اختفى رأس الهرم القيادي في حزب الله. كان ذلك منتصف الصيف الماضي. خرج أركان القيادة من دائرة الاتصالات. لم يعد من الممكن التواصل مع أي منهم، وتوقفوا عن متابعة تسيير الشؤون اليومية لإدارة الحزب الضخم الذي يشبه الساعة السويسرية في الإدارة والتنظيم. كانت تتكدس الأوراق أمام الضباط والسياسيين والكوادر، من دون أن يعلم بعض هؤلاء بأمر غياب رأس الهرم عن السمع، بينما آخرون كانوا يسألون عن سر اختفاء القيادة، والتوقف عن متابعة تسيير الأمور اليومية والعامة، ومتابعة التفاصيل السياسية حينها.
في سلسلة من الاجتماعات المغلقة، درست قيادة الحزب الواقع، والاحتمالات، ووضعت الخطط للمرحلة المقبلة، ووقع أركانها على خرائط العمليات وأوراق العمل للاحتمالات كلها للمرحلة المقبلة. بقيت تفاصيل الخطط سرية طبعاً، كما قراءة الاحتمالات، ثم عاد أركان الحزب إلى أعمالهم اليومية.
أيام قليلة، وبدأت الطلبات تصل إلى القطاعات المختلفة في الحزب: إعداد القطاعات للمرحلة المقبلة، مع الالتفات إلى الاحتمالات كلها. وبدأ العمل في كل قطاع على تحديث ما لديه من ملفات عن الأوضاع الخاصة والطارئة وكيفية تعامله معها، وخاصة أنه جاء طلب من القيادة بالاستعداد لكل الاحتمالات، من الأقل خطورة إلى الأشد تعقيداً.
هذا العمل استغرق فترات قصيرة، فكل شيء مجهز دائماً، لكن مرور الزمن يقتضي تحديث الخطط والبرامج، والجديد كان اتساع دائرة الاحتمالات أمام القطاعات كلها، وهو الأمر الذي يُعَدّ جديداً على القطاعات، أي الاستعداد لأي شيء في أي وقت.
مع نهاية الصيف، كانت كل القطاعات في الحزب قد قامت بفروضها المنزلية، الاستعدادات تامة لناحية أوضاع السلم، وأوضاع الطوارئ، وأوضاع الحرب، من القطاعات السياسية إلى المالية إلى الإعلامية إلى الحزبية والشعبية والطبية والأمنية والعسكرية والمقاومة. كل شيء بات جاهزاً، ثم شرع الأمين العام لحزب الله، السيد حسن نصر الله، ببث جرعاته الخطابية عن القرار الاتهامي والمحكمة الدولية وشهود الزور والصراع مع الإسرائيليين والأميركيين والعملاء المحليين. وهو ردد أن البلاد لا تحتمل قول كل شيء دفعة واحدة. كذلك فإنه كان يطلق مجموعة من المعطيات وينتظر الحل السياسي، الذي لا يأتي.
بعدها استفاد الحزب من زيارة الرئيس الإيراني للبنان لتشغيل أقصى طاقته في مجموعة من القطاعات، وأُجريت مناورات خاصة، على دفعات عدّة، بعضها كان مجرد تمارين مكتبية، وبعضها الآخر كان تمارين ميدانية مباشرة لتطبيق أجزاء من خطط العمل على الاحتمالات الأسوأ.
... وصولاً إلى اللحظة الحالية التي ظهر فيها أن قوى 14 آذار تشتري الوقت بالكلام المعسول، وأن تيار المستقبل يجتهد عبر وجوهه الإعلامية لإضاعة النقاش بردود وقنابل سياسية صوتية وخلبية، بانتظار سَوق المقاومة إلى المقصلة، بأدلة ليست أكثر من إفادات شهود الزور والبيانات الهاتفية التي عمل حزب الله واستخبارات الجيش ووزارة الاتصالات على إثبات حجم اختراقها إسرائيلياً، وبالتالي بطلانها كدليل إثبات على تورط عناصر من الحزب في اغتيال رفيق الحريري.
في الأيام القليلة المقبلة، سيجري تبادل آخر المقترحات الممكنة للحل بين الطرفين الرئيسيين في الصراع، أي الجمهورية السورية والمملكة العربية السعودية، على أن تنتهي هذه الفترة خلال عشرة أيام، بحسب البعض، وخلال أسبوعين بحسب آخرين، ولا يبقى بعدها مجال متاح للكلام.
