وزير الدفاع، إيهود باراك، يصرّح في مؤتمر الجاليات اليهودية الأميركية في نيو أورلينز (8/11) بأن حزب الله وحماس باتا يمثّلان خطراً يهدّد مستقبل إسرائيل. رئيس الأركان، غابي أشكينازي، يقول في كلمة له أمام «المؤتمر الدولي حول القتال المشترك في المناطق المبنية» (8/11) إن إسرائيل ستكون مضطرة إلى القيام بعمليات إخلاء لسكانها خلال أي نزاع مستقبلي مع حزب الله في لبنان أو مع حماس في قطاع غزة. رئيس شعبة الاستخبارات العسكرية، عاموس يدلين، يؤكد خلال عرض أمني قدمه أمام لجنة الخارجية والأمن في الكنيست (3/11) أن المواجهة المقبلة بين إسرائيل والجهات المعادية لها ستكون متعددة الجبهات، مضيفاً: «لا يمكن الاستدلال على المستقبل مما حصل في حملة الرصاص المصهور على غزة، أو خلال حرب لبنان الثانية، فما سيحصل سيكون أكبر بكثير، أوسع بكثير، مع عدد أكبر بكثير من الإصابات». ويختصر يدلين وجهة نظره للمقايسة التي يحاول أن يوضحها بالتشديد على أن عدوان تموز 2006 وكذلك العدوان على غزة نهاية عام 2008، كانا «عمليات عسكرية واسعة» ولا ينبغي التعامل معهما بوصفهما حرباً بالمعنى العسكري للكلمة. القيادي في حزب كاديما، شاؤول موفاز، الذي شغل سابقاً منصبَي رئيس الأركان ووزير الدفاع، يحذر من على منبر المعهد السويدي للعلاقات الدولية في ستوكهولم (4/11) من الهدوء الاصطناعي في الشرق الأوسط، منبّهاً من أن المنطقة تدنو من جولة مقبلة ستكون أكثر إيلاما من سابقاتها. قيادة الجبهة الداخلية توزع (7/ 11) على المجالس البلدية في إسرائيل كراريس تتضمّن آخر تحديث لسيناريوهات الحرب وخسائرها المتوقعة في المناطق المختلفة. تفترض هذه السيناريوهات أن الحرب ستشتعل على جبهات عدة بنحو متزامن، وتجزم بأن منطقة الوسط (حاضرة تل أبيب) ستكون عرضة للصليات الصاروخية بنسبة لا تقل عن المنطقة الشمالية خلال المواجهة التي ستمتد «بوتيرة تقليدية» فترة شهر، ويسقط خلالها مئات القتلى وتتعرّض فيها المنشآت الاستراتيجية والقواعد العسكرية للدمار. مراسل الشؤون العسكرية في صحيفة «هآرتس»، عاموس هارئيل، يكشف (5/11) أن إسرائيل أجرت العام المنصرم تدريبات مختلفة على سيناريوهات حرب يتعرض فيها عشرات آلاف المواطنين للإصابات جراء سقوط ألف صاروخ يومياً يطلقها حزب الله وحده.
الشهادات المذكورة هي جزء من حفلة تجبين متقدمة في إسرائيل، وهي لا تمثّل استثناءً في أدبيات الحرب الإسرائيلية، لكنّ أهميتها تكمن في السياق العام الذي أصبحت تل أبيب تقارب من خلاله الحرب المقبلة دون الشعور بحرج تداعياته المحتملة على صورتها أمام شعبها وأعدائها (وهذا شأن جدير بمناقشة منفردة). وثمة أمر أهم يتمثل في مفارقة مفادها أن الإقرار الإسرائيلي العلني بأهوال الحرب المقبلة وأثمانها هو نسخة مغايرة إلى حد التناقض عن الخطاب الحربي الإسرائيلي قبل نحو عامين من الآن. آنذاك، انطبع الخطاب المذكور بعبارات كانت أشبه بـ«الكليشيه» الذي تردّد على لسان كل مسؤول، وبالأخص وزير الدفاع باراك ورئيس الأركان أشكينازي. يمكن تلخيص مضمون هذا الكليشيه بالتالي: «إن الانتصار في الحرب المقبلة سيكون واضحاً وحاسماً ولا لبس فيه وفي فترة زمنية قصيرة وعلى أرض العدو في ظل تحييد جبهتنا الداخلية». أمام هذا التحول الجذري في الخطاب الإسرائيلي تفرض جملة من التساؤلات نفسها، بعضها يتعلق بأسباب وخلفيات هذا التحول، وبعضها الآخر بدوافع التعبير العلني عنه.
