في خضمّ الانهماك الداخلي بملف المحكمة الدولية، وما يمكن أن تنتهي إليه المشاورات والاتصالات الهادفة إلى احتواء التوتر الكبير القائم، والذي ينذر بانفجار ما لم تقم تسوية جديدة بين القوى النافذة، يبدو المشهد على جبهة الصراع مع إسرائيل وكأنه ثانوي. علماً بأن الهدف الفعلي لرعاية الولايات المتحدة وإسرائيل وعواصم غربية للمحكمة الدولية، إنما يتصل بكونها مرشحة لأن تتهم حزب الله بالضلوع في جريمة اغتيال الرئيس رفيق الحريري، مع قدر كبير من الرهانات والآمال بأن يقود هذا الاتهام إلى جعل حزب الله في موقع دفاعي ضعيف بما ينهك قدراته الرئيسية في مواجهة إسرائيل.
سابقاً، أي قبل خمس سنوات بالكمال والتمام، انطلق الغرب كله في معركة هدفت إلى تقويض الجبهة المواجهة للمشاريع الأميركية والإسرائيلية في المنطقة. وكان الجميع يتعامل مع نتائج الغزو الأميركي الهمجي للعراق وأفغانستان على أساس أنها سوف تجعل كل المواقع الأخرى تهوي من تلقاء نفسها. وهو ما كان متصوراً لسوريا والمقاومة في لبنان وفلسطين. وعمل الغرب مع دور إسرائيلي يتبين يوماً بعد يوم أنه كان عملياً في كثير من الأمور التي حصلت. لكن الذين تعاقبوا على إدارة معارك السنوات الماضية من الفريق الأميركي، سواء في لبنان أو في المنطقة، كانوا مقتنعين بأن الظروف القائمة آنذاك هي الأكثر ملاءمة للتخلص من المقاومة ومعاقبتها على هزيمة إسرائيل.
مر الوقت ولم يتضح الوصول إلى نتيجة، فكانت حرب عام 2006، وهي فشلت أيضاً، ثم أطلق العنان للفتنة الداخلية وجُرّت المقاومة إلى ساحات بيروت، ومع ذلك وجد الجميع أن المقاومة لا تتاثر بما يحصل، بل على العكس فإن الأوضاع مالت صوبها. وثمة حاجة إلى مقارنة مشاهد الماضي ومشاهد اليوم، بين مشهد الجنود السوريين وهم يغادرون لبنان في عام 2005 على وقع تظاهرات تندد بسوريا وإيران، ومشهد الرئيس محمود أحمدي نجاد مستعرضاً الحشود في بيروت والجنوب وعاقداً سلسلة كبيرة من اللقاءات. وبين مشهد الإجماع المعلن لقوى لبنانية وعربية ودولية تتهم سوريا بقتل الحريري ومشهد الموفدين الغربيين والرئيس سعد الحريري والنائب وليد جنبلاط في مكتب الرئيس السوري بشار الأسد.
لكن بعيداً عن كل الحسابات السياسية التي سوف تكون أكثر تعقيداً لو جرى التدقيق في حقيقة التوازنات على مستوى الدول صاحبة النفوذ، لا تزال إسرائيل ومن خلفها الولايات المتحدة، تنظر إلى الموضوع من زاوية الوقائع الميدانية. تلك التي تحتاج إلى آليات قياس علمية، وإلى حسابات لا تقوم على التمنيات أو التقديرات الخاطئة، مثل توقعات جماعة 14 آذار السياسيين والأمنيين بشأن ما سوف يكون عليه وضع حزب الله بعد صدور القرار الظني. وهي تقديرات تقول في حدها الأدنى إن انقساماً كبيراً سوف يصيب الحزب وسوف ينفكّ عنه أهله وقومه... وكأن رفيق الحريري بالنسبة لجمهور حزب الله هو الحسين بن علي!؟
حسابات العقل
على أي حال، وبالعوة إلى الحسابات العلمية، ثمة تقديرات قائمة لدى العدو الآن تشير إلى متغيرات كبيرة وضخمة طرأت على التسليح النوعي لدى سوريا والمقاومة في لبنان وفلسطين ومنها:
ـــــ تضاعف عدد المقاتلين المدربين تدريباً خاصاً لمواجهة معارك مفتوحة مع جنود محترفين كالذين يخدمون في الجيش الإسرائيلي الآن والذين يخضعون منذ 4 سنوات لبرامج تدريب خاصة.
ـــــ تضاعف القدرات الأمنية والمعلوماتية لدى القائمين في الجبهتين الشمالية والجنوبية، الأمر الذي يترجم بخطوات كثيرة لا تزال تخفي غالبية الأنشطة والاستعدادات والعمل على الجهوزية من جانب المقاومة.
