رائحة الرطوبة في المعمل تحمل بعضاً من زمن آخر. زمن عتيق. كأن المكان يرفض أن يتغير. أو كأنه يحافظ على خصوصية لا تقبل أن تتزحزح. عند الدخول إلى المعمل، الواقع تحت الأرض في شارع الفاكهاني في منطقة الطريق الجديدة، تصير الصورة كأنها بالأبيض والأسود.
الرجل الثمانيني الساكن في المعمل يشبه المكان. يحمل الكثير من ذاكرة أيام ولّت. عندما يتحدث عنها، يسترجعها في ذهنه ومن ثم يرتبها أحداثاً متتالية. أحداث تشبه قراءة نص في كتاب التاريخ. انفجار قذيفة في الحرب العالمية الثانية. شارع الحمراء أرض زراعية بمنازل قليلة. سكان بيروت يتظاهرون بسبب رفع سعر ثمن بطاقة الترامواي.. معلومات أعطته لقب «مختار المخاتير» الذي يضحكه عاليا كلما سمعه، وقد أطلقه عليه أحد مخاتير رأس بيروت.
وللرجل اللطيف طريقته الخاصة في سرد الماضي وأحداثه. نكتة لطيفة بلهجة بيروتية صرفة وجمل فرنسية متمكنة توحي بأن صاحبها برجوازي عتيق من أصحاب الثقافة العالية.
درس حسن داعوق أولا في مدرسة رأس بيروت العلوي، أي العالية، والتي كانت تقع «فوق على قريطم. هناك علمنا الشيخ سعد ياسين كتابة الخط». ومن بعدها في «الكوليج دولاسال». عندما يشير إلى موقع «الكوليج» يظهر كأنه يتحدث عن خريطة أخرى «تقع المدرسة على الداعوق.. محطة جنبلاط.. على الحاووس إذا كنت آتيا إليها من باب ادريس..» (في كليمنصو حاليا) يحار المرء مرارا بالعنوان الغريب على أبناء اليوم. غابت المدرسة منذ زمن بعيد لكن تلميذها السابق ما زال يشير إليها كأنها ما زالت في زمنها وفي مكانها. حتى أنواع الطبخ تخرج منه بأسماء غريبة ومضحكة. أما صاحب الأسماء فيجزم بأن الذي لا يعرفها بأسمائها الحقيقية لا يكون بيروتياً أصلياً. في قاموسه يصير اسم الفتوش هو «الزريقة» ويصبح اسم الكبة باللبن «الفقاعية».
يتذكر أبو عدنان: «في الثلاثينيات كان اللحامون قلة. تربي كل عائلة خروفاً في المنزل وتصنع منه القورما ويأتي اللحام ليذبح الخروف بالقرب من المنزل وينال أجرته. وكل منزل كان محاطاً ببستان».
في بيت داعوق الأرضي، زرعت أشجار الخوخ والأكي دنيا والبلح والتين. وسيّج البستان بشجر الزنزلخت الذي يلطف الهواء ويجعله أكثر برودة، ولا يعلق عليه الناموس بسبب مرارته. آخر خروف ذبحته العائلة كان يزن 38 رطلا. والرطل مقياس الوزن في ذلك الزمن. غير أن أكثر عبارة يرددها وتربطه بمسقط رأسه، شارع الحمراء، هي التالية: «نحن سكان شارع الحمراء من قبل أن يصله الزفت». والزفت وصل في العام 1936.
الجنرال ويغان والـ«موسيو» كوبولا
درس في «الكوليج» حتى «البروفيه» ومن وقتها حافظ على لغته الفرنسية المتمكنة. يؤمن بأن «الإنسان الذي يتعلم شيئا لا ينساه..» وهي قاعدة في الحياة داوم على تبنيها بحسب ما هو واضح.
يحمل الكتب و«الكدوشة» ويذهب إلى المدرسة. في مرة، تمرّ في شارع الحمراء مجموعة من العسكر الفرنسي على رأسها ضابط كانت متوجهة باتجاه النادي العسكري في المنارة. يرى الضابط مجموعة من الأولاد الصغار يحملون كتباً فرنسية. فيدور بينه وبين الداعوق الصغير، بالفرنسية، الحوار القصير التالي:
- «صباح الخير يا ابني. كيف الحال؟ أين تذهبون؟
- ذاهبون إلى المدرسة. من أنت؟
- أنا الجنرال ويغان. في أي مدرسة تتعلمون؟
- في «الكوليج دو لا سال»
- سيروا على مهل وانتبهوا إلى دروسكم. وإذا احتجتم إلى أي شيء أبلغوني به يوم غد».
