تتسارع المؤشرات التي تدل على أن التغييرات التي شهدتها المنطقة منذ اتفاق الدوحة الذي نجح في التأسيس لمناخ الوفاق اللبناني بغطاء عربي ودولي، ليست إعلاناً بدخول لبنان مرحلة الاستقرار، فالتعاون السوري - السعودي قابل وقادر على أن يثمر في العراق أكثر من لبنان، والعلاقة السورية - الفرنسية التي استعادت حرارتها بعد سنوات جاك شيراك العجاف، كما كشف خباياها الكاتب فنسنتززينو بدأت من الملف اللبناني، لكنها تبدو متعثرة عنده، والحوار السوري الأميركي يبدو عائداً إلى نقطة اشتباك محورها لبنان، هذا ما توحي به المواقف الصادرة عن وزارتي الخارجية في فرنسا والولايات المتحدة الأميركية التي تناولت الوضع في لبنان، بصورة تبرز نبرة التصعيد فيها، وهذا أمر ربما له تفسيراته، لكنها عادت للزج باسم سورية أو التلميح نحوها، بصورة لا تفسرها الوقائع والأحداث.
السؤال البدهي الذي يواجهه أي متابع هو، إذا كان مفهوما أن تستنفر الإدارة الأميركية للدفاع عن المحكمة الدولية الخاصة بلبنان باعتبارها أداتها للمواجهة على الساحة اللبنانية والحفاظ على بقايا نفوذها، وإذا كان مفهوما ان تستنفر واشنطن الأمين العام للأمم المتحدة لحماية شهود الزور الذين خربوا سمعة المحكمة والقضاء الدولي والتحقيق، لأنها تعرف حكايتهم من البداية وقدمت لهم كل الرعاية لتلفيق التحقيق وتوجيه الاتهام لسورية، وإذا كان مفهوماً أن تتهرب واشنطن ونيويورك من تقديم الاعتذار إلى سورية على ما سببه التحقيق الدولي من إساءة لسمعتها، وما حملته قرارات ظالمة بحقها على المستوى الدولي، فإن غير المفهوم هو الإصرار على تقديم سورية كمسؤول عن زعزعة الاستقرار في لبنان بينما نجحت سورية بتقديم كل أسباب الدعم لحكومة الوحدة الوطنية، بعدما قامت بما يفترض أنه طلبات دولية مزمنة، فلا قواتها موجودة في لبنان، والسفارات بين البلدين عاملة ونشيطة، ولجان ترسيم الحدود تقوم بالتحضير لعملها بهدوء، وعشرات الاتفاقيات توقع بين الحكومتين، وسورية تستقبل مَنْ كانوا قبل فترة قريبة رموزا لثورة الأرز الاستقلالية المدعومين من واشنطن والمحظيين برعاية خاصة من الأمم المتحدة.
تكشف هذه الحالة المتوترة في عواصم الغرب حول المحكمة الدولية ما كان استنتاجاً في الماضي وبات حقيقة دامغة اليوم، وهو أن لبنان المنتصر بمقاومته على إسرائيل مرتين العام 2000 والعام 2006 لا يزال على لائحة العقاب، وأن المحكمة هي أداة الانتقام الدولي لحساب إسرائيل بعد تأكيد العجز عن خوض حروب الانتقام، وأن الحقيقة في جرائم الاغتيال آخر ما يهم المعنيين في هذه العواصم، من اغتيال الرئيس ياسر عرفات إلى اغتيال رئيسة وزراء الباكستان بنازير بوتو إلى الرئيس رفيق الحريري، وأن قيمة المحكمة الخاصة بلبنان هي فيما توفره من فرصة للانتقام من المقاومة وتقديم العون الاستراتيجي لإسرائيل، لكن أهم ما تكشفه حالة التوتر هذه هو خيبة أمل أصحابها من وهم خيم على تفكيرهم وحساباتهم لفترة طويلة، من أن سورية يمكن إغراؤها بمغانم الانفتاح لتبيع جلد المقاومة، وعندما دقت ساعة المواقف، وقال الغرب كلمته بأن المحكمة خط احمر، قالت سورية أنها غير معنية بالمحكمة لكن المقاومة خط أحمر تحته ثلاثة خطوط حمراء.
