يترك المناخ الذي شهده لبنان ويشهده خلال العام 2010، والتداعيات المائية والزراعية والحياتية المصاحبة، بعض الهلع بين صفوف المواطنين القلقين من فقدان ميزة وطنهم ذي الطقس المعتدل، وكل ما يرتبط به من مقومات سياحية وخدماتية، والأهم مائية.
ووسط تأكيدات عالمية من معاهد علمية متخصصة في وضع تقديرات الاحتباس الحراري، تفيد بأن العام 2010 هو حتى الآن أكثر الأعوام سخونة في سجلات درجات الحرارة منذ العام 1850، تشير أرقام مصلحة الأرصاد الجوية في مطار بيروت الدولي إلى أن معدلات الحرارة التي شهدها لبنان خلال العام الحالي ما زالت أدنى من بعض المعدلات التي سُجلت في سنوات سابقة.
ومع ذلك، يؤكد رئيس المصلحة مارك وهيبي أن الفارق بين العام الحالي وبين ما سبقه، تمثل في مدة استمرار موجات الحرارة. ففي السابق كانت درجات الحرارة تصل إلى «ذروة» لمدة يومين أو ثلاثة قبل أن تنخفض، أما خلال العام الحالي فقد استمرت الحرارة مرتفعة لفترة طويلة وإن بدرجات لا تُعدّ «قياسية».
وتزامناً مع التأكيدات العالمية وتداعيات السنة الحالية التي كانت دافئة شتاء، وحارة صيفاً في لبنان، أطلق وزير الطاقة والموارد المائية والكهربائية جبران باسيل صرخة تحذير واصفاً وضع المياه في البلاد «بالكارثي»، محذراً من أن استمرار الوضع على ما هو عليه يهدد بنشوب «حرب أهلية» معتبرا أن المياه، وهي عنصر توتر بين الدول في كثير من الحالات إذا تحولت إلى سبب للتقاتل داخلي، تصبح عنصر فتنة داخلية، أما توفيرها فيضمن الاستقرار والازدهار.
وفي محاولة لرؤية الصورة من زوايا مختلفة، تحمل معطيات الباحثين في المجلس الوطني للبحوث العلمية، بعض الشعور بالطمأنينة، إذ يؤكد الباحث والدكتور في المجلس أمين شعبان لـ«السفير» أن «كميات المياه المتوافرة طبيعياً في لبنان هي ستة أضعاف ما يحتاجه»، مشددا على أن الخلل يكمن في إدارة ذلك المورد الحيوي وفي سبل استهلاكه.
وإذا كان من المبكر الحديث عن تغير مناخي، إلا أن باحثي المجلس سجلوا، خلال رصدهم تغيرات درجات الحرارة على مدى أربعين عاماً، ارتفاعها بنحو 1.8 درجة، وهو ما يعتبره شعبان «دليلا على تغيير مناخي فاعل».
وفي ظلّ أزمة المياه القائمة وسط المعطيات العلمية التي تؤكد أننا «نعوم» على المياه، يطالب الخبراء بخطة وطنية جدية لتحديد الوضع المائي للبنان بدقة، وإطلاق سلسلة من الإجراءات والمشاريع والبدء بتنفيذها تجنباً لوصول البلاد إلى نقطة اللاعودة .. حيث التصحر والجفاف.
ومع أن الوزير باسيل طالب بإنشاء السدود معتبرا أن»لا حل لمشكلة المياه بدون سدود»، إلا أنه أكّد في الوقت ذاته «أن السدود وحدها غير كافية، لأننا نحتاج إلى تخزين كميات كبيرة من المياه (كالبرك والتخزين الجوفي) لاستعمالها في مواسم الشح».
وأوضح باسيل قائلا ان «التخزين يمكن أن يكون سطحيا في برك وسدود ويمكن أن يكون جوفيا تحت الأرض، لمنع تسرب المياه إلى البحر، فيما نقوم بتلويث جوف الأرض أو نستغله بما لا يتحمل هو استغلاله».
يترافق هلع المواطنين الذين باتوا ينامون ويصحون على أمل أن يمن عليهم تشرين الثاني ببعض الأمطار، مع تراوح درجات الحرارة حالياً ما بين 25 وثلاثين درجة مئوية، وإعلان مصالح المياه ومؤسساتها عن برامج تقنين في ضخ المياه.
