في مقابلة نُشرت على شكل مقال للزميل ثائر غندور قبل فترة في «الأخبار»، تحدّث مرجع أمنيّ لصيق برئيس الحكومة (المدير العام لقوى الأمن الداخلي اللواء أشرف ريفي) عن أنّ المعلومات بشأن تورّط الحزب في اغتيال الرئيس رفيق الحريري متوافرة منذ وقت طويل. كان يشير طبعاً (ما لم ينشر في التقرير نفسه يومها) إلى معطيات كثيرة بينها آثار حمض نووي وشبكة اتصالات خلوية ومعلومات استخباريّة أخرى تؤكّد تورّط جهاز أمني وعسكري في الحزب في الجريمة.
طبعاً، ثمّة أشياء كثيرة لم تُنشر بعد عن طبيعة المعلومات التي قدَّمتها قوى الأمن الداخلي إلى لجان التحقيق الدولية المتعاقبة بشأن التحقيقات التي أجراها فرع المعلومات في الجريمة، من بينها مذكرات مهمة لتقصّي أثر وجمع معلومات عن قادة في حزب الله، صدرت في 2005، إضافةً إلى مذكرات بحث وجمع معلومات عن أشخاص يعدّهم فرع المعلومات عناصر من الجهاز الأمني في حزب الله، فضلاً عن جهد موثّق عن تصوّر للتركيبة التنظيمية لأجهزة المقاومة العسكرية والأمنية، وكذلك تقرير مفصّل عن ملف الاتصالات الهاتفية، سُلّم الى لجنة التحقيق الدولية خلال تولّي القاضي سيرج براميرتس رئاستها (يقع التقرير الذي تتحفّظ «الأخبار» عن نشره في 28 صفحة، وهو مؤلّف من 5502 كلمة، وقد بُوِّب بطريقة مدروسة في سبعة بنود، مع إشارة «سرّي للغاية»، وتضمّن أرقام شبكات الهواتف، وهو صادر عن فرع المعلومات في قوى الأمن الداخلي بتاريخ 30 حزيران 2006).
خلال العامين الماضيين، حصل نشاط إعلامي وسياسي مكثّف في الملف برمّته. وكان لافتاً أن قنوات تلفزيونية عالمية لم تسعَ حقيقةً الى إعداد أفلام وثائقية عن الأمر بحجة عدم توافر معطيات كافية، أو عدم وجود عناصر بصرية ضرورية، لكن ثمة جهة نافذة في لبنان وفي السعودية وفي دولتين عربية وأوروبية، قررت تقديم المساعدة في إنتاج وثائقي يصنَّف في خانة «العمل الاحترافي»، وعُهد إلى شركة عبد الرحمن الراشد الإنكليزية إعداده، بإشراف من الراشد الذي أجرى ومساعديه سلسلة من الاتصالات المهمّة للحصول على دعم معلوماتيّ خلال إعداد الفيلم، الذي أعلن إنجازه عام 2009 بعد أكثر من سنة من العمل عليه. وهو يتضمّن معلومات ينسبها الفيلم إلى مصادرها الأصلية، تدور في نهاية الأمر حول الفكرة نفسها: تورّط حزب الله في الجريمة.
معطيات الفيلم
يبدأ الفيلم بإعادة تمثيل آخر لحظات عاشها الحريري قبل الانفجار، مع عرض لدوره في الشرق الأوسط، ومساعيه لوقف الحرب الأهلية وإعادة إعمار بيروت. ويُستضاف مروان حمادة، وليد جنبلاط، سعد الحريري، فارس بويز (وهو من أواخر الأشخاص الذين صافحهم الحريري)، ودايفيد ساترفيلد، السفير الأميركي الأسبق في لبنان. ثم يجري عرض لمراحل التحقيق اللبناني، فيُستخلَص كلام من اللواء أشرف ريفي عن «أخطاء ارتُكبت من خلال العبث في مسرح الجريمة»، ثم ينتقل الفيلم إلى عمل لجنة التحقيق الدولية برئاسة ديتليف ميليس، حيث تُستعاد التقارير وكاميرا البنك البريطاني وسيارة الميتسوبيشي المحمّلة بالمتفجرات والقول إنّ السائق الانتحاري كان متوقّفاً خارج الفندق بانتظار الموكب، ثم يلي ذلك عرض لمشاهد تمثيلية لكيفية وضع «شريط أبو عدس» على الشجرة والاتصال بقناة «الجزيرة» والقول إنّ أحمد أبو عدس اختفى قبل شهر من اغتيال الحريري، وإنّ تسريب الشريط هدفه التضليل. وتجري الاستعانة مرةً جديدة باللواء ريفي، الذي يقول إنّه لم يُعثر على أيّ دليل بواسطة الـ«دي. أن. آي» يربط أبو عدس بمسرح الجريمة.
