عند الساعة الثانية والنصف من صباح يوم 25 كانون الثاني الماضي، سقطت طائرة الخطوط الجوية الإثيوبية في رحلة «ET 420» قبالة شواطئ بيروت. وحتّى هذه الساعة، ليس هناك أي تقرير رسمي يوضح أسباب الحادث الذي زهقت فيه عشرات الأرواح وهُدرت بعده ملايين الدولارات، ليبدو أنّ القضية جزء من تغطية كبرى في قطاع الطيران المدني
لا يبدو أنّ قضاء 90 شخصاً في حادثة سقوط طائرة في لبنان حدث يستحقّ الاهتمام. فالفوضى الرسميّة التي تبعته، وتمظهرت نوعاً من الاستعراض البري والبحري والجوي، استمرّت فوضى على مستوى أرفع على صعيد التحقيقات التي يُفترض أنّ تكون نتيجتها مواساةً لأهل الضحايا، وللوطن كلّه.
السبب وراء هذا القول، هو أنّه بعد أكثر من 10 أشهر على الحادثة، ووعود بأنّ فكّ رموز الصندوق الأسود وصدور التقرير النهائي سيستغرقان 6 أشهر، لم يحدث شيء. ولا تزال القضية في متاهة البحث عن أسباب وراء السقوط. فيما الرواية في الدوائر الضيّقة تُلقي المسؤوليّة على سلطات الرقابة اللبنانيّة، وشركة الخطوط الجويّة الإثيوبيّة التي قصّرت في أداء واجبها المتكامل على صعيد تأهيل طاقم الطيران الذي كان مكلفاً بنقل الركّاب من بيروت إلى أديس أبابا، غير أنّه أودعهم بحراً هائجاً في فجر عاصف.
الواقع هو أنّه بعد البحث المضني المشوب بالهدر إلى درجة الفساد، والعثور على الصندوق الأسود الشهير، فُتح تحقيق تديره المديريّة العامّة للطيران المدني، وتساعد فيه الهيئة الأميركيّة لسلامة النقل (NTSB).
وتنخرط شركة «Boeing» بالتحقيق عبر خبراء ومحلّلين من جانبها نظراً إلى أنّ الطائرة من تصنيعها. وحسبما علمت «الأخبار» فإنّ هذه الشركة توصّلت إلى رسم سيناريو أوّلي لحادث التحطّم، يتمحور حول عدم كفاءة فريق الطيران وضعف الرقابة اللبنانيّة.
وقد اتصلت «الأخبار» بمقرّ الهيئة الأميركيّة في واشنطن للاطلاع على سير التحقيق، غير أنّ المعنيّين شدّدوا على أنّهم لا يمكنهم «الإفصاح عن المعلومات»، وأنّه يجب الاطلاع على مسار التحقيق من السلطات اللبنانيّة المكلفة بالأمر.
فقد شارك المكتب في التحقيق عبر إرسال بعثة يترأسها «الممثّل المعتمد للولايات المتّحدة»، المحقّق دينيس جونز. ووفقاً لإيضاحات المعنيّين في واشنطن، فإنّ عمله لا يزال مستمراً.
أمّا المديريّة العامّة للطيران المدني، فقد تعذّر الاتصال بها، وتحديداً مديرها حمدي شوق، للحصول على التطوّرات على صعيد التحقيق.
ولكن، إذا كان هناك مسألة أكيدة فهي أنّ لبنان غير مؤهّل تقنياً ومؤسّساتياً للتعاطي مع ملفّات كهذه، تبدو أكثر تعقيداً من قدرة النظام على تحمّلها، أو تنضح بالفساد والتقصير إلى درجة يتطلّب الأمر التستّر عليها.
والمشكلة الأكبر هي أنّه فيما عدم المبالاة والاستهتار بقضايا تهمّ أمان المواطن مباشرة مستمرّان، تزداد رداءة المؤشّرات. فعلى سبيل المثال، أصبحت الحوادث الناجمة عن غياب الاحتكام إلى معايير السلامة شبه تقليد على صعيد الطيران اللبناني. فقد تعرّضت طائرة تابعة لخطوط طيران الشرق الأوسط (MEA) لحادث أخيراً في مطار أكرا النيجيريّة: حطّت الطائرة، وأثناء تنقّلها على أرض المطار اصطدمت بطائرة ثانية متوقّفة هناك! يمكن المحاججة أنّ حوادث كهذه ليست نتيجة تقصير المؤسّسات اللبنانيّة المعنيّة، وربّما تكون ناتجة من خلل لدى الفريق التقني النيجيري أو حتّى قائد الطائرة اللبنانيّة نفسه. لكنّها عندما تمثّل إحدى حلقات الإطار المتكامل من الحوادث يجدر التمعّن بها جيداً، وخصوصاً أنّ المحاسبة، ولنقل الرقابة اللاحقة، غير موجودة أبداً، ما يكرّس الاستهتار القائم.