وها هم المزارعون ينتظرون الأمطار لبذر حقول القمح والزراعات الشتوية الأخرى، فيما تتفتح بعض براعم اللوز والكرز في البقاع، في ظل تراجع إنتاج الزراعات البعلية كماً ونوعاً. وفاقم الغلاء غير المسبوق الذي طرأ على أسعار الخضار والفاكهة، ووصول سعر كيلوغرام البندورة إلى أربعة آلاف ليرة لبنانية، ومثله العنب، من قلق الناس. وبرر ارتفاع الأسعار «بتأثير المناخ نفسه، ومعه موجات الصقيع والحر المتطرفة التي ضربت لبنان شتاء وصيف العام الجاري».
وبذلك تحول الطقس الحالي إلى حديث اللبنانيين القلقين أصلا من الأوضاع السياسية وانعكاسها على أمنهم ولقمة عيشهم، في وقت تدير فيه الجهات الرسمية المعنية الظهر عن الموضوع، بينما يجمع الخبراء على ضرورة وضع خطة طوارئ وطنية تأخذ بعين الاعتبار ما يجري، تجنباً لما قد يحدث في حال ثبوت التغيرات المناخية التي يتخوف منها الجميع.
وإذا غضضنا النظر عن شهرين من القيظ الصيفي، حيث لم تتدن فيهما درجات الحرارة عن أربعين درجة مئوية في الداخل البقاعي، و37 درجة على الساحل، فلا يمكن تجاهل تدني مستويات الآبار الجوفية وجفاف بعضها من جهة، وانخفاض منسوب الأنهار في مناطق، وجفاف ينابيع في أخرى.
ويجمع الخبراء في المجلس الوطني للبحوث العلمية ومصلحة الأبحاث العلمية الزراعية ومصلحة الأرصاد الجوية، على أنه من السابق لأوانه الحديث عن تغيرات مناخية جذرية وفاعلة في لبنان.
ويتطلب الأمر (أي تسجيل تغيّر مناخي)، «وجود كم من السجلات المناخية المتتالية التي أثبتت على الأرض، وتغطي المنطقة بما يتلاءم مع طبيعتها الجغرافية»، كما يؤكد الباحث في المجلس الوطني للبحوث العلمية الدكتور أمين شعبان. ويشدد على ضرورة «تحديد أي من العوامل المناخية هي تحت التغيير.. هل الأمطار أم درجات الحرارة أم باقي المعايير المناخية؟».
ويشير شعبان إلى «أن لبنان ما زال يفتقد الكم المطلوب من السجلات»، ومع ذلك فهو يعتبر، «نظرا لمساحته الصغيرة نسبيا، منطقة نموذجية لدراسة التغيرات المختلفة للمعايير المناخية، وما تعكسه على الإنسان والطبيعة على حدٍ سواء».
وفي ظل النقص في السجلات المناخية المتتالية على الأرض، لجأ المجلس الوطني للبحوث العلمية، وفق شعبان، إلى وسائل بديلة للحصول على المعلومات. ومن هذا المنطلق «يستخدم المجلس التقنيات الفضائية، وتحديداً من خلال تحليل الصور الفضائية المختلفة المواصفات البصرية والرقمية للحصول على معلومات مناخية، وكذلك قياسات هيدرولوجية ذات صلة».
وساهمت الصور الفضائية في تغطية النقص الموجود في المعطيات المتوفرة حول الأمطار، ليتم بعدها وضع المنحنيات الهندسية التي يمكن من خلالها استبيان الشكل العام لتغيرات الهاطل المطري. وبالفعل، أصبح في حوزة المجلس سجلات يومية عن الهاطل المطري في لبنان منذ العام 1965 ولتاريخه.
ويركز شعبان على أن هذه السجلات «ناتجة من دمج المعطيات الأرضية من المؤسسات المعنية، مع تلك التي استقاها باحثو المجلس من الصور الفضائية».
وساهمت هذه التقنيات في لعب دور فاعل في مراقبة الغطاء الثلجي، الذي يؤكد شعبان انه «أحد أنماط الهاطل المطري»، وذلك من خلال المراقبة لتغييرات الغطاء الثلجي سواءً في عملية التجميع أو الذوبان على مدار الخمس وعشرين سنة الماضية.