في حال نجاح ضغط مساعد وزيرة الخارجية الأميركية جيفري فيلتمان في الإسراع بإصدار القرار الاتهامي بحق حزب الله في شهر كانون الأول المقبل، فإن القياديين في حزب الله سيرفضون الإجابة عن أي اتصال يأتيهم بشأن الوضع الداخلي، وسيُخرجون إلى النور مجموعة من الخطط المعدة سلفاً، ويشرعون في تنفيذها ميدانياً.
وفي حال تأخير إصدار القرار الاتهامي، كما تعهدت المملكة السعودية أمام القيادة السورية لغاية آذار المقبل، فإن الصراع السياسي سينتقل إلى مرحلة أخرى، هادئة ومستقرة، لكنها ستكون أقسى على قوى 14 آذار.
لكن هناك من يؤكد أن المهلة الممنوحة اليوم للمساعي ليست أكثر من 15 يوماً، وهي المرحلة التي يفترض أن تعرض فيها القيادة السورية ما لدى حزب الله من أفكار للحل أمام القيادة السعودية، والعكس صحيح، للوصول إلى خلاصات تمثّل مشروع إطار للتسوية في المسائل الرئيسية المتنازع عليها، أي المحكمة الدولية بوصفها أداة للقضاء على حزب الله في لبنان، ومشروعاً للعودة إلى استهداف سوريا، وبناء سلطة لبنانية متحالفة مع الولايات المتحدة، أو خلق مناطق نزاع داخل لبنان تحظى أجزاء منها بحماية أميركية.
وفي حال عدم وصول هذه المساعي إلى خواتيمها السعيدة، فإن حزب الله يرى أنه ألقى الحجة على الجميع، وعندها فإن مرحلة انتظار القرار الاتهامي ستكون خاصة جداً.
يعتمد حزب الله على تكتيك قديم لديه في الحفاظ على سرية المعلومات التي يملكها، وهو يعرف أكثر بكثير مما يظهر، ويملك من المعطيات الرقمية والورقية والاستخبارية ما يوازي ما تملكه دول إقليمية بشأن عدد من الملفات التي يعمل عليها بجدية، وخاصة ما يتعلق بالهجمة التي يتعرض لها في لبنان.
وتكتيك الحفاظ على السرية يشمل أيضاً الخطط والبرامج والرؤى والخطوات التنفيذية التي يعتزم حزب الله القيام بها تجاه كل ملف من الملفات الرئيسية، وبالتالي فإن ما يتسرب من معلومات من الحزب قليل، إن لم نقل إنه نادر، وبضعة أشخاص يعلمون ما الذي جرى الإعداد له، هم أولئك الذين ذيلت تواقيعهم البرامج المكتوبة والخرائط المرسومة، والمغلق عليها إلى حين.
لكن مع مسار الصراع والخبرة، وندرة المعلومات المتسربة من قيادة الحزب ومن أطراف التقت بهذه القيادة العليا، بات يمكن تأكيد مجموعة من النقاط، هي من الأقل تعقيداً إلى الأكثر خطورة كالآتي:
أولاً: محاولة زجّ القوى الفلسطينية في صراعات داخلية أمر ساقط، ولن يحصل. ورغم رهان البعض في قيادة تيار المستقبل مجدداً على القوات الفلسطينية في المخيمات للدخول في مغامرات داخلية لبنانية، ومواجهات قد تحصل مع صدور القرار الاتهامي، إلا أن القوى الفلسطينية نفسها ليست في صدد التورط، وهي في حالة استقرار داخل المخيمات وتسرّبها من المخيمات يحتاج إلى عمل أمني وعسكري مستبعد. أضف إلى أن هناك قوى فلسطينية داخل المخيمات وخارجها لن تسمح لمن تسوّل له نفسه من بعض الكوادر الفلسطينية المشاركة في أي أعمال عنف أو اضطرابات خارج المخيمات.
ثانياً: في حال تورُّط القوات اللبنانية في أية تحركات ذات طابع أمني أو عسكري أو معلوماتي، فإن التيار الوطني الحر وحزب الله لن يتدخلا مباشرة، ولا بنحو غير مباشر، وسيكون هناك دور كبير للجيش اللبناني لقمع أية حالات شاذة في المناطق التي تنتشر فيها مجموعات القوات اللبنانية. وقد قطعت الاستعدادات لحفظ الأمن في هذه المناطق أشواطاً، بات معها بعض ضباط الجيش يؤكدون أن مجموعات القوات لغاية اللحظة لا تجرؤ على الحراك.
