أن نصاباً وزارياً ونيابياً لبنانياً شبه كامل، كان موجوداً في العاصمة الفرنسية في اليومين الماضيين. موسم الأوكازيون لم يبدأ بعد، وموسم الأضحى في مكان آخر يفترض... غير أن موسماً أكثر أولوية اقتضى مجيئهم: ميشال عون في الإليزيه، إنها بداية الانقلاب، أو نهايته... فإلى باريس دُر
كان ميشال عون ملازماً حديث التخرج من المدرسة الحربية، حين قُدر له أن يتعلم أحد أهم دروسه في السياسة والقيادة والحياة العامة. يومها عُين مسؤولاً عن الرياضة العسكرية في مخيم تدريبي، على سفح جبل صنين. كان عليه كل فجر أن يأخذ سرية متدربة، ويذهب بها مشياً نحو القمة. يوماً بعد يوم، اكتشف الملازم الشاب أن سرعة البشر في بلوغ الأهداف التي يريدونها، وفي تسلق القمم التي يواجهونها، متباينة. وإن كانوا ضمن مجموعة تنظيمية واحدة. فإذا أسرع القائد في خطاه، وجد نفسه بعد قليل وحيداً، وخلفه شراذم متباعدة. وإذا أبطأ، تدافعت مجموعته وتلاطمت، وتأخر الجميع عن الوصول... بعد أيام قليلة، أدرك ميشال عون أن سرّ القيادة، هو في أن تدرك ذلك الإيقاع المثالي للسير في الطليعة والمقدمة وعلى الرأس: بين أن تتقدم ـــــ منسجماً مع رؤيويتك التي يتأخر عنها الناس أحياناً أو غالباً أو دوماً ـــــ وبين أن تظل قادراً على جمع الصف خلفك. فلا تصل راكضاً وحيداً، فيما مهمتك إيصال الآخرين، ولا تظل معهم راكداً بعيداً عن المهمة ـــــ الهدف ـــــ الوصول...
شيء كثير من ذلك الدرس الذي عمرُه نصف قرن، كان حاضراً مع عون في باريس في الأيام الماضية.
قصة الدعوة والتحرك الفرنسيين
من دون أوهام ولا إحباط بدأت القصة، كما يرويها العارفون. منذ أشهر، كان الرئيس الفرنسي عرضة لتأثيرات عدة:
أولها، هذا القرار الشخصي بأن يثبت لشركائه الأميركيين أن انفتاحه على دمشق أثمر، ويثمر.
ثانيها، تكوُّن رأي غالب في الحلقة القريبة منه في قصر الإليزيه، في أن موازين «الشرق الأدنى» تغيرت فعلاً.
ثالثها، كلام سوري دائم ومتكرر، ناصحاً بأن من عناوين الخروج من المرحلة الشيراكية، الانفتاح على جميع اللاعبين في المنطقة، وخصوصاً في لبنان، والاستماع إلى مختلف الآراء، لا الاكتفاء برأي واحد، كما فعل «أبو كلود» طوال أعوام، على طريقة: «فرنسا يختصرها شخصي، ولبنان يختصره شخص صديقي».
غير أن هذه التأثيرات لم تكن لتفرض تغييراً سريعاً وفورياً في الأولويات. فلدى الرئيس الفرنسي ملفات أخرى داهمة: شعبيته المتراجعة، مشروع إعادة انتخابه سنة 2012، الملفات الاقتصادية والاجتماعية الداخلية، ضرورة لملمة اليمين، وسط الاتجاه نحو تكوين معسكر وسطي جديد، على خلفية التعديل الحكومي (بورلوو ـــــ موران...) وسواها من الملفات الأعلى تراتبية، لدى ابن جيل الثمانينيات في السياسة.