الأمر الآخر الذي تؤكده حالة التصعيد الدولي نحو لبنان، هو تزامن الحراك تحت عنوان المحكمة مع الحراك تحت عنوان القرار 1559، وتشكل مظلة دولية شبيهة بمرحلة سنوات المواجهة الخمس الماضية، لتفعيل مواجهة لبنانية- لبنانية تأخذ لبنان نحو التوتر والفتنة، فتصبح المحكمة أهم من لبنان ويصبح مستقبل المقاومة الضامن للبنان هدفا للحملة الدولية مادام هو مصدر قلق لإسرائيل، وهنا المستغرب هنا أن بعض اللبنانيين الذين تحدثوا كثيرا عن لبنان أولاً، ويعرفون معنى ما يحتاجه لبنان أولا اليوم، بعدما فتحت لهم أبواب دمشق وجرت المصالحات التي أنتجت حكومة الوحدة الوطنية، يعترفون بالمخاطر الناجمة عن هذا الوضع الدولي المتصاعد، ويعرفون أن شبكة الأمان السورية - السعودية جاهزة لحماية مواقفهم بوجه الضغوط الدولية، ويعترفون بأن المحكمة باتت عبئا دوليا على لبنان والحقيقة والعدالة لا دعما ومؤازرة كما كانوا يعتقدون أو يقولون، لا يريدون أن يعترفوا بأن الخراب الذي يحضر للبنان يمكن تلافيه إذا كانوا صادقين بمواقفهم لفكرة ما جعلوه شعارا في وجه عروبة لبنان في الماضي القريب، بمسمى لبنان أولا لا رضا واشنطن أولا.
في المقابل، فإن القوى الوطنية التي ربما ساورت بعضها الشكوك حول إمكانية تفادي الأزمة بقدر من اللين والمرونة، أو افترضت لفترة أن شبكة الأمان السورية - السعودية كافية لطمأنة مَنْ في الغرب إلى أن لا تغييرات دراماتيكية على الساحة اللبنانية ستخلّ بالتوازنات، أو أن الانفتاح الغربي على سورية يعني تراجع استخدام لبنان ساحةً لتخديم إسرائيل، ترى اليوم بوضوح أن قدرها هو المواجهة مع الحلقة المقبلة من الحرب الإسرائيلية من بوابة المحكمة، وأن الوحدة بين هذه القوى والتنسيق مع سورية لمواجهة المخاطر ورعاية ما يمكن تقديمه من مشروعات وفاق لتجنب الخراب، يشكل بوليصة التأمين الوحيدة في وجه الحريق الذي تستعر نيرانه.
لماذا لبنان يقول البعض ؟
لأن لبنان هزم إسرائيل، ولأن كل شيء في الغرب قابل للبيع والشراء والمقايضة بلغة المصالح الباردة إلا العنجهية الإسرائيلية التي تكسرت على أبواب مارون الراس وفي ساحة بنت جبيل، ولأن الرد بتمريغ شرف المقاومة وكرامة شبابها وأعراض نسائها هو رد اعتبار للعنجهية الإسرائيلية مفروض كدين مستحق.
في لبنان، المواجهة تهدأ وتخبو لكنها لا تخمد مادام على حدود لبنان كيان عدواني يشكل محميةً دولية، وكما يقول الجراحون، فإن أول الجروح التي يفتحها الجراح في غرفة العمليات هي آخر الجروح التي يقوم بتخييطها، وهكذا هو لبنان في العملية القيصرية لمخاض الشرق الأوسط الجديد الذي بشرت به غونداليسا رايس ذات يوم من بيروت، أول الجروح التي تفتح وآخر الجروح التي تطولها يد الجراح لخياطتها وتركها تندمل.