وإضافة إلى الدراسات البحثية، يقوم المجلس حالياً بالتعاون مع مؤسسة «آي.دي.آر» وجامعة القديس يوسف بتركيب عدد من محطات القياس للهواطل، هي الأولى من نوعها في لبنان.
وعليه، تمكن باحثو المجلس من وضع خطوط عريضة مناخية يمكن الاستناد إليها للخروج بخلاصات جدية.
ولاحظ الباحثون، وفق شعبان، «وجود تقلبات في معدل تساقط الأمطار، مع تراجع ملحوظ في المعدل السنوي العام بما لا يزيد عن خمسين ملليمتراً عبر العقود الأربعة الماضية». ويركز شعبان على اعتبار «هذا التراجع ضمن النطاق الاعتيادي، وليس تغيراً فاعلاً، وخصوصاً أن معدل الأمطار في لبنان هو حالياً ما بين 900 إلى ألف ملليمتر».
في المقابل، يتوقف شعبان عند ما أسماه «تزايداً في عدد الذروات المطرية (Peaks)، أي أن كمية الأمطار المتساقطة قد تكون ثابتة، ولكنها تهطل غزيرة خلال فترة قصيرة، وهو ما يحول دون امتصاص التربة للهطولات جيدا»، كما حدث في العام الماضي.
وبتراكم المعطيات التي وفرتها تقنيات المجلس، سجل باحثوه «تغيرات في درجات الحرارة عن معدلها العام، وبارتفاع بلغ حوالى 1.8 درجة خلال العقود الأربعة الماضية»، وهو ما يعتبره شعبان «دليل تغيير مناخي فاعل».
ويبين رصد الغطاء الثلجي على مدار الخمسة وعشرين عاماً الماضية، تقلص البساط الأبيض خلال هذه الفترة من حوالى 2300 كيلومتر مربع إلى حوالى 1750 كيلومترا مربعا، مع تراجع في المدة الزمنية للذوبان، والتي كانت تستغرق 110 أيام، بينما تدنت في السنوات الأخيرة إلى 85 يوماً. ويعزو شعبان السبب في تقلص الغطاء الثلجي إلى ارتفاع درجات الحرارة، وليس إلى الهاطل الثلجي بحد ذاته.
الأنهر إلى النصف وجفاف 60 في المئة من الينابيع
ودمج باحثو المجلس الوطني للبحوث العلمية السجلات المتوافرة من قبل المؤسسات المعنية بالمياه في لبنان مع النتائج التي استحصلوا عليها عبر الصور الفضائية، وبالأخص في ما يتعلق بالمياه السطحية ومراقبتها دوريا، إضافة إلى المياه المتسربة إلى البحر، ليسجلوا من النواحي الهيدرولوجية، (أي المائية) سلسلة من المعطيات السلبية. مع الإشارة إلى أن النتائج تشمل حصيلة مراقبة على مدار حوالى 45 سنة ماضية.
وتتلخص الملاحظات التي وضعها الباحثون العلميون بـ«تراجع كبير في تدفق مياه الأنهر، يصل إلى حدود خمسين في المئة (النصف) من كميات بعضها الأصلية (مثل الليطاني ونهر الكلب)». ويشير شعبان إلى انه «لم يتم التطرق إلى مشكلة التلوث وتأثيرها، والتي هي قائمة بحد ذاتها». كما لاحظ الباحثون تراجعاً كبيراً أيضاً في تدفق مياه الينابيع، وجفاف العديد منها، «حيث قدر أن الينابيع التي جفت في لبنان عبر 45 سنة الماضية تصل إلى أكثر من 60 في المئة».
ولعل أهم ما كشفته الصور الفضائية هو «زيادة هبوط مستوى المياه في الخزانات الجوفية الرئيسة في لبنان، حيث إن معدل الهبوط العام يصل إلى 8.5 أمتار في خزان السنومانيان (Cenomanian) الذي يغطي حوالى ستين في المئة من مجمل مساحة لبنان، ويمتد على مناطق عدة، ومنها منطقة جبال لبنان (جبيل واقليم الخروب والجنوب وجبل الشيخ وصنين)، والى حوالى ستة أمتار في الخزان الجوراسي (Jurassic)، الذي يغطي 25 إلى 30 في المئة من المساحة الجوفية للبنان.
