حين اتصل حسين نصر الله للسؤال عن الشقة المعروضة للبيع في منطقة بعبدا، جاء الجواب، بعدما سُئل عن اسمه، أنها بيعت. ابنه الذي طلب منه مراراً الكفّ عن البحث في المناطق المسيحية، أراد أن يبرهن لأبيه صحة ما يعتقد. أعاد طلب الرقم مدعياً أن اسمه إيلي خوري: «أهلاً أستاذ، يمكنك القدوم وقتما تشاء لمعاينة الشقة»!
مرّت السنوات العشرون على انتهاء الحرب لتبرهن أن الاختلاط الذي أنتجته فترة سماح سببها الفوضى ولملمة الماضي، مجرّد كذبة. وكأن الرشد غادر اللبنانيين مؤقتاً، وما لبثوا أن استعادوه. عادوا يتكومون بعضهم فوق بعض طائفياً، رافضين الآخر.
لم يكن في الاسم الثلاثي لرلى أي دلالة على هويتها الطائفية. ذهب صاحب الشقة السنيّ التي أرادت استئجارها في وقاحته إلى النهاية. سأل عن مسقط رأسها وطائفتها. لم يكفه أنها سُنية، فارتباطها بشاب شيعي دفع المالك الحريص على منطقته إلى الاعتذار منها بصراحة؛ لأن «الشيعة ما أجرونا لمّا رحنا لعندون».
وأن يتجه ثنائي إلى منطقة رأس النبع بحثاً عن شقة، لهو التهور في ذاته. تحوم الأسئلة حوله: «كيف تنويان السكن في منطقة تماس بين السُّنة والشيعة؟».
وإن كان الشيعي خطراً على المسيحي، فللسُّني أيضاً نصيبه. عين الجديدة قرية مسيحية معروف أنها تعجّ بالمصطافين، مثل القرى التي تحاذيها. يروي ناسها قصة رجل اشترى قطعة أرض بُعيد انتهاء الحرب الأهلية وتركها على حالها، لكنه عاد قبل فترة محاولاً شراء العقار الذي يحاذيها لكي يوسع مساحته ويعمّر بيتاً له. تدخلت البلدية ومارست ضغطاً على صاحب الأرض كي لا يشتري من الرجل الذي صودف أنه من الطائفة السنية.
لا تقتصر المسألة على التقسيم الطبقي للناس. فالأصفار الستة التي يملكها بعض الشارين لم تعد جواز عبورهم وهجرتهم إلى غير بيئتهم الطائفية. ومَن كان علمانياً وخَبرَ العيش في مناطق معروفة باختلاطها تاريخياً، اختلطت عليه الأمور ودفعته إلى العودة مكرهاً إلى أحياء لطالما مقت العيش فيها. لكن اليوم لا خيار له إلا الاحتماء بالطائفة؛ لأن عامل الأمان النفسي والاجتماعي أصبح أولوية.
بعض اللبنانيين اختبروا الاختلاط الحقيقي حين اختاروا العيش في منطقة الطائفة الأخرى، متجاوزين سنوات الحرب ومخاوف المحيطين بهم، مقتنعين بتقبّل هذا الآخر لهم أو متجاهلين إياه ومتحمّلين الضيق الذي ينتج منه، لأنهم، انطلاقاً من نظرتهم العلمانية، يعرفون أن السلبيات لن تحسب أمام أن ينشأ أولادهم في بيئة غير بيئة طائفتهم لكي يعيشوا الاختلاف الحقيقي. هذه هي حال طارق، الشاب المسيحي الذي يرى أنه لا سبيل لزرع العلمانية في قلب أولاده، إلا إذا انتقل للعيش في منطقة ذات وجود طاغ للطوائف المسلمة. وتقول أسرة مسلمة اختارت السكن في فرن الشباك: «إذا كان لا بد للحرب من أن تقع، فليس بالضرورة أن يضطروا للعودة إلى مناطقهم (نسبة إلى الطائفة). فالبعض حمى جيرانه من طوائف أخرى خلال الحرب الأهلية». تجاوزت هذه الأسرة رفض المالك المسلم (علماً بأنه اشترى لاحقاً من بعض المسلمين) بيع شقق أخرى لمسلمين، مراعاة للبلدية التي اشترطت عليه لإنهاء معاملات بيع العقار وتسهيل حصوله على الأذونات، ألّا يشتري من غير المسيحيين. تجاوزت كل هذه الأمور لأنها أدركت أنها لن تستطيع العيش في المنطقة التي خصّصت لها اجتماعياً، لأسباب نفسية واجتماعية واقتصادية عدّة.
