نقولا ناصيف
كانت دمشق تنتظر الأسبوع الماضي ابن الملك السعودي ومستشاره الأمير عبد العزيز بن عبد الله لعقد جولة جديدة من المحادثات، بعض بنودها يتناول الوضع اللبناني. لكن زيارة الرئيس السوري بشّار الأسد لرومانيا في 10 تشرين الثاني أرجأتها، فأعيدت برمجتها إلى ما بعد الأعياد.
إلا أن دمشق تتعامل، في مقاربة المشكلة اللبنانية، رغم إصرارها المعلن على أنها غير معنية بالمحكمة الدولية، على أساس أن التعويل الرئيسي لانتزاع موقف جدّي وحاسم من رئيس الحكومة سعد الحريري وحلفائه حيالها، يتركز على حصر تخاطبها مع الملك السعودي عبد الله. مرور بعض الوقت لا يقلق الرئيس السوري أو ينتزع زمام المبادرة من يديه، وهو ينطلق، تبعاً للمطلعين على موقفه، من مسألتين: أولاهما أنه لم ييأس من دور الملك في إحراز تقدّم توصّلاً إلى موقف لبناني يتنصّل من المحكمة الدولية في ضوء الاقتناع بأنها مسيّسة. وثانيتهما أن الحريري لن يتخذ موقفاً كهذا لا تحضّه المملكة عليه.
في القمّة الأخيرة التي جمعته به في مطار الرياض في 17 تشرين الأول، سمع الرئيس السوري من الملك السعودي الآتي: لا تكمن المشكلة في أن لا يقول الحريري إن المحكمة الدولية غير شرعية أو إنها مسيّسة، بل في سبل تطويق الموقف الأميركي المعاكس.
ثم أبلغ عبد الله إلى الأسد أنه لم ينجح حتى الآن في التوصّل مع الأميركيين إلى حلّ لهذا الموضوع.
بدورهم، المطّلعون على موقف الرئيس السوري يشيرون إلى الآتي:
1 ــ لا يعتقد الأسد بأن المشكلة تقيم عند عبد الله الذي، بحسب الأسد، لديه النيّة والإرادة والسعي إلى تحقيق ما اتفق عليه معه في شأن المحكمة الدولية.
2 ــ لأن التدخّل الأميركي يقف حجر عثرة في طريق جهود الملك السعودي، لا يرى الرئيس السوري بداً من الانتظار وتجميد الأزمة الناشبة بين اللبنانيين حول القرار الاتهامي والمحكمة الدولية، إلى حين نجاح الرياض في إحراز تقدّم حقيقي في المعالجة المتفق عليها مع دمشق.
الحريري لحلفائه: ثقتي تامّة بالملك عبد الله، وما يقرّره أقوم به
لا تستعجل العاصمة السورية إعادة فتح قنوات الحوار مع رئيس الحكومة
برّرت هذه الخلاصة عدم استعجال سوريا وحلفائها بتّ ملف شهود الزور في مجلس الوزراء، في جلسة 10 تشرين الثاني، كجزء لا يتجزأ من المشكلة الأم التي هي الخروج من المحكمة الدولية. أتاح هذا الجمود لرئيس الحزب التقدّمي الاشتراكي النائب وليد جنبلاط الاستمرار في مسعى التفاهم والتوافق على إحالة ملف شهود الزور على المجلس العدلي من دون الاحتكام إلى التصويت في مجلس الوزراء، توطئة لموقف متدرّج من القرار الظني والمحكمة الدولية.
موقف سيّد المختارة هو موقف تقطيع الوقت الضائع ريثما تنجز الرياض جهدها لمعالجة الأزمة. وهو الوقت نفسه الذي تلعب فيه دمشق، الأمر الذي فسّر تفهّمها الوساطة التي يضطلع بها جنبلاط، من غير أن تشعرها بضرر يلحق بحلفائها في حكومة الحريري.
إلا أن زيارته الأخيرة لدمشق في 9 تشرين الثاني، واجتماعه بمعاون نائب رئيس الجمهورية اللواء محمد ناصيف، أفضت إلى معطيات:
أولها، بلوغ علاقة جنبلاط بدمشق حداً مميّزاً، جعل المسؤولين السوريين يتحدّثون عنه بإطراء غير مألوف عن مدى الثقة التي باتوا يمحضونه إياها. يحملهم ذلك على تفهّم التمايز الموقت الذي يتخذه في موقع وسطي ظاهراً بين 8 و14 آذار. إلا أن المسؤولين السوريين يقولون أيضاً جازمين إن جنبلاط بات في موقع الحليف المتقدّم لديهم. وقد تكون عبارة الرئيس السوري في جريدة «الحياة» عن عودة جنبلاط كما كانت تعرفه دمشق، خير معبّر عن تعويلها على الدور الذي يضطلع به، سواء في الوسط كما يوحيه حالياً، أو في موقعه الطبيعي بين حلفاء 8 آذار كما أضحى عليه نهائياً.