وبالإضافة إلى الأخطاء البشرية والاستهلاك غير المرشد والهدر والعوامل الحياتية المختلفة، تساهم التشققات والصدوع الداخلية الطبيعية التي تسرب المياه الجوفية إلى البحر في تقليص مخزون الخزانين أيضا. وهذا لا علاقة للإنسان به، ودوره كبير في تقليص المخزون المائي اللبناني، ويشمل ذلك الأنهار والسواقي الجوفية.
ويقول شعبان انه «إذا ما تم ربط العناصر المناخية وأساليب تغيراتها مع العناصر المائية (الهيدرولوجية)، نجد أن المناخ يتأثر كثيرا بارتفاع درجات الحرارة مع تقــلبات في معــدلات الأمطار، وليس بالكم». ومن هنا يمكن رد «النــقص الــحاد في الميــاه في لبنان إلى النمو السكاني المتزايد، وأساليب الاستــخدام، أكثر منه في التغيرات المناخية الحاصلة».
ويستشهد شعبان بمعطيات علمية رقمية ليقول «إن المياه المتوفرة طبيعياً في لبنان تسد حاجة ما يفوق العشرين مليون نسمة، إذا ما اتُّبعت طرق إدارة المياه بالشكل السليم». ويدعم شعبان كلامه بالإشارة إلى أنه «إذا ما نظرنا إلى معدل الهاطل المطري عامة، مع احتساب معدلات التبخر المختلفة، نرى أن نصيب الفرد في لبنان من المياه بشكل طبيعي يصل إلى حوالى 1350 مترا مكعبا في السنة، بينما ما يحتاجه الفرد هو حوالى 220 مترا مكعبا في السنة فقط،، أي ان الكميات المتوافرة طبيعياً هي ستة أضعاف الاحتياجات».
ومع التذكير بوضعية لبنان الطبيعية، وخصوصاً الجيولوجية، ودورها السلبي في جر المياه إلى البحر سريعا، يدعو شعبان إلى «التفكير في إنشاء السدود والبرك الجبلية كحل أمثل لتخفيف سرعة الجريان، وإتاحة الفرصة لاستغلال القدر الأكبر من المياه، بدل هدرها في البحر»، مؤكداً أنه «سيكون للإدارة المتكاملة للموارد المائية الدور الفاصل في إعادة المصادر المائية في لبنان إلى مجاريها».
ووسط تأكيدات عالمية من معاهد علمية متخصصة في وضع تقديرات الاحتباس الحراري، تفيد بأن العام 2010 هو حتى الآن أكثر الأعوام سخونة في سجلات درجات الحرارة منذ العام 1850، تشير أرقام مصلحة الأرصاد الجوية في مطار بيروت الدولي إلى أن معدلات الحرارة التي شهدها لبنان خلال العام الحالي ما زالت أدنى من بعض المعدلات التي سُجلت في سنوات سابقة.
ومع ذلك، يؤكد رئيس المصلحة مارك وهيبي أن الفارق بين العام الحالي وبين ما سبقه، تمثل في مدة استمرار موجات الحرارة. ففي السابق كانت درجات الحرارة تصل إلى «ذروة» لمدة يومين أو ثلاثة قبل أن تنخفض، أما خلال العام الحالي فقد استمرت الحرارة مرتفعة لفترة طويلة وإن بدرجات لا تُعدّ «قياسية».
وتزامناً مع التأكيدات العالمية وتداعيات السنة الحالية التي كانت دافئة شتاء، وحارة صيفاً في لبنان، أطلق وزير الطاقة والموارد المائية والكهربائية جبران باسيل صرخة تحذير واصفاً وضع المياه في البلاد «بالكارثي»، محذراً من أن استمرار الوضع على ما هو عليه يهدد بنشوب «حرب أهلية» معتبرا أن المياه، وهي عنصر توتر بين الدول في كثير من الحالات إذا تحولت إلى سبب للتقاتل داخلي، تصبح عنصر فتنة داخلية، أما توفيرها فيضمن الاستقرار والازدهار.
وفي محاولة لرؤية الصورة من زوايا مختلفة، تحمل معطيات الباحثين في المجلس الوطني للبحوث العلمية، بعض الشعور بالطمأنينة، إذ يؤكد الباحث والدكتور في المجلس أمين شعبان لـ«السفير» أن «كميات المياه المتوافرة طبيعياً في لبنان هي ستة أضعاف ما يحتاجه»، مشددا على أن الخلل يكمن في إدارة ذلك المورد الحيوي وفي سبل استهلاكه.
