدة القتالية للجيش التركي.
أما السؤال الأبرز، فيبقى معرفة ما سينتج من هذه الاستراتيجية التركية الجديدة على صعيد العلاقات مع الولايات المتحدة التي بقيت ضمن مستوى المعقول رغم كل ما حصل على خط أنقرة ـــــ تل أبيب.
من جهة أخرى، يمكن التوقف عند أبرز ما يعنيه التصنيف الجديد لإسرائيل بالنسبة إلى تركيا على صعيد السياسة الداخلية؛ من المعروف أن النسخة الجديدة لـ«الدستور السري» أعدّتها حكومة أردوغان، تحديداً كتبها الأمين العام لرئاسة الحكومة التركية، إفقان ألا، واعتُمدت حرفياً في اجتماع مجلس الأمن القومي أول من أمس. بالتالي، فإنها المرة الأولى التي تكون الحكومة المدنية هي مَن يخطّ «الكتاب الأحمر»، لا العسكر على ما درجت عليه العادة منذ اختُرع هذا «الكتاب» في حقبة الحرب الباردة، تحديداً بعدما أصبحت تركيا عضواً في حلف شماليّ الأطلسي عام 1952. حينها، كان الهدف من وضع «الدستور السري» تقديم ضمانات للحلف الغربي بأن تركيا لن تكون في يوم من الأيام عضواً في أي تحالف اشتراكي ـــــ سوفياتي.
وفي أبرز ما جاء في النسخة الجديدة، التي يُعاد النظر فيها كل 5 سنوات، حصْر التهديد اليوناني بالأزمة البحرية بين أنقرة وأثينا في حدود الـ12 ميلاً بحرياً التي تريد اليونان توسيعها على حساب الجزر والمياه الإقليمية التركيتين. على هذا الأساس، أزيلَت كلمة اليونان من فصل التهديدات الخارجية، لكن بقيت عبارة «أي محاولة من اليونان لتوسيع حدودها البحرية لأكثر من 12 ميلاً بحرياً في بحر إيجه هي سبب لاندلاع حرب». وتعليقاً على ذلك، أوضح مصدر حكومي يوناني، لصحيفة «توداي زمان»، أن أثينا «لن تتخلى عن حقها السيادي بتوسيع حدودها إلى ما بعد الـ12 ميلاً بحرياً في بحر إيجه»، نافياً ما أُشيع عن إبرام اتفاق سري بين الدولتين أخيراً، يحلّ النزاع الحدودي بينهما.
أما في فصل الأخطار الداخلية، فالجديد الأبرز الذي طرأ، هو إزالة كلمة «خطر الرجعية الدينية»، لإدخال مكانها مصطلحاً أدقّ هو «المجموعات الراديكالية التي تستغل الدين» التي يخصها قانون العقوبات التركية بمادة قانونية تعرف هذه المجموعات بأنها تلك التي «تلجأ إلى أساليب عنفية وتستغل العقائد الدينية لنشاطات هدّامة وانفصالية».
البحث عن «وصفة سحريّة» للبنان
أنقرة ــ عائشة كربات
اختلف موقع لبنان بالنسبة إلى عقل السياسة الخارجية التركية من «جزيرة بعيدة مليئة بالمشاكل، إلى جارٍ قريب استقراره عنصر ذو أهمية قصوى»، هكذا يحلو لمصدر تركي مقرَّب من مركز القرار في أنقرة، وصف هذا التحوُّل «الاستراتيجي» في حديث مع «الأخبار». تغيُّر بدأ فعلياً، وإن بطيئاً، منذ تولي حزب العدالة والتنمية الحكم في عام 2002، وإن تأخرت مفاعيله بالظهور: المشاركة الفاعلة للأتراك في قوات «اليونيفيل» بعد عدوان 2006، بالإضافة إلى دور حكام أنقرة في ولادة اتفاق الدوحة في أيار 2008، والشعبية الكبيرة التي بات يتمتع بها رئيس الحكومة رجب طيب أردوغان في الشارع اللبناني، فضلاً عن إلغاء تأشيرة الدخول بين لبنان وتركيا، ونشاط بعض المنظمات التركية غير الحكومية في المناطق اللبنانية والمخيمات الفلطسينية، وصولاً إلى ما ستشهده الأسابيع المقبلة من ولادة «منطقة التجارة الحرّة» التي ستضم كلاً من تركيا ولبنان وسوريا والأردن، جميعها مظاهر لعودة تركية إلى لبنان، بطلها وزير الخارجية أحمد داوود أوغلو، الذي «يمسك شخصياً بتفاصيل الملف اللبناني»، على حد تأكيد المصدر التركي. ربما لهذه الأسباب يحرص المسؤولون في أنقرة على التحفظ عن كشف ما في جعبتهم من معلومات عن تطورات الملف اللبناني، على اعتبار أن «البروفيسور أحمد» هو العنوان الصحيح لهذا الموضوع.