فجأة، أضيف عنصر آخر: تقارير متتالية من السفارات الفرنسية في بيروت وجوارها، تدق شيئاً ما، يشبه جرس إنذار: الوضع في لبنان مأزوم جداً. وثمة مخاطر عدة قد تنتج من أي انفجار يحصل في بيروت، على خلفية المحكمة الدولية وملحقاتها. فالموضوعات التي على المحك كثيرة: آخر موطئ قدم سياسي فعلي لفرنسا على شرقيّ المتوسط، الاستثمار مع سوريا، المصالح الفرنسية الاقتصادية والتجارية على نطاق أوسع من لبنان، الأصدقاء والحلفاء في بيروت... وأخيراً الوحدة الفرنسية ضمن قوات اليونيفيل في الجنوب. حيث يقول العارفون إن أكثر من خبير وعارف ومسؤول فرنسي، كان يسأل في الفترة السابقة: كم تابوتاً يمكننا أن نحتمل رؤيته أمام الإنفاليد، قبل انهيار الوضع الفرنسي الداخلي، وتعريض الكثير للأخطار؟ ألا تكفينا كابول؟
كل ما سبق يمكنه الانتظار. لكن الكلام الأخير صداه فوري، وخصوصاً إذا كان الأمين العام لقصر الرئاسة الفرنسية، جان ـــــ كلود غيان، يحمله ويكرره ويذكّر به كل يوم... عندها تحرك الإليزيه حيال البند الأخير.
طلب من السفير الفرنسي في بيروت مقابلة السيد حسن نصر الله لإثارة قضية الجنود الفرنسيين في الجنوب تحديداً. لم يأت الجواب بتحديد موعد مع الأمين العام لحزب الله لأسباب أمنية خاصة، فكانت الإحالة على نائبه الشيخ نعيم قاسم. حصلت المقابلة. في اليوم التالي، كانت الحقيبة الدبلوماسية الفرنسية الآتية من بيروت إلى باريس مثقلة بتقرير طويل عن اللقاء. للمرة الأولى منذ تعيينه ربما، يكتب بييتون ثلاث صفحات. عادةً لم تكن تقاريره تتعدى الأسطر العشرين. ثلاث صفحات، يُروى في باريس، أنها حملت أكثر من إشارة مقلقة: الشيخ لم يطمئنّا. أجوبته كانت ملتبسة. قال إن حزبه يضمن أمن قوات الأمم المتحدة. لكن ماذا إذا تعرض الحزب لهجوم أجنبي قاتل، من نوع الاتهام الدولي؟
أو ماذا لو تحركت جهات أصولية في هذه الأثناء؟
استنفرت العاصمة الفرنسية مجدداً، وراحت بطاقات«السياسة المقترحة»، تتناقل بكثرة بين المكاتب. من«الكي دورسيه» إلى الإليزيه. وبينها كلها قاسم مشترك واحد: علينا أن نفعل شيئاً ما، علينا أن نتحرك... وسط السؤال عن ماهية الخطوة الأولى، برز اسم ميشال عون:
فالجنرال الذي غادرنا قبل خمسة أعوام ونيف، من دون أن يودعه الإليزيه كما يجب، له علينا حق الاستقبال، كما لم يكن الوداع.
والجنرال الذي أعطيناه كل الوعود والعهود، في ذلك الاتصال الهاتفي، عشية تنازله عن حقه الديموقراطي برئاسة الجمهورية، له علينا حق السؤال عن «أين أصبح وأصبحنا».
والجنرال الذي عرف كيف يفتح باب دمشق قبلنا، يجسد تمني الأصدقاء هناك، بسماع أكثر من رأي في بيروت.
وأخيراً الجنرال الذي يروى أن ثمة من أوصى بكتابة اسمه على كفنه إذا ما استشهد، تكريساً لدينه عليه «إلى يوم القيامة»، قد يكون أفضل من يقدر على مخاطبة حزب الله، بالواسطة، أو للسؤال عن احتمال التواصل مباشرة، بين باريس وحارة حريك.
نتيجة هذا التراكم، فتح سجل المواعيد الرئاسية في قصر الإليزيه، وسجل عليه اسم ميشال عون، يوم 3 تشرين الثاني. لكن الموعد المحدد لم يصل إلى صاحبه. ذلك أن زائراً آخر كان قد وصل إلى القصر الفرنسي، قبل نحو أسبوعين.