وإذا كان من المبكر الحديث عن تغير مناخي، إلا أن باحثي المجلس سجلوا، خلال رصدهم تغيرات درجات الحرارة على مدى أربعين عاماً، ارتفاعها بنحو 1.8 درجة، وهو ما يعتبره شعبان «دليلا على تغيير مناخي فاعل».
وفي ظلّ أزمة المياه القائمة وسط المعطيات العلمية التي تؤكد أننا «نعوم» على المياه، يطالب الخبراء بخطة وطنية جدية لتحديد الوضع المائي للبنان بدقة، وإطلاق سلسلة من الإجراءات والمشاريع والبدء بتنفيذها تجنباً لوصول البلاد إلى نقطة اللاعودة .. حيث التصحر والجفاف.
ومع أن الوزير باسيل طالب بإنشاء السدود معتبرا أن»لا حل لمشكلة المياه بدون سدود»، إلا أنه أكّد في الوقت ذاته «أن السدود وحدها غير كافية، لأننا نحتاج إلى تخزين كميات كبيرة من المياه (كالبرك والتخزين الجوفي) لاستعمالها في مواسم الشح».
وأوضح باسيل قائلا ان «التخزين يمكن أن يكون سطحيا في برك وسدود ويمكن أن يكون جوفيا تحت الأرض، لمنع تسرب المياه إلى البحر، فيما نقوم بتلويث جوف الأرض أو نستغله بما لا يتحمل هو استغلاله».
يترافق هلع المواطنين الذين باتوا ينامون ويصحون على أمل أن يمن عليهم تشرين الثاني ببعض الأمطار، مع تراوح درجات الحرارة حالياً ما بين 25 وثلاثين درجة مئوية، وإعلان مصالح المياه ومؤسساتها عن برامج تقنين في ضخ المياه.
وها هم المزارعون ينتظرون الأمطار لبذر حقول القمح والزراعات الشتوية الأخرى، فيما تتفتح بعض براعم اللوز والكرز في البقاع، في ظل تراجع إنتاج الزراعات البعلية كماً ونوعاً. وفاقم الغلاء غير المسبوق الذي طرأ على أسعار الخضار والفاكهة، ووصول سعر كيلوغرام البندورة إلى أربعة آلاف ليرة لبنانية، ومثله العنب، من قلق الناس. وبرر ارتفاع الأسعار «بتأثير المناخ نفسه، ومعه موجات الصقيع والحر المتطرفة التي ضربت لبنان شتاء وصيف العام الجاري».
وبذلك تحول الطقس الحالي إلى حديث اللبنانيين القلقين أصلا من الأوضاع السياسية وانعكاسها على أمنهم ولقمة عيشهم، في وقت تدير فيه الجهات الرسمية المعنية الظهر عن الموضوع، بينما يجمع الخبراء على ضرورة وضع خطة طوارئ وطنية تأخذ بعين الاعتبار ما يجري، تجنباً لما قد يحدث في حال ثبوت التغيرات المناخية التي يتخوف منها الجميع.
وإذا غضضنا النظر عن شهرين من القيظ الصيفي، حيث لم تتدن فيهما درجات الحرارة عن أربعين درجة مئوية في الداخل البقاعي، و37 درجة على الساحل، فلا يمكن تجاهل تدني مستويات الآبار الجوفية وجفاف بعضها من جهة، وانخفاض منسوب الأنهار في مناطق، وجفاف ينابيع في أخرى.
ويجمع الخبراء في المجلس الوطني للبحوث العلمية ومصلحة الأبحاث العلمية الزراعية ومصلحة الأرصاد الجوية، على أنه من السابق لأوانه الحديث عن تغيرات مناخية جذرية وفاعلة في لبنان.
ويتطلب الأمر (أي تسجيل تغيّر مناخي)، «وجود كم من السجلات المناخية المتتالية التي أثبتت على الأرض، وتغطي المنطقة بما يتلاءم مع طبيعتها الجغرافية»، كما يؤكد الباحث في المجلس الوطني للبحوث العلمية الدكتور أمين شعبان. ويشدد على ضرورة «تحديد أي من العوامل المناخية هي تحت التغيير.. هل الأمطار أم درجات الحرارة أم باقي المعايير المناخية؟».