ــ تعزز نوعية الأسلحة الصاروخية البرية أو البحرية أو الجوية التي بحوزة فريق المقاومة في لبنان وسوريا وفلسطين. وهي النوعية التي تشعر إسرائيل بأنها سوف تهدد مصالحها ومواقعها من النواحي كلها.
ـــــ شعور إسرائيل بأن سباق الوقت القائم يسير حتى اللحظة لمصلحة الطرف الآخر، إذ كلما مرّ يوم، تعززت قوة المقاومة وبطريقة تعقّد القرار لدى الدوائر المعنية في إسرائيل وصولاً إلى التحذير الذي أطلقه أول من أمس رئيس شعبة الاستخبارات العسكرية الإسرائيلية «أمان» عاموس يدلين في معرض إشارته إلى احتمال نشوب حرب شاملة ستؤدي إلى وقوع إصابات كبيرة.
معنى تحذيرات يدلين
وكانت صحافة إسرائيل قد ناقشت ما قاله رئيس الاستخبارات العسكرية من زوايا مختلفة، بينها ما كتبه عاموس هرئيل في «هآرتس» تحت عنوان «هدوء مُهدِّد» من «أن مظهر وداع رئيس شعبة الاستخبارات، اللواء عاموس يدلين، في الكنيست أمس عبّر عن الجوانب الثلاثة التي تميز أواخر ولايته: الهدوء الأمني الشاذ، وتحسين ملحوظ للغطاء الاستخباري وإدراك إسرائيلي أنه عندما يتلاشى توازن الردع فستكون الحرب المقبلة أصعب من سابقاتها». وأشار إلى مهام كان يدلين يقوم بها، وخصوصاً أن
رئيس «أمان» أطلق تلميحاً بحجم فيل حول اهتمام إسرائيل بمشروعين نوويين في دول معادية، وهو لم يقصد إيران فقط
جهازه «أمان» «حصل خلال ولايته على ميزانيات أخرى، وعُمّقت مجالات تغطيتها، وأنشأ لواء تشغيل للسيطرة على جوانب عملياتية وعلى وحدات خاصة، في خلاصة من دروس حرب لبنان.
لكن هرئيل يشير إلى أنه «الجزء الحاسم من النشاط الاستخباري لا يزال خافياً على الناظر. فماذا تفعل إسرائيل لتعويق المشروع الذري الإيراني ولإحباط تهريب السلاح إلى القطاع ولبنان؟ وأي العمليات تجري وراء الحدود؟ (حصل ضابط في وحدة خاصة في «أمان» هذا الأسبوع على وسام شرف من رئيس الأركان عن عملية سرية) وماذا حدث بشأن تدمير المفاعل النووي في سوريا قبل نحو ثلاث سنوات؟ مع سؤال كبير أخير هو: هل ثمة حقيقة في المزاعم اللبنانية عن الكشف عن شبكات تجسس إسرائيلية؟».
اما ألكس فيشمان فكتب في «يديعوت أحرونوت» تحت عنوان «إنذار حقيقي» أن «الكشف المفاجئ جداً في خطاب رئيس شعبة الاستخبارات هو في واقع الأمر إنذار. رئيس شعبة الاستخبارات وصف كيف ستبدو الحرب المقبلة. وهي لن تقع في ساحة واحدة. لن يكون لنا ترف التصدي للبنان وحده. الحرب ستقع في آن واحد في ساحتين أو ثلاث، بل وربما أربع ساحات مختلفة، فمركز البلاد سيتعرض لهجوم صاروخي ليس فقط من الشمال بل وأيضا من قطاع غزة، الذي أدخلت إليه صواريخ تهدد اليوم تل أبيب وغوش دان. الرصاص المصهور وحرب لبنان الثانية، كما أوضح يدلين، هما سيناريو من الماضي. الحرب الإقليمية المقبلة ستكون بحجم آخر مع كمية مصابين بأحجام مغايرة لكل ما شهدناه حتى الآن. هذا ليس إنذاراً عاماً آخر. هذه معلومات استخبارية صلبة. هذا إنذار حقيقي».
ورأى فيشمان أن رئيس شعبة الاستخبارات العسكرية «أطلق أمس تلميحاً بحجم فيل حول اهتمام إسرائيل بمشروعين نوويين في دول معادية، وهو لم يقصد إيران فقط. فهل كانت هذه زلة لسان؟ من الصعب التصديق. إذ عندما استيقظ الإسرائيليون غداة الهجوم على المفاعل النووي في سوريا وسمعوا بأن الشبهات موجهة نحو اسرائيل ـــــ كانت هنا مخاوف شديدة من هجوم صاروخي سوري قريب. قدّروا أن سوريا ستكون ملزمة بأن ترد في ضوء الكشف عن مجرد الهجوم، وإن كان فقط حفاظاً على كرامتها».