وينشط داوود أوغلو هذه الأيام باتصالات مكثَّفة مع عواصم غربية وشرق أوسطية «محاولاً إيجاد حلّ لحالة الحائط المسدود الذي وصلت إليه الأوضاع في بيروت» على خلفية أزمة المحكمة الدولية الخاصة بلبنان، لكن «لم يجرِ التوصل بعد لإيجاد وصفة سحرية». هنا، يعود المصدر التركي للتذكير بأن بلاده دعمت منذ البداية تأسيس المحكمة الدولية، «لا لمحاكمة قتلة الرئيس رفيق الحريري فحسب، بل لوضع حد لثقافة الاغتيالات في لبنان أيضاً». وفي السياق، تعتقد أنقرة أنّ نظرية «إما الاستقرار أو العدالة، ليست مبدأً حكيماً في التعاطي مع الأزمة». ويشعر المسؤولون الأتراك باستياء لأن «القوى الخارجية التي تصرّ على تحقيق العدالة اللبنانية، تطبّق سياسة ازدواجية المعايير في ما يتعلق بالعدالة الدولية». استياء نابع من أن هذه القوى «لا تُظهِر التزاماً مماثلاً عند الحديث عن جهود تركيا لإحقاق العدالة الدولية في جريمة أسطول الحرية» واستشهد 9 مواطنين أتراك.
ويؤكد المصدر أن «تركيا تدعم أي صيغة تحول دون انفجار العنف في لبنان، على قاعدة أنه إذا كان تأجيل صدور القرار الظني يفسح المجال أمام الدبلوماسية والحوار، فسيكون خياراً جيداً». ويشير المصدر إلى أنه «بما أن هذا الخيار لم يحظَ بعد بإجماع اللبنانيين، فإن أنقرة لم تأخذ المبادرة لتأجيل صدور القرار الظني». وسبب الإصرار على دعم ما يجمع عليه اللبنانيون هو أن الدبلوماسية التركية مصرّة على المحافظة على مسافة واحدة من جميع الأحزاب والطوائف اللبنانية «التي تُغيّر من تحالفاتها أحياناً». ولهذا السبب، أكثر ما يهم الأتراك اليوم حيال لبنان أولويتان:
ـــــ المحافظة على الاستقرار الأمني، من خلال رفع مستوى الازدهار الاقتصادي في هذا البلد.
ـــــ نيل ثقة المواطنين اللبنانيين قبل نيل ثقة أحزابهم.
وبالاستفسار عن الموقف التركي من العلاقات اللبنانية ـــــ الإيرانية، والدعاية الغربية التي رافقت زيارة الرئيس الإيراني محمود أحمدي نجاد للبنان عن أنّ مجرد حصول الزيارة هو «تطاول على السيادة اللبنانية»، يسارع المصدر إلى الكشف عن أن بلاده تحاول إفهام الغرب أنّ «نظرتهم لإيران باعتبارها عنصر عدم استقرار في لبنان ليست صحيحة دائماً».
أما بالنسبة إلى مهمّة اليونيفيل، وتركيا أحد أكبر المساهمين في صفوفها، فإنّ المصدر يطمئن إلى أن أكثر ما تحرص تركيا عليه هو الجزم بـ«عدم التورط أبداً بأي مهمة قتالية في لبنان».
على صعيد آخر، يخصص المصدر نفسه مساحة واسعة من حديثه لـ«الأخبار» لمشروع «منطقة التجارة الحرّة»، أو «النسخة الشرق أوسطية للاتحاد الأوروبي». مشروع توليه تركيا أهمية قصوى، على اعتبار أنّ أحد أسس استراتيجية داوود أوغلو في العلاقات الدولية هو توفير الاستقرار عبر الازدهار الاقتصادي. وينص الاتفاق الذي يُنتَظَر توقيعه في إسطنبول، في كانون الثاني المقبل على مستوى رؤساء حكومات كل من تركيا ولبنان وسوريا والأردن، على إقامة منطقة ذات تعاون وثيق ومفتوح على صعد تنقُّل الأفراد والطاقة والتجارة والسياحة والمواصلات. ولهذه الغاية، أُسِّس مجلس تعاون بين هذه الدول الأربع، وسيجتمع وزراء هذه القطاعات مرتين في العام الواحد للبدء بوضع مشاريع ملموسة. وأول لقاء وزاري لهذا الغرض سيحصل في تشرين الثاني المقبل. أما الشق السياسي للمشروع، فهو محصور بوزراء خارجية هذه الدول الذين سيلتقون في دمشق في كانون الأول المقبل، تحضيراً لقمة رؤساء الحكومة بعد شهر من ذلك التاريخ، ليصبح لديهم اجتماعان سنويان ثابتان على الأقل.
هذا المشروع خطة طويلة الأمد، لأن الإجراءات اللازمة له لا تزال قيد الإعداد، مع أنّ التوقيع على الاتفاقيات الثنائية بين الدول الأربعة تسير بنحو متفاوت؛ ففيما تقدم التنسيق التركي ـــــ السوري والتركي ـــــ الأردني، لا تزال العقود بين أنقرة وبيروت غير موقَّعة.