في مناقشة الأسباب، يمكن افتراض عدد من الاحتمالات دون الاضطرار إلى الترجيح بينها، علماً أن لا شيء يمنع أن يكون السبب الفعلي للتحول كامناً في المجموع المتداخل لمفاعيلها. أول هذه الاحتمالات هو الزلزال الذي أصاب البنية الاستخبارية لإسرائيل في لبنان. ومن يفهم العقل العسكري الإسرائيلي يعلم أن إعداد الأرضية الاستخبارية ضد العدو يمثّل حجر الزاوية في أية خطة عملانية لديه. وبما أن شبكات التجسس البشري هي من أهم عناصر هذا الإعداد، فإنه يمكن القول إنّ التسونامي الذي تعرضت له الأخيرة في لبنان خلال العامين الماضيين أفقد الجيش الإسرائيلي قرون الاستشعار التي كان يراهن عليها في بناء بنك الأهداف المتصل بالمقاومة، الذي لا يمكنه أن يحسم الحرب من دونه. ويمكن العثور في كلام أشكينازي على ما يدعم هذه الفرضية، إذ لفت في خطابه المشار إليه أعلاه إلى أن الجيش الإسرائيلي «يعمل الآن على إنشاء بنوك أهداف للنزاعات المستقبلية مع حزب الله وحماس، كي لا تدخل القوات الإسرائيلية في حرب تكون فيها بحاجة إلى البحث عن عدو يختبئ بين المدنيين»، مؤكّداً في السياق على أهمية «توجيه ضربات استباقية قوية إلى العدو استناداً إلى معلومات استخبارية دقيقة في بداية القتال». الاحتمال الثاني هو القدرات النوعية التي كشفت المقاومة عن امتلاكها لها خلال العامين الماضيين، وهي قدرات ذات طابع استراتيجي بكل ما للكلمة من معنى. ولأنها كذلك، فهي تفرض بالضرورة تحولاً من الوزن الاستراتيجي على التفكير الإسرائيلي في مقاربة الحرب، لعله التحول الذي يدور حوله الحديث. وقد أشار عاموس هارئيل في مقالته المقتبسة أعلاه في «هآرتس» إلى ما يؤكد الفرضية المتقدمة، إذ إنّه يرى أن «التغيّرات في التوازن العسكري القائم بين إسرائيل وأعدائها ليست ناجمة فحسب عن تحولات في مجال الوعي وتبني منطق المقاومة عوضاً عن منطق الحسم في مواجهة الجيش الإسرائيلي». ويوضح: «لقد أصبحت المقاومة مرتبطة بالتطورات التكنولوجية، إذ أصبح السلاح الدقيق في متناول يدها ومثله القدرة على التحكم في رمايات واسعة النطاق، بحيث صار التهديد أكثر دقةً ودماراً، وأبعد مدى ليطاول كل أنحاء إسرائيل».
الاحتمال الثالث يعزو جذور التحول إلى التطورات السياسية التي شهدتها المنطقة خلال الفترة الأخيرة، والتي وصلت إلى ذروتها في الإعلان الضمني للتحالف الدفاعي المشترك الذي جسدته قمة دمشق الثلاثية بين الرئيسين بشار الأسد وأحمدي نجاد والأمين العام لحزب الله، السيد حسن نصر الله، في شباط المنصرم. فما عنته هذه القمة من الناحية الاستراتيجية (وهي الناحية التي من المؤكد أن إسرائيل التقطت مغزاها) هو أن عهد الاستفراد بالمقاومة في لبنان قد ولّى، وأن أية حرب على الشطر الغربي (اللبناني) من الجبهة الشمالية ستكون مفتوحة على واقع التدهور نحو مواجهة إقليمية طاحنة لا أحد يمكنه أن يضبط إيقاعها، فضلاً عن نتائجها.
ولّى عهد استفراد إسرائيل بالمقاومة وأيّ تصعيد قد يجر إلى حرب واسعة
وفي الانتقال إلى مناقشة ما يدفع إسرائيل إلى التصريح بخوفها وهلعها على الملأ لا بد من الإشارة أولاً إلى أن هذا السلوك يخالف كل التراث الردعي الذي بذلت إسرائيل جهداً عمره عشرات السنين لتكريسه في وعي أعدائها. هذا القطع الواضح مع تقليد الغطرسة والاستخفاف بالآخر (العربي) والإيحاء الدائم بأن الانتصار الحاسم عليه مسألة قرار بإطلاق رسن الآلة العسكرية فحسب، لا يمكن تفسيره بغير الاعتراف الضمني في دوائر القرار الإسرائيلية بأن البند المتعلق بتحييد الجبهة الداخلية في العقيدة الأمنية لتل أبيب قد سقط، وتالياً صار لزاماً على القادة إعداد الرأي العام لتداعيات هذا السقوط حتى لو كان الثمن إفقاد المواطنين شعورهم بالأمن الشخصي. ضمن هذا الإطار، يمكن فهم ليس فقط سلسلة التصريحات الإسرائيلية المشار إليها أعلاه، بل أيضاً السياق الهادف إلى إعداد الجمهور الإسرائيلي للانكشاف على ويلات الحرب والتطبّع المسبّق معها، وهو سياق بدأ بعد عدوان تموز 2006 ولمّا ينتهِ إلى الآن.