فيلتمان يتدخل وليفيت يتصرف
كانت كل تلك الأجواء، المجمعة من بيروت ودمشق والرياض وباريس، تصل إلى واشنطن. وكان بعض الفريق الحريري يرفع صوته مستغيثاً هناك. حتى إن أصواتاً علت بعبارات من نوع «الخيانة» و«التخلي»... فتحرك جيفري فيلتمان. في 17 تشرين الأول وصل إلى بيروت آتياً من الرياض. وفي اليوم التالي كان في باريس، بعدما علم من أكثر من عاصمة، بالنيات الفرنسية، حيال «الجنرال المارق». في العاصمة الفرنسية، خيّم فيلتمان طوال يومين في مكتب المستشار الرئاسي للشؤون الدبلوماسية، جان ـــــ دافيد ليفيت. ألقى مضاربه هناك، قريباً من غيان، متخفياً عن ناظريه في الشكل فقط. أصلاً، ليفيت صديق قديم، منذ أيام نيويورك والقرار 1559، وكوندي وغوردو ـــــ مونتانيو والزمن الطيب... على مدى يومين، تروي باريس، أن فيلتمان كان يحاول أن يشرح لليفيت، مشروع الحل الأميركي. لكن الأولوية الأولى لمسعاه، كانت إلغاء موعد عون في الإليزيه. حاول المسؤول الفرنسي التجاوب، غير أن الذريعة اللازمة للإقدام على خطوة الإلغاء كانت تنقصه. وتروي باريس نفسها أن فيلتمان نسج لزميله الفرنسي السيناريو الآتي: تبادر أنت من عندياتك، إلى إلغاء الموعد. وعلى الأرجح، لن ينتبه الرئيس إلى الأمر. فنربح الوقت المطلوب لمشروعنا الآخر. أما إذا لفت أحد ما انتباهه إلى الموضوع، فعندها تقول إن اتفاقاً ضمنياً كان قد أقر مع عون، على أن يكون موعده في الإليزيه، مشروطاً بصدور كلام إيجابي منه حيال فرنسا ودورها في المنطقة. ثم تقول، إنك فوجئت بعد أيام قليلة من تحديد الموعد، وقبل إبلاغه إلى صاحبه، بكلام معاكس أعلنه الجنرال، في 12 تشرين الأول الماضي. في احتفال لمناسبة انتقاله إلى«الأراضي الفرنسية» في سفارتكم في لبنان، قبل عشرين عاماً، كما عشية وصول الرئيس الإيراني إلى بيروت. عندها ارتأيت أنت أن كلامه هذا مؤشر استفزازي، وأنه لا يجوز لدولة عظمى مثل فرنسا أن تتغاضى عنه. فوجدت من المناسب إلغاء الموعد، بمبادرة شخصية منك، وذلك حماية لرؤسائك، من أي ذيول سلبية لمثل هذا القرار.
أخذ سيناريو فيلتمان طريقه إلى التنفيذ، لكن محاوريه الفرنسيين أصروا على سؤاله: وماذا عن مشروعكم المضاد؟
المشروع الأميركي: الفوضى مجدداً
ماشى بعض الفرنسيين فيلتمان في ضغوطه، حتى سئل عن تصوره المقابل للحل. فجاء الجواب، كما تروي باريس، في شيء من استعادة «الفوضى الخلاقة»: يصدر القرار الظني متهماً حزب الله، فتُشَل الحكومة اللبنانية عن التصرف، أو حتى عن الاجتماع وإدارة البلد. تضغط المحكمة الدولية على الحكومة اللبنانية، لمعرفة موقفها من مقتضيات القرار وخطواته التنفيذية. فيأتيها في لحظة غفلة ما، كتاب من الأخيرة، يعلن عجز لبنان عن التزام نتائج القرار الظني، ويطلب من المحكمة، و«ممن يهمه الأمر»، أخذ العلم بذلك. تحيل المحكمة الكتاب على مجلس الأمن، وينطلق عندها مسار دولي جديد، تدريجاً، على طريقة الاكتشاف بالتلمس، عنوانه: الضغط الدولي على لبنان. كل الأفكار تبدو جيدة، وعلى طاولة البحث: حصار، عقوبات، مقاطعة... المهم دفع البلد إلى فوضى خلاقة جديدة... أمر ما مماثل لما حصل بين عامي 1989 و1990. فوضى مخارجها مضبوطة إلى حد ما: إما استدراج سوريا إلى «البازار الكبير»، وإما استدراج إيران إلى نموذج مصغّر عن هذا البازار، وإما زج حزب الله في وضعية «خاسر ـــــ خاسر»، وإما جعل الوعاء اللبناني يغلي حتى الانفجار، لعله يفضي إلى البحث عن صيغة أكثر ملاءمة لاستقرار لبناني جديد، قائم على نظام لبناني جديد... تماماً كما أدت فوضى أواخر الثمانينيات إلى الطائف... طائف ثانٍ إذاً؟ لهذا، «نطق» كوشنير... ولهذا لمّح إلى دول عربية قابلة، ليست غير الدول الدائرة في الفلك الأميركي.