هذا الاستهتار هو نفسه الذي أدّى إلى تحطّم طائرة الخطوط الجويّة «UTA»، رقم 141 في كوتونو في بنين، عشيّة عيد الميلاد في عام 2003. فوفقاً للمعلومات التي حصلت عليها «الأخبار»، حطّت الطائرة في شهر تمّوز من العام نفسه في مطار بيروت وتبيّن أنّها تعاني من خلل ميكانيكي، يُعدّ خطيراً بحسب التقنيّين، يتمثّل بتسرّب زيت من محرّكها. غير أنّ «الرقابة اللبنانيّة» سمحت للطائرة بالإقلاع بعد يومين من هبوطها عوضاً عن حجزها إلى أن تُعالج مشاكلها.
والجدير بالذكر هنا هو أنّ السلطات اللبنانيّة كانت قد رفضت سابقاً منح الشركة الإذن بعمل رحلاتها التجاريّة من بيروت، لعدم مطابقتها المواصفات التقنيّة، ومن ثمّ وافقت على ذلك!
ألا تستحقّ هذه الحوادث وقفة حقيقيّة للتمعّن بواقع الطيران المدني اللبناني والشوائب التي تعتريه وتؤدّي إلى سلسلة الكوارث التي حصلت في الفترة الأخيرة؟
حتّى الآن، يبدو أنّ الجميع راضون عن هذا الواقع القائم. على الرغم من إبداء رئاسة الحكومة استعدادها للبدء بتأليف الهيئة الوطنيّة للطيران المدني المختصرة حالياً بشخص واحد هو مديرها العام.
ولكن، إذا كانت الملفّات السياسيّة قابلة للمدّ والجزر، الداخلي والإقليمي والدولي، فإنّ سلامة الطيران المدني لا تتحمّل السخافات السياسيّة ومحاصصات الإدارة العامّة.
والمفتاح الأساسي للمضيّ قدماً بالتطوير على هذا الصعيد يكون بحلّ عقد الكوارث السابقة. وإذا كانت قضيّة «طائرة كوتونو» قد سوّيت بقرار قضائي (غيابي!) يقضي بسجن الطيّار، نجيب الباروني، 20 عاماً، وقرارات بحقّ أصحاب الشركة والطائرة، فإنّ قضيّة الطائرة الإثيوبيّة لا تزال عالقة، ويبدو أنّها ستبقى كذلك إلى أن ينسى الشعب فاجعتها، وربّما نسي وقُضي الأمر مثلما يحدث مع كل الملفّات الحيويّة في هذه البلاد.
على أي حال، فإنّ نقطة الانطلاق الأولى أيضاً تكون بتصحيح واقع الرقابة على سلامة الطيران المدني في لبنان، الذي أضحت أوروبا تحديداً تشتكي منه وتحذّر باتخاذ إجراءات صارمة.
وهنا يُشار إلى أنّ السلطات المعنيّة في الاتحاد الأوروبي استدعت أخيراً حمدي شوق للبحث في سبل تطوير قطاع الطيران المدني في لبنان. وعاد المدير من بروكسل وفي حوزته «مشروع» يبدأ تنفيذه في عام 2011.
«ابحث عن المنتفعين من مشروع كهذا» يعلّق متابعون لشؤون الطيران المدني على المسألة. ويشكّكون في كلّ ما يجري الحديث عنه في ظلّ إدارة رديئة... إدارة تشكّل تغطية كبرى على حوادث تودى بمئات الأشخاص.
2.12 مليار ليرة
الأكلاف التي تكبّدها الشعب اللبناني مقابل عمل شركة «Odyssey Marine Exploration» للبحث عن الطائرة الإثيوبيّة، الذي تشوبه تساؤلات كثيرة
930000 دولار
قيمة التعويضات التي فرض الحكم اaقضائي اللبناني على أصحاب شركة «UTA» ومالك «كوتونو» تسديدها لأهالي الضحايا الذين تعذّر تحديد عددهم الدقيق
90%
معدّل مخالفة لبنان لمعايير «كفاءة الأفراد» في قطاع الطيران المدني، بحسب المنظّمة العالميّة للطيران المدني (ICAO) التابعة للأمم المتّحدة
انتظار اللغز
هناك تشابه ملحوظ بين حادثتي «طائرة كوتونو» و«الطائرة الإثيوبيّة»... فمعظم ركّاب الرحلتين كانوا من اللبنانيّين، كما أنّ الحادث حصل مباشرة بعد الإقلاع. ولكن في حالة الطائرة الأولى، حُدّد سبب الحادث بأنّه خلل في توزيع الحمولة التي بلغ فائضها 10 أطنان. أمّا في الثانية، فالأمر لا يزال لغزاً، ينتظر الكشف عنه، فيما الأكيد هو أنّ مجموع الضحايا في الكارثتين بلغ 226 ضحية على الأقلّ، وأنّ الوضع الحالي يرجّح سقوط ضحايا إضافيّين.