الرهان على ماذا؟
وبناء عليه، فإن الرهانات الإسرائيلية الخاصة بالمحكمة الدولية لا تستهدف عملياً القضاء على المقاومة بل تعطيل قدرتها على تعزيز جهوزيتها من جهة، وتعطيل قدرتها على المناورة وحتى على العمل من جهة ثانية، وفي كثير من الأمكنة يأملون أن يُشغل حزب الله بملاحقة قضية المحكمة من خلال استنفاد طاقته في الداخل بما يضعفه ويهيئ الأرضية المساعدة على شن عملية عسكرية عندما تحين الفرصة، وعندما تصبح إسرائيل جاهزة.
لكن ماذا لو أن الأمور تطورت إلى حدود ارتكاب العدو خطأ قائماً على حسابات تشبه حسابات بعض الأجهزة الأمنية العربية والدولية واللبنانية طبعاً، فهل سوف تظل الأمور تسير وفق السيناريو المنشود نفسه؟ وهل في حساب هؤلاء جميعاً ماذا سيكون عليه الموقف لو استدرجت المقاومة إلى مواجهة مع إسرائيل وكيف ستكون عليه الأمور؟
الأكيد حتى اللحظة أن المقاومة ليست معنية بحرب تنطلق شرارتها من لبنان، لكن الأكثر تأكيداً هو أن المقاومة في لبنان مستعدة لمواجهة لا تشبه أبداً كل ما هو محفوظ في ذاكرتنا عن الحروب العربية مع إسرائيل.
(الأخبار)
ديان ضد يدلين: حذار إحصاء خسائر الحرب المـقبلة
يحيى دبوق
إقرار رئيس شعبة الاستخبارات العسكرية في الجيش الإسرائيلي، عاموس يدلين، بأن المواجهة مع حزب الله ستكبد إسرائيل خسائر غير مسبوقة، وأن الحرب المقبلة لن تقتصر على جبهة واحدة بل ستتعداها إلى جبهات أخرى، استدعى إعلاء صوت رئيس مجلس الأمن القومي في الدولة العبرية، اللواء عوزي ديان، الذي رفض «احتساب عدد الإصابات»، وطالب بتغيير استراتيجية إسرائيل العسكرية واحتلال أرض العدو في المواجهة المقبلة، وسط تحذيرات إسرائيلية جديدة من قدرات حزب الله، وتشديدها على أن الحرب المقبلة لن تكون شبيهة بالحرب السابقة.
وقال ديان للقناة السابعة الإسرائيلية أول من أمس، إن «تقدير رئيس الاستخبارات العسكرية (أمان)، يثبت من جديد مستوى الخشية من أوضاع الشرق الأوسط، فإيران تواصل عملية التزود بالسلاح النووي، وتركيا عادت إلى محور الشر، والمنظمات الإرهابية ما زالت تتغلغل وسط المدنيين في مجتمعاتها»، مضيفاً أن «الجيش الإسرائيلي سيضطر إلى مواجهة تحديات عدة في المستقبل، وإلى جانب مواجهة الإرهاب وإيران، سيتوجب عليه الاستعداد لقيام الجبهة الشرقية من جديد (العراق)، وأهم ما يمكن التشديد عليه هو العمل على توسيع الأراضي التي تمكّن إسرائيل من الدفاع عن نفسها، فالحرب المقبلة يجب أن تشهد احتلالاً لأراضي العدو، لمكافحة الإرهاب الصادر منها».
وانتقد ديان بطريقة غير مباشرة، حديث الاستخبارات العسكرية عن سقوط خسائر إسرائيلية في الحرب المقبلة. وقال «أتمنى أن نكون قد استخلصنا العبر من حرب لبنان الثانية ومن عملية الرصاص المصهور (في قطاع غزة)، علينا ابتداءً أن نعاقب تنظيمات المخربين واستهدافها وصولاً إلى القضاء عليها، كما علينا أن نحتل الأراضي التي يطلقون منها صواريخهم»، مضيفاً أن «دور الجيش يتلخص بحماية المواطنين، وإني أحذّر من الحديث الذي يتضمن احتساب عدد الإصابات، أما إذا اضطررنا إلى ذلك، فيجب أن نحتسب عدد المصابين وسط المدنيين لا وسط الجنود، وبالتالي يجب أن نوقف على الفور، أي تفكير يقدّم دماء الجنود على حساب دماء المدنيين».