ويشير الفيلم، بحسب روايته، إلى اتهام سوريا «التي كانت تحتل معظم الأراضي اللبنانية لمدة 30 عاماً، ولا يمكن أيّ زعيم لبناني التحرّك دون موافقة دمشق، لكن رفيق الحريري كان ملتزماً ومصمّماً على سيادة لبنان، ما جعله على خلاف حاد مع بشار الأسد»، مع تعقيب لنائب الرئيس السوري السابق عبد الحليم خدام جاء فيه: «بشّار يعتقد أن لا أحد يستطيع أن يقف في وجهه أو يخالفه». ويتحدث خدّام عن مرحلة التمديد للرئيس إميل لحود قائلاً: «دخلتُ على بشار وكان مضطرباً ومتوتراً وقلقاً، قال لي «كان الحريري عندي وهو يلعب، يعتقد أن باستطاعته الإتيان برئيس للجمهورية، قلت له أنا الذي آتي بالرئيس، ومن يفكّر في الخروج عن سياستنا فسنطحنه طحناً»، معنى هذا الكلام أنه سيطحنه، «أي إن المتآمر عقوبته الموت».
وفي عودة إلى التحقيقات، تظهر مشاهد تمثيلية تجسّد النقيب وسام عيد (المسؤول عن الفرع التقني في فرع المعلومات) وهو يتابع التحقيق في شبكة الاتصالات الخلوية. ويورد الفيلم أن «الاختراق الكبير في التحقيقات جاء عبر الكابتن وسام عيد خبير الاتصالات، جرى تحليل 70 ألف اتصال أُجريت في يوم اغتيال الحريري، النتائج كانت باهرة». يضاف إلى ذلك شرح لحكاية الخطوط الهاتفية الخلوية الثمانية، وعرض مشاهد تمثيلية لشبان ملتحين يجرون اتصالات في ما بينهم، قبل أن يجري استخدام واستكمال مشاهد الشبان في المقطع الأخير من الفيلم عند اتهام عناصر من حزب الله. ويضيف الفيلم إنّ تحقيقات عيد «كشفت أنّ أحد مستخدمي الهواتف اتصل بمسؤول كبير في الاستخبارات السورية العاملة في لبنان... وظهرت دلائل أخرى تدين سوريا، حيث تُعرض هنا مشاهد الشبان وهم يجهزون قنبلة ضخمة داخل سيارة».
وبعد الإشارة إلى محمد زهير الصديق من دون تسميته، ينتقل الفيلم إلى مرحلة توقيف الضباط الأربعة مع مشاهد تمثيلية لعملية «دهم منازل أربعة ضباط كبار مشتبه في تعاونهم مع الاستخبارات السورية في جريمة الحريري... الجنرالات كانوا يخططون لمغادرة البلاد تفادياً للاعتقال».
يقول اللواء أشرف ريفي في هذا الصدد: «خلال عملية التفتيش التي قامت بها لجنة التحقيق الدولية بحماية ومؤازرة منا، عثروا طبعاً على كميات من المال لدى الضباط، وعلى جوازات سفر ومستندات كانت في منازلهم». وبعد ذلك، يحكي الفيلم عن تسليم ميليس السوريين لائحة بأسماء من يريد التحقيق معهم. ثم يقول ميليس في مقابلة خاصة بالفيلم إنّ سوريا «كانت تضع جداراً أمام أيّ مجهود للتحقيق داخل سوريا، وقد وصلنا إلى نتيجة أنّ الدافع السوري كان سياسياً، وكان من الصعب التصور أن الاغتيال كان يمكن أن يحصل من دون دعم، أو على الأقل معرفة، أجهزة الاستخبارات اللبنانية السورية».
الأسد لخدّام: الحريري يلعب، هو يعتقد أن باستطاعته الإتيان برئيس للجمهورية
لكن ذلك ليس كافياً، بحسب المعدّ، إذ يعود خدّام الى الظهور: «أنا أقولها بوضوح، وقلت هذا الكلام في لجنة التحقيق، إنه ليس هناك قرار أمني في سوريا يتّخذه شخص عادي. القرار الأمني يتخذه رئيس الدولة»، ثم يتابع الفيلم مسار التحقيق وصولاً إلى مرحلة إنشاء المحكمة الدولية الخاصة بلبنان عام 2007.
ويعرض الفيلم واقع «فتح الإسلام» باعتبارها «مجموعة إرهابية متأثرة بالقاعدة، ويُعتقد أنها مدعومة من سوريا» (الغريب أن المَشاهد التي وضعت على هذه الجملة هي مشاهد أحداث الجامعة العربية). ثم يتابع الفيلم قصة تفجير عين علق واكتشاف هوية من نفّذ التفجير، مع مداخلات من اللواء ريفي وقصة مقتضبة لمعركة نهر البارد.