وبين الخلفيات والدوافع، يبقى أن ثمة نتيجة عَرَضية لما تقوم به تل أبيب هي الانعكاسات المعنوية السلبية على الجمهور الإسرائيلي (وكذلك الجيش على الأرجح). فإلى جانب تطبيع هذا الجمهور على فكرة تحوّل مساحته المعيشية الخاصة والعامة إلى جبهة قتال خلال الحرب، لا يبدو أن الدوائر المعنية في إسرائيل وجدت صيغة للالتفاف على القيام بهذه المهمة من دون تطعيم هذا الجمهور بجرعات جانبية مرافِقة من التثبيط والإحباط والخوف. وإلى أن تتمكّن من العثور على هذه الصيغة، يمكن الأمين العام لحزب الله، الإفادة من وقت مستقطع في الحرب النفسية التي يمارسها ضد إسرائيل، ذلك أن الأخيرة أصبحت كما يبدو تقوم بالمهمة نيابةً عنه.
عمليات عسكرية محدودة أم عملية واسعة؟
رأى معهد دراسات الأمن القومي، التابع لجامعة تل أبيب، أن إسرائيل، بعد مرور أربع سنوات على انتهاء «حرب لبنان الثانية»، فشلت في بلورة استراتيجية واضحة لمعالجة التهديد الذي يمثّله حزب الله. ورأى المعهد، في دراسة أصدرها أخيراً بقلم الباحث ندير تسور، أن هذا الفشل يطفو بقوة على السطح في ظل عدم تمكّن إسرائيل من فعل أيّ شيء لمنع حزب الله من مواصلة التزوّد بالأسلحة المتطورة، التي سيستعملها في المواجهة المقبلة ضدّ إسرائيل.
وأشارت الدراسة إلى أن استمرار حرب لبنان الثانية لمدة 34 يوماً، وتعرض العمق الإسرائيلي خلالها للقصف اليومي من جانب حزب الله، أدّيا إلى إفقاد الجيش الإسرائيلي الثقة بالنفس، وإلى التأثير سلباً في وعيه من الناحية النظرية ومن الناحية العملياتية.
ووفقاً للاستنتاجات التي توصّل إليها الباحث، فإن إسرائيل، بسبب الخلافات السياسية الداخلية والتفاوت في المواقف بين القوى السياسية الفاعلة، لم تتمكّن حتى اليوم من وضع استراتيجية واضحة لكيفية مواجهة حزب الله. وفي رأي تسور، يبرز الفشل الإسرائيلي جلياً وواضحاً في قضية تسلّح حزب الله بعد الحرب، إذ إنه على الرغم من أن الحزب يواصل مراكمة ترسانته العسكرية بطريقة مقلقة، فإنّ إسرائيل لا تفعل شيئاً لوقف عملية التسلح، وهذه الأسلحة المتطورة التي يواصل حزب الله التزوّد بها سيستعملها في المواجهة المقبلة ضدّ إسرائيل. وإذ شدد على أن فشل إسرائيل في وضع استراتيجية لمواجهة حزب الله يؤثر سلباً في مستقبلها، لفت الباحث إلى أن صنّاع القرار الإسرائيليين لم يتوصلوا حتى اليوم إلى حسم المعضلة المتصلة بكيفية العمل على إجهاض التهديد الذي يراكمه حزب الله: القيام بعمليات عسكرية محدودة ضدّ الحزب وتحقيق نتائج قيّمة، أم القيام بعملية عسكرية واسعة النطاق لضرب البنية التحتية اللبنانية وتحقيق الردع. ولا يخفي تسور انحيازه إلى الخيار الثاني، مشيراً إلى أن اعتماده سيضع حداً للحزب عن معاظمة قوته العسكرية واستغلالها في مناسبات عديدة في نزاعات صراع البقاء العنيفة التي يديرها في الداخل اللبناني.