وفي السياق نفسه، شدد القائد السابق لفرقة غزة في الجيش الإسرائيلي، العميد موشيه تامير، على الخبرة التي باتت لدى حزب الله في مواجهة الجيش الإسرائيلي. وقال، خلال يوم دراسي لكتائب لواء كفير، المقرر أن ينتشر قريباً بالقرب من الحدود مع لبنان، إن «لدى حزب الله خبرة واسعة حيال المواجهة مع الجيش الإسرائيلي، بل إنهم في الحزب عرّونا في السابق»، مضيفاً «إنهم يعلمون عنا كل شيء، ابتداءً من الدبابة الواحدة، وحتى موعد تبديل القوات على الحدود، وصولاً إلى أسماء قادة الألوية والكتائب».
وقال ضابط رفيع المستوى في قيادة المنطقة الشمالية لموقع الجيش الإسرائيلي أمس، إن «الوضع حالياً مختلف تماماً عما كان عليه قبل حرب لبنان الثانية، وهو أصعب بكثير عما كان»، مضيفاً أن «حزب الله الذي لا يبدو متموضعاً بالقرب من السياج الحدودي مع إسرائيل، إلا أننا نعلم أن أي حادث معه لن يكون بحجم ما عرفناه سابقاً، والتحدي الأكبر لدى الجنود، هو أن يكونوا مستعدّين لمواجهة حادثة معقدة قد تقع في أي لحظة، رغم أن الأحوال العادية لا تشير إلى أن شيئاً سيحصل».
من جهة ثانية، حذّر قائد سلاح الجمع الحربي في الجيش الإسرائيلي، العميد إيلي فولك، في حديث لموقع الجيش الإسرائيلي على الإنترنت، من تنامي قدرات أعداء إسرائيل. وأشار إلى أن «الجهات الراديكالية استغلّت هدوء العامين الماضيين، وعملت على تنمية قدراتها. فإيران تحثّ الخطى نحو بناء قدراتها عبر البرنامج النووي الخاص بها، الذي يمثّل تهديداً وجودياً لإسرائيل، وأيضاً عبر حزب الله الذي بنى لنفسه منظومة صواريخ هي أكبر بكثير من معظم منظومات الصواريخ الموجودة لدى جيوش نظامية حول العالم، أما سوريا فقد استثمرت مبالغ ضخمة في بناء جيش أكثر حداثة، مع وسائل قتالية أكبر».
وفي السياق، قال رئيس لجنة الخارجية والأمن التابعة للكنيست، تساحي هانغبي، إن «رفض روسيا تزويد إيران صواريخ من طراز اس 300، كان مدعاة سرور وغبطة في إسرائيل، بل هو أمر مشجع جداً، إلا أن الروس يزوّدون في المقابل سوريا أسلحة متطورة في أكثر من مجال، من بينها منظومات دفاع جوي وصواريخ من طراز ياخونت، ما يعني أن قدرات جديدة وغير مسبوقة باتت لدى سلاح البحرية السوري».
وأضاف هانغبي، في سياق مقابلة مع الإذاعة الإسرائيلية أمس، أن «التاريخ يعلّمنا أنّ السلاح الذي يصل إلى سوريا، أو قسم منه، يجد طريقه إلى حزب الله، وهذا الواقع تجلّى واضحاً في حرب لبنان الثانية، إذ قتل السلاح الروسي جنوداً إسرائيليين في لبنان، وحاولنا إقناع الروس بالامتناع عن ذلك، إلا أنهم لم يتجاوبوا معنا».
تداعيات أسرار أنصارية
إلى ذلك، تتواصل تداعيات كشف الأمين العام لحزب الله، السيد حسن نصر الله، اختراق المقاومة لطائرات الاستطلاع الإسرائيلية، الأمر الذي مكّنها من إبادة قوة الشييطت 13، بالقرب من بلدة أنصارية عام 1997. اذ قدَّمت عائلات الجنود القتلى التماساً للمحكمة العليا الإسرائيلية، تطالب فيها وزير الدفاع ورئيس الأركان وقائد سلاح البحرية في الجيش الإسرائيلي، تسليمهم كل المواد والوثائق التي بحوزتهم حول عملية أنصارية، إضافة إلى كل نتائج لجان التحقيق التي تألفت في أعقاب العملية.
واتهم والد أحد القتلى من الجنود، موشيه رودوبسكي، «القيادة الإسرائيلية باللامبالاة وبتصوير طائرات الاستطلاع مراراً وتكراراً لمكان العملية، الأمر الذي مكّن حزب الله من اختراق بث الطائرات وتحديد المنطقة التي تسلل الجنود إليها».