لكن، قد يجوز السؤال هنا: هل هذه الأسرة متأكدة من الحماية التي ستحظى بها إذا اندلعت الحرب؟ وماذا عن موقف جيرانها المسيحيين منهم؟ تقول إنه لا تجمعهم بجيرانهم سوى التحيات الصباحية والمسائية، نظراً لانهماكات الجميع، إلا أنهم لا يشعرون برفض هؤلاء المسيحيين لهم أو بجفلتهم منهم.
الوضع في لبنان دخل «أسوأ حالاته الديموغرافية ومستقبله الاجتماعي»، انطلاقاً من تكريس الفرز الطائفي والمذهبي في الأحياء والأبنية. هذا ما يقوله عالم الاجتماع زهير حطب. قد يكون هذا امتداداً صامتاً لفترة الحرب الأهلية، التي لم تستطع بعدُ انتشال الخوف من نفوس جميع اللبنانيين. حتى الجيل الجديد الذي لم يعش الحرب، تحوّل إلى ضحية لهذا الماضي الذي يرفض أن يوضع جانباً.
يتطابق تحذير حطب مع كثرة تداول الشائعات أو الحقائق عن فرز طائفي بدأ عدد من البلديات المسيحية تطبيقه علناً. هذه الشائعات طاولت بلديات الحدث وجزين وكفرشيما. يقول المسلمون، الشيعة منهم خصوصاً، إن بلدية الحدث أصدرت قراراً يمنع بيع المنازل والأراضي التي يملكها مسيحيون. قرارٌ نفاه رئيس البلدية جورج عون بشدة (رغم أنه تحدث عنه جهاراً على إحدى الشاشات)، لكنه لم ينف وجود مثل هذه الإجراءات. تبريره أنه ليس قراراً بقدر ما هو إقناع مسيحيي الحدث بعدم بيع ممتلكاتهم والبحث عن السكن في أماكن أخرى، رائياً إلى جهوده على أنها للحفاظ على هوية الحدث تكريساً للاختلاط الطائفي بين المناطق، وليست فرزاً!
دائرة نفوس الحدث تشير إلى ديموغرافية المنطقة على الأرض قبل الحرب. كانت مكونة من 9 آلاف ماروني، ألفي أرثوذوكسي، 700 كاثوليكي، 700 شيعي و700 سني. دائرة النفوس حافظت على أرقامها هذه حتى اليوم، إلا أن واقعاً جديداً فرض نفسه بعد الحرب، ويتمثل بـ«التمدد الشيعي».
يضع عون خريطة الحدث فوق مكتبه. يشرح ديموغرافيا المنطقة حالياً ويقسمها قسمين متساويين: الجزء الذي تعرض «للتمدد الشيعي» كان عبارة عن أراض زراعية غير مسكونة، باعها أصحابها المسيحيون من الشيعة بعد انتهاء الحرب، حتى كوّنوا الغالبية. أما القسم الآخر، الذي يعرف بالحدث الضيعة، فهو ذو الغالبية المسيحية، وهو الجزء الذي تسعى البلدية إلى طمأنة ساكنيه وحثهم على عدم مغادرة بلدتهم، فيما التنسيق جار مع حزب الله للمساعدة على تفهم الوضع ومحاولة الحد من توسع المسلمين إلى أكثر من الحدود المرسومة لهم.
يضيف عون أن نحو 60 في المئة من التلامذة في المدارس (المسيحية) هم شيعة.
«الشائعة» نفسها تنسحب على بلدية جزين. ينفي رئيس البلدية وليد الحلو هذه التهمة، مشيرأ إلى أنه «لم يعد هناك أراض للبيع في المنطقة».
كيف يمكن تصنيف مناطق الحدث وفرن الشباك وبعبدا وقلة غيرها؟ يقول حطب: «انقضى عهد الاختلاط الطائفي، وبتنا نتّجه نحو الفرز الطائفي والمذهبي في الأحياء والأبنية». يرفض استخدام عبارة اختلاط لأنها، في رأيه، وصف خاطئ للوضع القائم، مفضلاً كلمة تجاور، بمعنى عائلتين تسكنان جنباً إلى جنب بلا إضافات. ولتقريب فكرته، أعطى مثالاً زوجاً وزوجة يجلسان على كنبة واحدة، فيما يدير كل منهما ظهره للآخر.
ويعطي حطب مثلاً آخر عن الجامعة اللبنانية. يقول: «كان الاختلاط الطائفي أمراً واقعاً. اليوم، طغى اللون الواحد على الجامعة». يتابع أن «ما نسبته 90 في المئة من الطلاب هم من لون واحد، مقابل 10 في المئة من طوائف أخرى، لكنهم مرغمون».