ثالثاً: يتخيل البعض في قيادة تيار المستقبل أن حزب الله سيكون موجوداً مباشرة وعلى نحو مسلح في الشوارع ذات الأغلبية السنية، وهم يطرحون أفكاراً إبداعية لإغراق الحزب ومقاتليه في مستنقع من أوحال النزاعات الأهلية، وإلغاء الهالة التي تكلل الحزب بصفته حركة مقاومة. ومن هذه الأفكار إنزال نساء متشحات بالأبيض لمواجهة مقاتلي الحزب في شوارع بيروت والمناطق. إلا أن المقاتلين لن يكونوا مباشرة في الشوارع، وستكون عملياتهم خاطفة وموجهة لقيادات محددة. أضف أن ماكينة تيار المستقبل لم تعمل بجدية على أفكار مشابهة حتى اللحظة، لا مالياً ولا تعبوياً أو تنظيمياً، اللهم إلا إذا كان هناك من يرى أن مجرد إتيان حزب الله بأي حراك سيقابل مباشرة برد فعل «عفوي» من الشارع المقابل له.
رابعاً: إن الوضع الذاتي للطوائف اللبنانية لا يؤهل أحداً للّعب على وتر الفتنة، وإخافة حزب الله من ردود فعل مذهبية عشوائية، وخاصة أن الكوادر الوسطية التي جرى الرهان على دورها في زرع التعبئة المذهبية قد تراجعت عن هذه الأدوار كلباً، وبرزت شخصيات مثل الشيخ عمر بكري فستق تقول بفساد مبدأ المحكمة الدولية. كذلك أسرّ بكري لعدد من زواره بأنه خضع لضغوط وابتزاز من فريق 14 آذار على مدى أربعة أعوام.
وقد بات موقع مفتي الجمهورية محمد رشيد قباني في نقطة وسط لا تشجع على مغامرات كالتي حصلت في الخامس من أيار واستتبعت السابع منه. والجهة الوحيدة في تجربة السابع من أيار التي قامت بردود فعل مسلحة كانت بعض القرى في الجبل، لكنها هي وقيادتها اليوم في مكان آخر تماماً.
خامساً: الخيار الأصعب هو فرض عقوبات على لبنان، بناءً على طلب من الأمم المتحدة، لإرغام لبنان على تسليم متهمين باغتيال رفيق الحريري، بحسب القرار الاتهامي للمحكمة الدولية، وهذا الخيار يعني محاولة إحداث مشكلة داخلية، وبدء مسار للاهتراء الداخلي، مع ممارسة الضغط على كل المواطنين، وهو ما حصل في العراق مع العقوبات الدولية هناك، مع فارق حجم العراق وغناه وضعف المعارضة فيه، مقارنة بضعف لبنان وهشاشته، ووجود نزاعات داخلية هنا كافية لتوليد حرب أهلية خلال فترة قصيرة في حال وضع البلاد تحت الحصار.
ويعتمد هذا الخيار على أن البند السابع، الذي أُنشئت المحكمة تحته، لا يسمح للأمم المتحدة بإرسال قوات غير محدودة لتطبيق قراراتها وحسب، بل يسمح أيضاً بفرض عقوبات متنوّعة على الدول التي لا تلتزم بالقرارات الدولية المتخذة تحت هذا البند. علماً بأن هذا الخيار غير ناضج لعدم اكتمال العامل الذاتي لدى الشارع للسير به إلى نهايته، وفي حال عدم تلقّيه دعماً خارجياً مالياً وتقنياً وسياسياً وعسكرياً، سيتطلب أعواماً قبل أن يجد طريقه إلى التنفيذ، وقد لا يجدها أبداً في حال اجتراح مخارج للعقوبات الدولية.
سادساً: إن تعقيدات الوضع السعودي لا تمنع من استمرار طرح الأفكار والإسراع باستخلاص حلول ممكنة، إلا أنه في الواقع اللبناني يعتقد بعض من في فريق المستقبل أن الواقع السعودي ومرض الملك عبد الله بن عبد العزيز، وتراجع نفوذ (مفترض) لابنه الأمير عبد العزيز، تعني تلقائياً تقدم المحور المؤيد للإسراع بإصدار القرار الاتهامي على الإيقاع الاميركي، إلا أن تعقيد تقاسم النفوذ السعودي قد يحيّد المملكة عن أي دور سلبي أو إيجابي في لبنان.