بعد «البروفيه» عمل في مطبعة عبد القادر العيتاني التي كانت تقع غربي مبنى بلدية بيروت في وسط المدينة. إتقان اللغة الفرنسية صارت ميزة للفتى العامل. رن الهاتف مرة في مطبعة العيتاني فسارع صاحبها للإجابة ثم ما لبث أن نادى بسرعة على الفتى الموظف. الاتصال جاء من «موسيو كوبولا» في «الكوميساريا» يسأل بالفرنسية عن «مسيو داعوق». «الكوميساريا» كانت مقر الحاكم الفرنسي في السرايا الحكومية. ذهب داعوق إلى هناك. فسأله المدير الكبير عن سبب تغيبه عن الحضور لإيصال الطلبيات، مستغربا إرسال عمال لا يعرفون الفرنسية ما يصعّب التواصل معهم. شربا القهوة وتمازحا فطلب منه المدير أن ينسق مع «مسيو سيزو». وتجرأ الفتى على الهزء من «سيزو»، الذي يعني مقصاً بالعربية، تأكيدا على علاقته الجيدة بالفرنسيين.
ومن مطبعة العيتاني حيث جاءه غسان تويني مرة، في العام 1936، بأحرف الطباعة عندما تعطلت مطبعة جريدة «النهار»، انتقل إلى مطابع «كوزما» في باب ادريس. وكوزما سوري من الشام التزم مطبوعات مع الفرنسيين ومع الدولة.
الترامواي الذي كان يسير على خطوط عدة كانت بطاقته بقرشين ونصف. وعندما ارتفع إلى ثلاثة قروش أضرب أهالي بيروت وتظاهروا. صاروا يرددون في الشوارع: يا بندورة كلّك مي/ طلعت ريحتك عالترماي/ ما منركب إلا بقرش/ من المنارة للحرش.. ولاحقا ستقفز التسعيرة إلى خمسة قروش.. وظل داعوق ينتقل من منزل والديه في شارع الحمراء إلى مكان عمله في وسط بيروت سيرا على القدمين توفيرا للقروش الخمسة «ثم ان المسافة لا تزيد عن كونها، خطوة!».
لكنه قرر في العام 1954 أن يخوض مع زميله في مطابع كوزما، حمزة الحركة، ابن برج البراجنة في مشروعهما الخاص الأول ويفتتحان مطبعة لهما في سوق المعرض. وفي العام 1961 انتقلا بمطبعتهما إلى منطقة الطريق الجديدة. وقد وصل عدد العاملين فيها ذات مرة إلى 22 موظفاً. كثافة العمل هذه باتت غائبة اليوم. أسباب عدة أدت إلى هذا التراجع. أسعار الورق الرخيص، والمعامل الكبيرة، والمطابع العملاقة.. والكومبيوتر.
عند عمر الزعني
تعلم الفتى العزف على العود في «الكونسرفتوار» فأرسل بطلبه شاعر الأغنية الشعبية عمر الزعني، عبر سعد الدين، شقيق عمر، الذي كان يملك محلا للأسطوانات قرب المسجد الكبير. ذهب حسن وسعد الدين إلى عند عمر الزعني. جلس الثلاثة ليتحادثوا فطلب منه عمر أن يعود في اليوم التالي ليأكل بقلاوة. سأل عن سبب التأجيل إلى الغد، فرد عمر: «اسمعني مساء في الإذاعة وتعال غدا لتأكل البقلاوة».
ليلتها غنى عمر الزعني: نحنا سبور/ نحنا سبور/ لا منطيق ولا منصبر/ بدنا كل شي عالحارك/ بدنا كل شي على الفوووور... ما في شي بيكفينا/ إلا الحمص بطحينة/ بقلاوة كول وشكوووور/ من عند حسن الصمدي/ نحنا سبووور... التقط الصمدي التفاتة الزعني تجاهه في الأغنية فبادر إلى إرسال البقلاوة في اليوم التالي وأكل الجميع منها.
لاحقا صار حسن عضواً في الفرقة الموسيقية التابعة للزعني. وتألفت الفرقة يومها من توفيق الباشا على «الفيولونسيل»، حسن داعوق وخليل عيتاني على العود، وخـــضر الغالي وإبـــراهيم شهاب على الكمان. وعندما شاع خبر التجديد لولاية الرئيس بشارة الخوري غنى الزعني الذي كان يعبّر عن صوت المحــــرومين قصيدة «جــــددلو» فأحيل على القـــضاء وأودع السجن. هناك ذهب أبو عدنان ليزوره مرارا.
ويوم غنى داعوق للمرة الأولى في الإذاعة، في الخمسينيات، سمعه والده، فغضب، وقال له: «ما بقى تدعس هونيك». اعتبر الوالد أن الإذاعة هي الخطوة الأولى، تليها الخطوة المؤكدة الثانية، أي المسرح، ولرجل محافظ وقتها «مش شغلتنا هالشغلة». ولم يكن وارداً بالطبع أن يخرج عن طاعة أبيه. لكنه نال يومها من الإذاعة جائزة عبارة عن مئة ليرة.
