يُروى أنّ حلّاقاًَ في بلدة ريفية، كان اسمه جمال الأزعر. كان محلّه مفتوحاً طوال الوقت لكن الزبائن يمرون ولا يدخل منهم إلّا القليل. جاءه مختار المحلّة ذات يوم وقال له: واضح أنّ المشكلة في الاسم الذي ترفعه على اللافتة فوق المحل. سأله الحلاق: وما العمل؟ رد المختار مقترحاً عليه أن ينقل محلّه الى الجهة المقابلة من الشارع. واتفق معه على تغيير اللافتة ووضع لافتة جديدة كتب عليها: صالون جمال الحلاق.
بعد أيّام، جاء الحلّاق إلى المختار وسأله أن يساعده لأنه أخذ برأيه وغيّر اللافتة ونقل الدكان، ولم يدخل الزبائن. فذهب المختار ليرى النتيجة، فوجده قد غيّر مكان المحل وغيّر اللافتة فعلاً، لكنه كتب عليها: صالون جمال الحلّاق (الأزعر سابقاً)!
لم أجد أقرب من هذه الطرفة لوصف ما قام به مسيحيّو 14 آذار عندما قصدوا بكركي قبل أيّام، وخرجوا ليقرأوا على اللبنانيين بياناً فيه نصائح وتعليمات وكأنّ الحاضرين هيئة أركان الجيوش الاميركية أو كومونة باريس أو تلامذة مارتن لوثر كينغ. قرّر هؤلاء أنّ اسمهم صار «اللقاء المسيحي الموسّع»، وأنّ اجتماعاتهم سوف تعقد في بكركي لا في قريطم، لكنّهم نسوا أن عرّابهم لا يزال هو نفسه: سعد الحريري ووكيله بين المسيحيّين سمير جعجع.
لكنّ الحكيم، الذي أجاد دور العرّاب، احتقر الحاضرين وقرّر أن ينزوي بسيارته بعيداً لدقائق عن بكركي، إلى أن أبلغه الأمنيون أن الجميع قد وصلوا، فحضر ودخل في اللحظة التي كان فيها البطريرك الماروني نصر الله صفير يستعدّ للخروج من مكتبه. وحتى لا يلتبس الأمر على أيّ من الحاضرين، أدلى جعجع بدلوه في الاجتماع الموسع، مستأذناً صفير وواعظاً في الحضور. ثمّ التزم البروتوكول الذي منح الرئيس أمين الجميّل بركة قراءة البيان، لكن جعجع خشي ألّا تصل الفكرة على لسان رئيس الكتائب، فقرّر شرحها مع إضافاته في تصريح طنّان ورنّان.
طبعاً ليست المشكلة في كون هذا الفريق قد قرّر أن يجتمع من جديد في بكركي. أصلاً، ليس هناك فروق حقيقية بين موقف هذه المجموعة وموقف البطريرك صفير الذي يضطر بين الحين والآخر إلى مراضاة الغالبية من المسيحيين بكلام أو استقبالات تحت ضغط الفاتيكان الذي يناقش كثيراً موقف صفير السياسي المنحاز إلى أقلية مسيحية يسيطر على قسم كبير منها الفريق الإسلامي الموالي للغرب.
لكن ما يجب لفت الانتباه إليه وبصراحة تامة ومن دون الأقنعة والقفازات التي يعشقها الساسة في لبنان وكذلك المواطنون، هو الآتي:
أولاً: إن البطريرك الماروني لم يعد مرجعية جامعة للمسيحيين ولا على المستوى الوطني، بل هو طرف، وطرف له موقفه الحاد من مسائل وطنية كبرى. يؤيّده البعض ويعارضه البعض الآخر، وهو بعد الانتخابات النيابية التي مثلت فيها القوى المسيحية بحرية أكبر ولو مع بعض التزوير، لم يعد يصلح لكي يكون ناطقاً باسم جميع المسيحيين. وبالتالي فإنه في ظل وجود قيادات تمثيلية موجودة وناشطة، وفي ظل الانقسام الفعلي داخل متفرعات الكنيسة، وهو الانقسام الذي يطابق الانقسام في الشارع، يصعب إعادة الاعتبار إلى بكركي وإلى صفير بصفته مرجعية.
ثانياً: إن خمس سنوات من الفجور غير المسبوق، والدعم المحلي والعربي والدولي لفريق 14 آذار ولا سيما المسيحيين منهم، لم توفر لهم زيادة حقيقية في حجم تمثيلهم، ولو أن الحملات المنظمة معطوفة على بعض الأخطاء في إدارة فريق العماد عون، قد تسببت بتراجع في الحجم التمثيلي لهذا الفريق. لكن الذين انسحبوا لم يلجأوا الى قوى 14 آذار.
ثالثاً: إن أمر العمليات الصادر من الولايات المتحدة ومن عواصم أوروبية وعربية للانطلاق في مواجهة جديدة مع العماد ميشال عون ومع قوى نافذة مثل حزب الله، لن يفيد في تكبير المشهد. ولم يعد هناك مجال لجذب الجمهور إلى ساحات كبيرة، بل صار العكس قائماً، وبات من الصعب على هذه القوى المنضوية تحت عباءة 14 آذار أن تتصرف من دون دعم إضافي. وهو ما فرض اللجوء إلى بكركي من جديد، وإلى خطوات أخرى قيد التنفيذ، منها البحث عن شخصيات مسيحية تستقطب بعض جمهور المعارضة، والسعي الى ربط رئيس الجمهورية ميشال سليمان بعربة هذا الفريق المملوك بغالبيته لتيار المستقبل.
رابعاً: إنّ مشكلة «القوّات اللبنانيّة» ليست مع الجمهور الآن، بل هي تعاني من الخطيئة الأصلية، تلك التي تجعلها قوة دعم وقوة نصرة، ولها فتات المائدة، لأن طبيعة المعركة تمنع عليها أشياء كثيرة مثل أن يكون لها ممثلون حقيقيون خارج مناطق الشمال، وحتى داخل الحكومة.
ومشكلتها أنها تعرف حقيقة موقف باقي «الشركاء» في فريق 14 آذار، هؤلاء الذين سعوا إلى إعادة الاعتبار لمرجعية بكركي، لأهداف كثيرة من بينها منع تحوّل معراب إلى مرجعية نهائية لقوى 14 آذار المسيحية. وبين أصحاب هذا الرأي من يريدون للقوات أن تكون قوة الفعل على الأرض لكن من دون أن تكون صاحبة الإمرة. وهو الأمر الذي تجلّى أخيراً في رفض قيادات كثيرة من مسيحيّي 14 آذار الانضمام إلى ائتلاف يذكّر بمجلس القوات اللبنانية السابق، ويضمّ أحزاباً أو شخصيات. وفضلت هذه الشخصيات العمل باستقلالية إضافية مع سعيها للحصول على تمويل مستقل من الفريق المموّل سواء في قريطم أو الخارج.
فقط في أفلام الكرتون، يجري تحويل الفأر الى فيل!