البديل الفرنسي: غيمة من دخان
لم يرتح كثيرون في باريس إلى التصور الأميركي، وخصوصاً في ظل ارتفاع مستوى التوتر في بيروت. وفي إحدى اللحظات، بدت الإدارة الفرنسية في نوع من المأزق: معطياتها ودوافعها الذاتية، تفرض عليها القيام بخطوة ما. فيما «نصائح» واشنطن و«تمنّياتها» تذهب في اتجاه معاكس. عند هذا الحد، بدا كأنّ ثمة من اجترح تركيبة توفيقية بين النظريتين: نستقبل الجنرال، فنبعث بذلك رسالة إلى هذا الجانب، بأننا نتحرك، ولا نمتثل لتعليمات أحد، وبأننا نملك تصوّراً لمقاربة علاجية ما.
من جهة أخرى، نترك التسريبات تتعالى حول نيتنا فتح أبواب الإليزيه لشخصيات لبنانية أخرى، فنعطي بذلك الانطباع عن أن في جيبنا مشروع «سان كلو بالمفرق»، أو حتى جس النبض لآفاق طائف جديد... وهو ما يسمح لواشنطن بكسب المزيد من الوقت، وبالتقاطع مع هدفها الأول من الفوضى الخلاقة المقترحة.
لكن بين تلك الاحتمالات التخديرية، أي علاج جذري ممكن للمأزق؟ يروى في باريس أن أحد أهم خبرائها الرسميين في الشأن اللبناني وشؤون المنطقة، يرى الحل الوحيد في إعداد «سَلَطة» لبنانية غريبة عجيبة. نوع من«غيمة دخان»، كما يسميها، أو وعاء حساء ضخم، على طريقة المطبخ اللبناني، بحيث يصدر القرار الظني، ويسقط في ذلك الوعاء، ويضيع، أو يضيعه المعنيون، ولا يمكن بعدها أحداً أن يعرف من أين يبدأ أو من أين يكمل.
في الوقائع المجردة، يقتضي هذا السيناريو، أن يقبل كل طرف دفع ثمن بسيط، لتجنب ثمن جسيم. يقبل حزب الله صدور القرار، متضمناً أسماءً لا أحد يعرفها، ولا تعني شيئاً لأحد. وفي المقابل، يقبل الحريري انتهاء مفاعيل المحكمة عند هذا الحد، وخصوصاً في ظل عدم القبض على المتهمين. ويقبل الجميع احتضان الطرفين، ودعمهما «عاطفياً» و«معنوياً»، لاستيعاب التسوية، بدل تحريضهما على رفضها... لكن، ما هي الخطوة الأولى لهذا السيناريو؟ ومن يكون عرّابها؟ في باريس، ينقل عن الخبير العتيق، جوابه بصوت واثق خافت: إن «شوربة» لبنانية كهذه، ثمة رجل واحد يحترف طبخها... نبيه بري. وثمة رجل واحد، يظل في كل الأحوال، صمام الأمان لكل احتمالاتها: إنه ميشال عون. في حالتي الإقدام أو الإحجام، الانفراج أو الانفجار، عون وحده قادر على أداء دور نازع الصواعق، في الملفات الهواجس، وفي القضايا المفخخة.
هل من تفاصيل أكثر؟ لا لزوم ولا ضرورة. ففي مكان ما، هناك التزام باريسي عفوي بالتقليد العريق، حول «الذهاب إلى الشرق المعقد، بأفكار بسيطة». وهناك إقرار بصحة معادلة كلود شيسون بشأن الشرق الأوسط، لجهة تعريفه بأنه منطقة، قد لا يتغير فيها شيء طوال قرن، وقد يتغير فيها كل شيء، في طرفة عين.