خلال الحرب العالمية الثانية صار الطحين يصل إلى المواطنين تقطيرا عبر شركة الإعاشة الفرنسية، وانقطع السكر، وانتشر مرض الجرب. لكن والد حسن، محمد، كان قد عمل حسابا للأيام السوداء وقام بتموين السكر، الذي كان عبارة عن قوالب هرمية تكسّرها العائلة كلما احتاجت لشيء من هذه المادة.
وأثناء القصف المتبادل بين دول الحلفاء ودول المحور سقطت عدة قذائف ثقيلة على بيروت من بينها واحدة بالقرب من مسجد الحمراء، القريب من منزل آل داعوق، لكنها لم تنفجر. استشهد أربعة شبان ووالدتهم من آل التقي في قذيفة عائشة بكار. وسقطت قذيفة قرب منزل آل العرداتي عند محلة النادي العسكري. يتذكر أبو عدنان أن الكهرباء كانت مقطوعة خلال ساعات القصف وكانت الناس تستنير بضوء القنديل «انطفأ القنديل في منزل العائلة بسبب قوة ضغط انفجار عائشة بكار».
إلى قصر عمر بك الداعوق في قريطم يدخل عبد الحميد كرامي، رئيس الوزراء، فيفاجأ بأعداد الحاضرين ومن بينهم حسن الذي يستمع إلى الحديث الذي يدور بين الداعوق البك وبين كرامي. يسأل كرامي الداعوق باستهجان: «عمر بك، ما هذا التجمع؟». ضحك عمر بك وأجابه: «هؤلاء أبناء عائلتي». رد كرامي عندها: «الله يبارك فيكم. هل تسجلونني معكم في هذه العائلة الكريمة؟»، قاصدا جمعية آل الداعوق. يخبر أبو عدنان الحادثة بزهو الفخور بعائلته، ويقول عن كرامي إنه كانت شخصية سياسية مميزة تختلف عن «بضاعة» اليوم.
يداوم اليوم أبو عدنان في معمله العتيق. آلات الطباعة والقص والتصميغ تبدو ساكنة في انتظار زبون محتمل. آلة التصميغ وحدها، والتي تعمل على الغاز، تعود لأكثر من مئة عام إلى الوراء. الرجل الذي بلغ الخامسة والثمانين اليوم مسؤول عن طباعة المغلفات الكبيرة التي تحمل مسابقات الامتحانات الرسمية.
يعمل مع وزارة التربية منذ فترة طويلة. ولا يغادر المعمل إلا ليؤذن في مسجد الإمام علي في الطريق الجديدة صلاة أو اثنتين أو خمسا في اليوم الواحد. يقوم بهذه المهــمة بحثا عن ثواب مرتجى.
الرجل الثمانيني الساكن في المعمل يشبه المكان. يحمل الكثير من ذاكرة أيام ولّت. عندما يتحدث عنها، يسترجعها في ذهنه ومن ثم يرتبها أحداثاً متتالية. أحداث تشبه قراءة نص في كتاب التاريخ. انفجار قذيفة في الحرب العالمية الثانية. شارع الحمراء أرض زراعية بمنازل قليلة. سكان بيروت يتظاهرون بسبب رفع سعر ثمن بطاقة الترامواي.. معلومات أعطته لقب «مختار المخاتير» الذي يضحكه عاليا كلما سمعه، وقد أطلقه عليه أحد مخاتير رأس بيروت.
وللرجل اللطيف طريقته الخاصة في سرد الماضي وأحداثه. نكتة لطيفة بلهجة بيروتية صرفة وجمل فرنسية متمكنة توحي بأن صاحبها برجوازي عتيق من أصحاب الثقافة العالية.
درس حسن داعوق أولا في مدرسة رأس بيروت العلوي، أي العالية، والتي كانت تقع «فوق على قريطم. هناك علمنا الشيخ سعد ياسين كتابة الخط». ومن بعدها في «الكوليج دولاسال». عندما يشير إلى موقع «الكوليج» يظهر كأنه يتحدث عن خريطة أخرى «تقع المدرسة على الداعوق.. محطة جنبلاط.. على الحاووس إذا كنت آتيا إليها من باب ادريس..» (في كليمنصو حاليا) يحار المرء مرارا بالعنوان الغريب على أبناء اليوم. غابت المدرسة منذ زمن بعيد لكن تلميذها السابق ما زال يشير إليها كأنها ما زالت في زمنها وفي مكانها. حتى أنواع الطبخ تخرج منه بأسماء غريبة ومضحكة. أما صاحب الأسماء فيجزم بأن الذي لا يعرفها بأسمائها الحقيقية لا يكون بيروتياً أصلياً. في قاموسه يصير اسم الفتوش هو «الزريقة» ويصبح اسم الكبة باللبن «الفقاعية».