ويشير شعبان إلى «أن لبنان ما زال يفتقد الكم المطلوب من السجلات»، ومع ذلك فهو يعتبر، «نظرا لمساحته الصغيرة نسبيا، منطقة نموذجية لدراسة التغيرات المختلفة للمعايير المناخية، وما تعكسه على الإنسان والطبيعة على حدٍ سواء».
وفي ظل النقص في السجلات المناخية المتتالية على الأرض، لجأ المجلس الوطني للبحوث العلمية، وفق شعبان، إلى وسائل بديلة للحصول على المعلومات. ومن هذا المنطلق «يستخدم المجلس التقنيات الفضائية، وتحديداً من خلال تحليل الصور الفضائية المختلفة المواصفات البصرية والرقمية للحصول على معلومات مناخية، وكذلك قياسات هيدرولوجية ذات صلة».
وساهمت الصور الفضائية في تغطية النقص الموجود في المعطيات المتوفرة حول الأمطار، ليتم بعدها وضع المنحنيات الهندسية التي يمكن من خلالها استبيان الشكل العام لتغيرات الهاطل المطري. وبالفعل، أصبح في حوزة المجلس سجلات يومية عن الهاطل المطري في لبنان منذ العام 1965 ولتاريخه.
ويركز شعبان على أن هذه السجلات «ناتجة من دمج المعطيات الأرضية من المؤسسات المعنية، مع تلك التي استقاها باحثو المجلس من الصور الفضائية».
وساهمت هذه التقنيات في لعب دور فاعل في مراقبة الغطاء الثلجي، الذي يؤكد شعبان انه «أحد أنماط الهاطل المطري»، وذلك من خلال المراقبة لتغييرات الغطاء الثلجي سواءً في عملية التجميع أو الذوبان على مدار الخمس وعشرين سنة الماضية.
وإضافة إلى الدراسات البحثية، يقوم المجلس حالياً بالتعاون مع مؤسسة «آي.دي.آر» وجامعة القديس يوسف بتركيب عدد من محطات القياس للهواطل، هي الأولى من نوعها في لبنان.
وعليه، تمكن باحثو المجلس من وضع خطوط عريضة مناخية يمكن الاستناد إليها للخروج بخلاصات جدية.
ولاحظ الباحثون، وفق شعبان، «وجود تقلبات في معدل تساقط الأمطار، مع تراجع ملحوظ في المعدل السنوي العام بما لا يزيد عن خمسين ملليمتراً عبر العقود الأربعة الماضية». ويركز شعبان على اعتبار «هذا التراجع ضمن النطاق الاعتيادي، وليس تغيراً فاعلاً، وخصوصاً أن معدل الأمطار في لبنان هو حالياً ما بين 900 إلى ألف ملليمتر».
في المقابل، يتوقف شعبان عند ما أسماه «تزايداً في عدد الذروات المطرية (Peaks)، أي أن كمية الأمطار المتساقطة قد تكون ثابتة، ولكنها تهطل غزيرة خلال فترة قصيرة، وهو ما يحول دون امتصاص التربة للهطولات جيدا»، كما حدث في العام الماضي.
وبتراكم المعطيات التي وفرتها تقنيات المجلس، سجل باحثوه «تغيرات في درجات الحرارة عن معدلها العام، وبارتفاع بلغ حوالى 1.8 درجة خلال العقود الأربعة الماضية»، وهو ما يعتبره شعبان «دليل تغيير مناخي فاعل».
ويبين رصد الغطاء الثلجي على مدار الخمسة وعشرين عاماً الماضية، تقلص البساط الأبيض خلال هذه الفترة من حوالى 2300 كيلومتر مربع إلى حوالى 1750 كيلومترا مربعا، مع تراجع في المدة الزمنية للذوبان، والتي كانت تستغرق 110 أيام، بينما تدنت في السنوات الأخيرة إلى 85 يوماً. ويعزو شعبان السبب في تقلص الغطاء الثلجي إلى ارتفاع درجات الحرارة، وليس إلى الهاطل الثلجي بحد ذاته.