اتّهام حزب اللّه
ثم ينتقل الفيلم إلى تقرير «دير شبيغل» ليبدأ حكاية اتهام حزب الله. وفي أحد المشاهد، تظهر وثيقة بالإنكليزية لثوانٍ معدودة. لكن بمجرد إيقاف الصورة، يمكن قراءة محتوى الوثيقة وهي بعنوان «لبنان/ حزب الله يقف خلف اغتيال الحريري»، وفي النص نجد المعلومات الآتية:
في الأسابيع التي سبقت جريمة الحريري، قام عدد من خلايا وعناصر من حزب الله بمراقبة عن قرب لتحركات رئيس الوزراء الأسبق، وجمعوا معلومات دقيقة عن تحركاته وانتظروا الفرصة السانحة لاغتياله.
بناءً على معلومات متراكمة، قامت بهذا النشاط وحدة صغيرة في حزب الله يرأسها (؟) (جرت تغطية الاسم مع إرفاق صورة فوتوغرافية أخفي وجه صاحبها)، وهو قيادي رفيع يتمتع بماضٍ غني في القيادة، وهو من منطقة النبطية جنوب لبنان، مولود بتاريخ 15 تشرين الثاني/ نوفمبر 1963، ويعيش حالياً في المنطقة الشيعية جنوبي بيروت... هو أيضاً قائد وحدة سرية تتولى نشاطات سرية على الساحة اللبنانية، متزوّج وله ثلاثة أولاد... هذا القائد (؟) كان قائد فرقة الاغتيال. وكان يبدو مسؤولاً عن إحضار شاحنة ميتسوبيشي بيضاء في أواخر كانون الثاني/ يناير 2005 من مكان بعيد عن بيروت بطريقة تظهره بعيداً عن شبهة إحضار المركبة. وقد قامت وحدة التفجير المتخصصة في حزب الله، التي لديها خبرة عظيمة في تجهيز عبوات السيارات المفخخة، بتحويل المركبة إلى سيارة مفخخة وجهّزتها بـ1000 كلغ من متفجرات من مختلف الأنواع (TNT, C4, RDX)، علماً أنّ هذه الوحدة بقيادة (؟) كانت عام 2005 تتبع مباشرةً للقائد العسكري لحزب الله عماد مغنية».
ثم يمكن القراءة في أسفل الوثيقة المعلومات الآتية: «أياد، تاريخ ميلاده في 20 نيسان/ أبريل 1960، وهو مخبر سابق في جهاز حزب الله للعمليات الخارجية».
ORTV وعبد الرحمن الراشد
ORTV هي شركة للإنتاج التلفزيوني أطلقت عام 1995 ومركزها لندن. أسّسها الإعلامي السعودي عبد الرحمن الراشد (الصورة) مع زميله عثمان العمير، لكن الأخير غادرها ليترك ملكيّتها وإدارتها للراشد، الذي يشغل اليوم فيها منصب المؤسس والرئيس. تُعنى الشركة بإنتاج أفلام وثائقية (سياسية، تاريخية، دينية وفنية...) وبرامج تلفزيونية عرضت معظمها على قنوات «هيئة الإذاعة البريطانية» وعلى قناة «العربية»، وأخيراً على «الجزيرة» الإنكليزية.
نذكر من بين الأعمال الوثائقية: شريط «الملك فهد» الذي يتضمن مجموعة مقابلات مع الملك السعودي الراحل فهد بن عبد العزيز أجريت بين عامي 2001 و2002 وعرض بعد وفاته. وفي عام 2007 أنتجت الشركة وثائقياً من 5 أجزاء بعنوان «الملك عبد الله» بمناسبة الذكرى الثانية لتولّي الملك عبد الله بن عبد العزيز الحكم وبثّت «العربية» الحلقة الأولى منه، ثم أوقف عرضه بأمر من العائلة المالكة السعودية. ومن أشهر وثائقيات ORTV أيضاً «حرب من أجل الخليج» (1996)، «الحجّ» (2001)، «الطريق الى أبو غريب» (2005)، «هم ونحن» (2006)، «أصوات ثوّار إيران»، «إيران النووية» (2010)، «الملك عبد العزيز والقوى العظمى» (2010)... إضافة الى برنامج «العين الثالثة» الذي عرض على «العربية».
عبد الرحمن الراشد (54 عاماً) قدّم استقالته من قناة «العربية» في شهر أيلول الماضي لأسباب قيل إنها تتعلق ببث سلسلة وثائقيات حول الإسلام والغرب والإرهاب، لكن الاستقالة رُفضت فبقي يشغل منصب المدير العام للقناة السعودية.
بدأ الراشد مسيرته الإعلامية في صحيفة «الجزيرة» السعودية في واشنطن، حيث درس الإنتاج السينمائي. ثمّ أصبح عام 1987 رئيس تحرير مجلة «المجلة» السعودية التي تصدر من لندن. ثم انتقل إلى صحيفة «الشرق الأوسط» السعودية ليتسلّم رئاسة تحريرها عام 1998، قبل أن ينتقل عام 2003 إلى «مركز تلفزيون الشرق الأوسط» (إم بي سي) وتحديداً الى قناة «العربية». وهو لا يزال كاتباً رئيسياً في «الشرق الأوسط».