كل العلاقات السياسية في البلاد والخارج تتراجع، كل العلاقات التي يفترض أن تصون توازناً داخلياً هشّاً تكاد تنهار، ليعود كل طرف إلى خياراته الخارجية وحيدة الجانب، ويفقد ثقة الأطراف الخارجية الأخرى به. بعض العابرين الدائمين على خط بيروت ـــــ دمشق، يرددون هذه الأيام نكتة لئيمة، مفادها أنه بعد إيقاف العدّاد التصاعدي الذي رفع على مبنى تلفزيون المستقبل إلى جانب صورة رئيس الحكومة المغدور رفيق الحريري، وتحت كلمة العدالة، لإحصاء الأيام قبل الوصول إلى العدالة، هناك عداد تنازلي يجري العمل لرفعه على الحدود مع سوريا يحمل صورة رئيس الجمهورية اللبنانية، ميشال سليمان، وتحتها كلمة «المغادرة».
كانت العلاقات بين رئيسي الدولتين تقوم على مجموعة من النقاط الاستراتيجية، هي: سيادة لبنان، استقرار النظام السياسي، إقامة أفضل العلاقات مع سوريا، والحفاظ على صورة واضحة للعلاقات بين الطرفين شكلاً ومضموناً، فوق الطاولة وتحتها. وكان الطرفان متفقين على هذه الصياغة لخريطة طريق تعني ما تعنيه على المستوى الداخلي اللبناني.
إلا أن خطوات رئيس الجمهورية، وفق الرؤية السورية، لم تتوافق تماماً مع هذه الخريطة. وللتدقيق، فإن الرؤية السورية تعتقد أن مجيء رئيس البلاد كان سلفة من الأطراف المعنية بالشأن اللبناني: مصر، السعودية، الولايات المتحدة، وطبعاً حصة الأسد لسوريا نفسها، مع ما يعنيه ذلك من ضرورة انعكاس مجيئه لمصلحة الأطراف المؤيدة لسوريا في لبنان.
في الحيّز المحلي، إن رئيس الجمهورية يرى أنه يملك 2 في المئة من الأصوات التي يمكنها أن تؤيّد هذا الطرف أو ذاك أو تحيل التصويت إلى 14ـــــ 14 (أي تعادل سلبي)، وهو الأسلوب الذي اعتمده الرئيس مرات عدة. لكن في رأي سوريا، إن امتلاكها أقل من 51% من الحصة العامة في لبنان يعني العودة إلى حالة نزاع مع طرف راعٍ للأكثرية الحاكمة. فإذا كانت الأكثرية هي تيار المستقبل، فإن انخفاض الحصة السورية يعني تلقائياً اشتباكاً جديداً مع السعودية لتثبيت حصة سوريا. لكن إن كان رئيس الجمهورية هو من يُخلّ بهذا التوزيع، فمن أين يأتي التوجيه الخارجي؟
منذ بداية عهد الرئيس سليمان، وما قبل ذلك، كانت سوريا تعطي فترة مراقبة له، على قاعدة تعاونه مع حلفائها في لبنان، وهو استثمر وقوف الجيش على الحياد خلال عمليات السابع من أيار، فوصل إلى رئاسة البلاد باتفاق الأطراف المتنازعة، وبقرار تعيين، لا عملية انتخاب.
كانت سوريا، ومن أمامها الأطراف اللبنانية (المعارضة آنذاك)، يتوقعان أن رئيس الجمهورية سيتخلص من اللون الرمادي بمجرد أن يصل إلى مرحلة استقرار في حكمه، وخير من يعرف كراهية دمشق (وحلفائها) للون الرمادي هو رئيس الحكومة سعد الحريري، الذي يعرف أيضاً أن دمشق تكره السياسيين الذين يتعاملون بوجهين.
في مكان ما، تعثّرت المرحلة التي حاولت خلالها دمشق وحلفاؤها بناء الثقة مع رئيس الجمهورية؛ فسوريا، أولاً، كانت تنظر بريبة إليه، ولم تعدّه مرة صديقاً لها أو لحلفائها في بيروت. ثانياً، ارتكب رئيس البلاد زلات عسيرة، منها إعطاء الولايات المتحدة في لبنان الكثير من الأسهم، أكثر مما يوافق حلفاء سوريا، وإن كان أقل مما يريد مَن بقي من قوى 14 آذار. ثالثاً، تراجعه عما قاله في نيويورك في المحكمة الدولية. رابعاً، لعبة 14ـــــ 14 في مجلس الوزراء، التي يضمن خلالها رئيس الجمهورية حياد الحكومة (ووزرائه) وعدم اتخاذهم أي موقف فعّال، سواء أكان التصويت للعقوبات على إيران، أم لتجديد عقود شركة سوكلين.
أما ما دفع سوريا وحلفاءها في لبنان إلى اعتبار أن الأمور وصلت إلى أزمة فعلية مع رئيس البلاد (وبعض من فريقه المقرب)، فهو أمران: تأجيله جلسة مجلس الوزراء التي يفترض أن تقرر (بالتصويت إذا لزم الأمر) إيجاد مخرج لرئيس الحكومة بتحويل ملف
كانت سوريا تتوقّع أن يتخلص سليمان سريعاً من اللون الرمادي
شهود الزور إلى المجلس العدلي، ولعبه على صيغة أن الرأي القانوني في اللجنة المختصة انقسم إلى مؤيد ومعارض (وهي لعبة 14ـــــ 14 نفسها)، ومن بعدها الخطيئة الثانية مباشرة، وهي الإصرار على عقد طاولة الحوار، بمن حضر، ودفع البلاد إلى الانقسام بحدة لفريقين متنازعين، وإظهار قوى المعارضة كأنها تعرقل البحث في استراتيجية دفاعية، لا تمارس اعتراضاً على مسار لم يعد يقنع أحداً في ملفات المحكمة كلها.
إلى مرحلة قريبة، كانت المعارضة السابقة (ومن خلفها سوريا) قد نسيت بعض ما يثير ريبتها في مواقف رئيس البلاد، لكن الإصرار على إرجاء جلسة التصويت على ملف شهود الزور، وعقد جلسة الحوار، رغم عدد من محاولات أطراف في المعارضة إقناع بعض فريق رئيس البلاد بأن تأجيل جلسة وعقد أخرى، هو سياسة خاطئة. كذلك إن بعض من يعملون على خط دمشق ـــــ بيروت نقلوا كلاماً واضح المعنى بهذا الخصوص.
هذا الإصرار (الذي يشبه في مكان ما عناد رئيس الحكومة سعد الحريري) دفع الصفين الأول والثاني في سوريا إلى إهمال العديد من الاتصالات التي وردت من أشخاص محيطين بسليمان، ويبدو أن الأمر مرشح للاستمرار.
وأرسلت العاصمة السورية عبر قنواتها الخاصة إلى رئيس الجمهورية، أنها أكثر من عاتبة عليه، ولا سيما أنه قد وضع سابقاً في صورة المصالح الاستراتيجية السورية، في المنطقة، وإمكانات التعاون والتقاطع مع لبنان.