الأنهر إلى النصف وجفاف 60 في المئة من الينابيع
ودمج باحثو المجلس الوطني للبحوث العلمية السجلات المتوافرة من قبل المؤسسات المعنية بالمياه في لبنان مع النتائج التي استحصلوا عليها عبر الصور الفضائية، وبالأخص في ما يتعلق بالمياه السطحية ومراقبتها دوريا، إضافة إلى المياه المتسربة إلى البحر، ليسجلوا من النواحي الهيدرولوجية، (أي المائية) سلسلة من المعطيات السلبية. مع الإشارة إلى أن النتائج تشمل حصيلة مراقبة على مدار حوالى 45 سنة ماضية.
وتتلخص الملاحظات التي وضعها الباحثون العلميون بـ«تراجع كبير في تدفق مياه الأنهر، يصل إلى حدود خمسين في المئة (النصف) من كميات بعضها الأصلية (مثل الليطاني ونهر الكلب)». ويشير شعبان إلى انه «لم يتم التطرق إلى مشكلة التلوث وتأثيرها، والتي هي قائمة بحد ذاتها». كما لاحظ الباحثون تراجعاً كبيراً أيضاً في تدفق مياه الينابيع، وجفاف العديد منها، «حيث قدر أن الينابيع التي جفت في لبنان عبر 45 سنة الماضية تصل إلى أكثر من 60 في المئة».
ولعل أهم ما كشفته الصور الفضائية هو «زيادة هبوط مستوى المياه في الخزانات الجوفية الرئيسة في لبنان، حيث إن معدل الهبوط العام يصل إلى 8.5 أمتار في خزان السنومانيان (Cenomanian) الذي يغطي حوالى ستين في المئة من مجمل مساحة لبنان، ويمتد على مناطق عدة، ومنها منطقة جبال لبنان (جبيل واقليم الخروب والجنوب وجبل الشيخ وصنين)، والى حوالى ستة أمتار في الخزان الجوراسي (Jurassic)، الذي يغطي 25 إلى 30 في المئة من المساحة الجوفية للبنان.
وبالإضافة إلى الأخطاء البشرية والاستهلاك غير المرشد والهدر والعوامل الحياتية المختلفة، تساهم التشققات والصدوع الداخلية الطبيعية التي تسرب المياه الجوفية إلى البحر في تقليص مخزون الخزانين أيضا. وهذا لا علاقة للإنسان به، ودوره كبير في تقليص المخزون المائي اللبناني، ويشمل ذلك الأنهار والسواقي الجوفية.
ويقول شعبان انه «إذا ما تم ربط العناصر المناخية وأساليب تغيراتها مع العناصر المائية (الهيدرولوجية)، نجد أن المناخ يتأثر كثيرا بارتفاع درجات الحرارة مع تقــلبات في معــدلات الأمطار، وليس بالكم». ومن هنا يمكن رد «النــقص الــحاد في الميــاه في لبنان إلى النمو السكاني المتزايد، وأساليب الاستــخدام، أكثر منه في التغيرات المناخية الحاصلة».
ويستشهد شعبان بمعطيات علمية رقمية ليقول «إن المياه المتوفرة طبيعياً في لبنان تسد حاجة ما يفوق العشرين مليون نسمة، إذا ما اتُّبعت طرق إدارة المياه بالشكل السليم». ويدعم شعبان كلامه بالإشارة إلى أنه «إذا ما نظرنا إلى معدل الهاطل المطري عامة، مع احتساب معدلات التبخر المختلفة، نرى أن نصيب الفرد في لبنان من المياه بشكل طبيعي يصل إلى حوالى 1350 مترا مكعبا في السنة، بينما ما يحتاجه الفرد هو حوالى 220 مترا مكعبا في السنة فقط،، أي ان الكميات المتوافرة طبيعياً هي ستة أضعاف الاحتياجات».
ومع التذكير بوضعية لبنان الطبيعية، وخصوصاً الجيولوجية، ودورها السلبي في جر المياه إلى البحر سريعا، يدعو شعبان إلى «التفكير في إنشاء السدود والبرك الجبلية كحل أمثل لتخفيف سرعة الجريان، وإتاحة الفرصة لاستغلال القدر الأكبر من المياه، بدل هدرها في البحر»، مؤكداً أنه «سيكون للإدارة المتكاملة للموارد المائية الدور الفاصل في إعادة المصادر المائية في لبنان إلى مجاريها».