ثانيها، أبلغ جنبلاط إلى القيادة السورية وجهة نظره حيال القرار الظني والمحكمة الدولية وعلاقة الحريري بهما، ومفادها أن ما يمكن تحقيقه بالتفاهم بين الحريري الابن والعاهل السعودي، على صعيد رفض القرار الاتهامي، يظلّ أفضل من تحقيقه هو نفسه بوسائل أخرى. وهي إشارة ضمنية مزدوجة الدلالة حيال رئيس الحكومة: بالرهان على احتمال اتخاذه الموقف الذي تطلبه دمشق وحلفاؤها لكن من ضمن إمهاله بعض الوقت، وبتحميله مسؤولية هذه المهمة كي لا يؤتى بمَن يضطلع بها نيابة عنه.
ثالثها، أبلغ الزعيم الدرزي إلى القيادة السورية أنه قطع علاقته نهائياً بكل أركان قوى 14 آذار باستثناء الحريري. وهو يعوّل على دور رئيس الحكومة في المحافظة على الاستقرار وتجنيب البلاد فتنة سيقود إليها القرار الاتهامي. بذلك يكمن مغزى قوله إن ما يُتاح القيام به من خلال الحريري أفضل وقعاً ونتيجة من القيام به عن غير طريق تعاون الحريري.
رئيس الحكومة قطع، إلى حدّ، نصف المسافة إلى الموقف الذي تتوخاه منه دمشق، وأوحاه في الاجتماع الذي ترأسه لأركان 14 آذار في منزله بالوسط التجاري في 8 تشرين الثاني.
بعدما سمع من بعض المجتمعين انتقادات وُجهّت إلى العاهل السعودي، قال حسماً للاستفاضة في هذا الجانب من المناقشة: أنا أثق بالملك عبد الله كل الثقة، وما يقرّره أقوم به.
علّق أكثر من مشارك في الاجتماع بالقول إن في المملكة أكثر من رأي. فردّ الحريري: لا تنخدعوا. هناك أكثر من رأي، لكن الذي يقرّر هو الملك.
بلغ هذا الموقف إلى المسؤولين السوريين، واستخلصوا استعداد الحريري لاتخاذ القرار الذي يتخذه عبد الله إذا نجح بتجاوز العراقيل التي تضعها في طريقه واشنطن لإخراج لبنان من المحكمة الدولية.
استنتجوا أيضاً أن الحريري يُعدّ، من الآن، حلفاءه الذين يتمسّك بهم لتقبّل الخيار الذي قد يسلكه في الوقت المناسب، عندما يطلب منه ذلك العاهل السعودي. تماماً على غرار خيارين كان قد فاجأ بهما حلفاءه مرتين استجابة لطلب عبد الله: أحدهما ذهابه إلى دمشق لمصالحة رئيسها ونظامها في 19 كانون الأول 2009، والآخر موقفه عبر صحيفة «الشرق الأوسط» في 6 أيلول 2010 مبرئاً الأسد وسوريا من اتهامه لهما باغتيال والده الرئيس رفيق الحريري، واعترافه بوجود شهود زور في ملف جريمة الاغتيال خرّبوا العلاقات اللبنانية ـــــ السورية.
كان المسؤولون السوريون قد سمعوا جواباً مشابهاً لما قاله الحريري لحلفائه، من ابن الملك ومستشاره عبد العزيز. سألوا الأخير أي موقف يتوقعونه من الحريري إذا وجد نفسه في مفاضلة بين ما قد يقرّره الملك، وبين الضغوط التي قد يمارسها عليه الأميركيون لمنعه من التنصّل من القرار الاتهامي والمحكمة الدولية. ردّ الأمير: إما يمشي (الحريري) مع الملك ويحمي دوره ومصالحه، أو يتحمّل مسؤولية قراره.
رابعها، لم تقل دمشق بعد كلمتها حول ما تتوقعه في الموقف اللبناني من بتّ ملفي شهود الزور والقرار الاتهامي، أبيض أو أسود. عندئذ فإن الموقف الحتمي للزعيم الدرزي، في مجلس الوزراء ومجلس النواب، هو الوقوف إلى جانب حلفاء دمشق في مقاربة هذين الملفين، بلا أدنى التباس.
خامسها، رغم أن القيادة السورية تتحدّث بإيجابية عن الحريري، لا تراه في المقابل مستعداً لاتخاذ قرارات كبيرة، بات الأسد أكثر يقيناً بأن الملك السعودي سيتخذها عنه، ويحضّه على تنفيذها. لذا لا تستعجل العاصمة السورية إعادة فتح قنوات الحوار مع رئيس الحكومة، ولا أفكار لديها للمبادرة إلى إعادة التواصل معه، رغم الضجيج الذي أحاطه هو به مكالمته الهاتفية مع الأسد، معايداً بالأضحى في 16 تشرين الثاني. على أن الحوار الأنجع هو مع الملك لا مع الحريري.
في تقويم القيادة السورية أن عودة الحوار مع رئيس الحكومة ينبغي أن تبدأ حيث انتهى الحوار عشية إصدار القضاء السوري في 3 تشرين الأول مذكرات توقيف غيابية في حقّ 33 شخصية بينها مقرّبون من رئيس الحكومة. كانت دمشق تتوقع منه، حتى عشية ذلك اليوم، ومنذ اتخذ موقفه في 6 أيلول، المسارعة إلى معالجة ملف شهود الزور على نحو نهائي.