في لقاءات جمعت مسؤولين سعوديين وأميركيين، وخلال البحث في الملفات الرئيسية، أبدى الجانب السعودي خشيته من التعرض للمزيد من الخسائر في المنطقة، ولا سيما خسارة كل ما زرعته السعودية واستثمرت فيه بلبنان، بعدما خسرت استثماراتها السياسية في العراق، إضافة إلى ظهور مخاوف سعودية جدية، أولاً لناحية الامتدادات والنهضة الشيعية في دول الخليج عامة، وفي اليمن والسعودية خاصة، وثانياً كي تُفلت العديد من القوى الإسلامية السُّنية، والراديكالية منها خاصة، من تحت العباءة السعودية، سواء أكان تمويلياً أم سياسياً، ما قد يهزّ بجدية قدرة المملكة على الإمساك بزمام المبادرة، أو حتى القيام بردود الفعل المناسبة،
فضلاً عن إرسال الحاكم الفعلي للإمارات العربية المتحدة محمد بن زايد موفدين إلى عدد من الدول، من بينها لبنان، للسؤال عن إمكان تحرك «الشيعة العرب» وردود فعلهم المحتملة إذا ما تعرض حزب الله لضربة قاسية أو لخطر جدي.
سابعاً: أجرت ست سفارات غربية، من بينها أربع سفارات لدول مشاركة في قوات الطوارئ الدولية العاملة في جنوب لبنان، مناورات واختبارات أمنية لإخلاء (أفراد ومواطنين ودبلوماسيين وجنود) عبر الحدود بين لبنان وإسرائيل، ما استتبع الكثير من الدراسة، وخاصة أنه يتطلب فتح الحدود بين البلدين العدوين، وهو أمر لن تسمح به قيادة المقاومة، التي تحرص على بقاء الحدود مغلقة، ولو اقتضى الأمر استخدام النار. وقد أثار الأمر أسئلة عن شرعية قيام هذه الجهات بالإخلاء عبر حدود العدو وقانونيته.
ثامناً: أية محاولة لتطبيق الخيارات الدولية على لبنان ستؤدي إلى وقوع الأسوأ مع قوات الطوارئ الدولية، وهو ما أشار إليه نائب الأمين العام لحزب الله الشيخ نعيم قاسم، إذ أكد أن الحزب يفي بحمايته قوات الطوارئ حالياً، أما بعد صدور القرار الاتهامي فلا أحد يضمن رد فعل السكان تجاه هذه القوات.
تاسعاً: إن اعتماد أي شكل من أشكال القوة أو الضغط أو الإجبار أو العقوبات، لإلزام لبنان بتسليم مطلوبين من حزب الله إلى المحكمة الدولية، سيستتبع المزيد من تدهور السلطة اللبنانية المركزية، وبالتالي إحداث المزيد من الفراغات الأمنية، وحينها نعود إلى انكشاف أمني، لا يغطيه في لبنان إلا التوافقات السياسية وبعض من سلطة مركزية تصرّف الأعمال.
في النهاية، بات من المعلوم أن استراتيجية حزب الله في الأعوام الأخيرة تتجه إلى الخارج. وبعدما استكمل العمل داخل البلاد، أصبح هناك تمدد خارجي في الغرب وفي الشرق. وإذا افترضنا أن «الله وفّق» الغرب وحلفاءه اللبنانيين في توجيه ضربة مزلزلة لحزب الله والمقاومة في لبنان، فإن هذا سيعني ضعف القيادة المركزية للحزب أو اضمحلالها، ما سينعكس هزات ارتدادية في أكثر من مكان في العالم، وسنعود لنسمع حينها بـ«تنظيم الجهاد العالمي2» وقيام حركة «المستضعفين 3» وغيرها من الحركات التي لا تعمل وفق أي منطق سياسي واضح، وحينها قد يُترحَّم على أيام حزب الله وتنظيم القاعدة معاً. علماً بأن أحد كبار القياديين في المقاومة قال أمام عدد من زواره إن المقاومة تفضل دائماً المواجهة المباشرة مع العدو، على أن تواجه مشاريعه في الداخل.