واقعٌ فرضته الحرب وكرسته فترة ما بعد الحرب. يستذكر حطب أنه أجرى مسحاً سكانياً في عام 1973لحي السيدة في رأس النبع، بالتعاون مع المطران غريغوار حداد، وبلغت نسبة المسيحيين في ذلك الوقت 65 في المئة. أما الخط الممتد خلف الترامواي (شارع محمد الحوت)، فكان يقطنه 80 في المئة من المسيحيين. في ذلك الوقت كان الاختلاط «فعلياً». كأن تجد مبنىً تقطنه عائلتان مسيحيتان وأخرى مسلمة.
الغوص في الأسباب يعني البحث في التاريخ السياسي والنفسي الاجتماعي لأجيال أرادت حصر نفسها باللون الواحد. يقول حطب إن السبب الأساسي يكمن في «فقدان التصور الإيجابي عن الآخر، لأن الطائفة عرفت الأخرى في الأوقات الحرجة. وما إن يلتقي أحدهم الآخر حتى يعيد تشغيل الأسطوانة التى تتضمن الصفات المسجّلة فتزدحم في رأسه عفواً الأفكار المسبقة وتسيطر عليه». في المقابل، لأن الأمان مفقود في البيئة الطائفية المختلفة، يشعر الفرد بأنه «كلما زاد في عدائه للآخر نال استحسان جماعته، ما يزيده عزة ونفوذاً».
ماذا عن حارة حريك الشيعية اليوم، تلك التي عرفت الاختلاط قبل الحرب؟ بين بساتين الليمون التي حلّت محلها الأبنية، اختلطت الطائفتان المسيحية والمسلمة. كانتا تشعران بأمان باغتهم بسرعته في الانقراض. بدأت الحرب وترك المسيحيون الحارة بسبب الفلسطينيين لا اللبنانيين المسلمين، كما يقولون. غادروها، باعوا ممتلكاتهم باحثين عن مكان آخر. اليوم، يأتي بعض «الحارَويين» المسيحيين إلى ضيعتهم الأم لحضور قداس الأحد. باتت الكنيسة هي المكان المشترك الوحيد بين الماضي والحاضر. إلا أن هذا الحنين لم يدفع أحداً منهم إلى العودة. صحيح أن البعض يعترف بأن الخوف من بيئة حزب الله كان أحد الموانع الأساسية، إلا أن تفاهم الحزب مع التيار الوطني الحر جعلهم يجرؤون على النزول إلى الضاحية للمشاركة في القداس، فيما استقرار الجميع في أماكن أخرى يمنعهم من العودة إلى الحارة.
لم يعترف أحد بأن الحنين إلى «الحارة» ليس إلى حارة اليوم التي تغيرت ديموغرافياً، وهذا سبب رئيسي للبقاء خارجاً. على كل حال، سيظهر مدى الحنين في حال تجاوُب مسيحيي الحارة مع مشروع أبرشيتها بإنشاء مبنيين سكنيين بغية تشجيع المسيحيين على الإقامة في المنطقة.
بعض مسيحيي الحارة تجاوزوا الماضي، ولو بحذر، وباتوا يزورونها. في المقابل، حتى اليوم، لم تطأ قدما نزهة «المنطقة الغربية». تشعر بأن خطراً يتهددها بمجرد وصولها إلى ذلك المكان الغريب. صديق ابنها مسلمٌ، وقد اعتاد الإقامة عندهم في فترة الامتحانات. لم يكن ينتابها تجاه هذا الشخص المختلف طائفياً أي شعور بالخوف. إلا أنه بمجرد أن يقرر أحد أولادها الذهاب إلى «الغربية» تضع يدها على قلبها وتطلب من هذا الصديق المسلم حمايته!
تعكس نزهة وجهة نظر لا تزال سائدة لدى جيل الحرب. إلا أن هذا الجيل نقل تجربته إلى الجيل الشاب، الذي ترسّخ في لا وعيه خوف قد يفرض عليه ممارسات مختلفة حين يتطلب الأمر.
حتى سائقو سيارات التاكسي فُرزوا مناطقياً. تخيل نفسك واقفاً على جادة سامي الصلح وتطلب خدمة التوصيل إلى عين الرمانة؛ أي المسافة نفسها إلى المشرفية. ستعرف فوراً أن من يرفض إيصالك هو مسلم ومن يقبل هو مسيحي يعمل في حدود منطقته.
يقول حطب إن الوضع في لبنان هو أشبه بالمقبرة. يتجاور الموتى من دون أن تجمعهم كلمة واحدة. كلٌّ في قبره. هذا يجاور ذاك. لكن الكلام مقطوع. الجميع يديرون ظهورهم للجميع.