يتذكر أبو عدنان: «في الثلاثينيات كان اللحامون قلة. تربي كل عائلة خروفاً في المنزل وتصنع منه القورما ويأتي اللحام ليذبح الخروف بالقرب من المنزل وينال أجرته. وكل منزل كان محاطاً ببستان».
في بيت داعوق الأرضي، زرعت أشجار الخوخ والأكي دنيا والبلح والتين. وسيّج البستان بشجر الزنزلخت الذي يلطف الهواء ويجعله أكثر برودة، ولا يعلق عليه الناموس بسبب مرارته. آخر خروف ذبحته العائلة كان يزن 38 رطلا. والرطل مقياس الوزن في ذلك الزمن. غير أن أكثر عبارة يرددها وتربطه بمسقط رأسه، شارع الحمراء، هي التالية: «نحن سكان شارع الحمراء من قبل أن يصله الزفت». والزفت وصل في العام 1936.
الجنرال ويغان والـ«موسيو» كوبولا
درس في «الكوليج» حتى «البروفيه» ومن وقتها حافظ على لغته الفرنسية المتمكنة. يؤمن بأن «الإنسان الذي يتعلم شيئا لا ينساه..» وهي قاعدة في الحياة داوم على تبنيها بحسب ما هو واضح.
يحمل الكتب و«الكدوشة» ويذهب إلى المدرسة. في مرة، تمرّ في شارع الحمراء مجموعة من العسكر الفرنسي على رأسها ضابط كانت متوجهة باتجاه النادي العسكري في المنارة. يرى الضابط مجموعة من الأولاد الصغار يحملون كتباً فرنسية. فيدور بينه وبين الداعوق الصغير، بالفرنسية، الحوار القصير التالي:
- «صباح الخير يا ابني. كيف الحال؟ أين تذهبون؟
- ذاهبون إلى المدرسة. من أنت؟
- أنا الجنرال ويغان. في أي مدرسة تتعلمون؟
- في «الكوليج دو لا سال»
- سيروا على مهل وانتبهوا إلى دروسكم. وإذا احتجتم إلى أي شيء أبلغوني به يوم غد».
بعد «البروفيه» عمل في مطبعة عبد القادر العيتاني التي كانت تقع غربي مبنى بلدية بيروت في وسط المدينة. إتقان اللغة الفرنسية صارت ميزة للفتى العامل. رن الهاتف مرة في مطبعة العيتاني فسارع صاحبها للإجابة ثم ما لبث أن نادى بسرعة على الفتى الموظف. الاتصال جاء من «موسيو كوبولا» في «الكوميساريا» يسأل بالفرنسية عن «مسيو داعوق». «الكوميساريا» كانت مقر الحاكم الفرنسي في السرايا الحكومية. ذهب داعوق إلى هناك. فسأله المدير الكبير عن سبب تغيبه عن الحضور لإيصال الطلبيات، مستغربا إرسال عمال لا يعرفون الفرنسية ما يصعّب التواصل معهم. شربا القهوة وتمازحا فطلب منه المدير أن ينسق مع «مسيو سيزو». وتجرأ الفتى على الهزء من «سيزو»، الذي يعني مقصاً بالعربية، تأكيدا على علاقته الجيدة بالفرنسيين.
ومن مطبعة العيتاني حيث جاءه غسان تويني مرة، في العام 1936، بأحرف الطباعة عندما تعطلت مطبعة جريدة «النهار»، انتقل إلى مطابع «كوزما» في باب ادريس. وكوزما سوري من الشام التزم مطبوعات مع الفرنسيين ومع الدولة.
الترامواي الذي كان يسير على خطوط عدة كانت بطاقته بقرشين ونصف. وعندما ارتفع إلى ثلاثة قروش أضرب أهالي بيروت وتظاهروا. صاروا يرددون في الشوارع: يا بندورة كلّك مي/ طلعت ريحتك عالترماي/ ما منركب إلا بقرش/ من المنارة للحرش.. ولاحقا ستقفز التسعيرة إلى خمسة قروش.. وظل داعوق ينتقل من منزل والديه في شارع الحمراء إلى مكان عمله في وسط بيروت سيرا على القدمين توفيرا للقروش الخمسة «ثم ان المسافة لا تزيد عن كونها، خطوة!».
لكنه قرر في العام 1954 أن يخوض مع زميله في مطابع كوزما، حمزة الحركة، ابن برج البراجنة في مشروعهما الخاص الأول ويفتتحان مطبعة لهما في سوق المعرض. وفي العام 1961 انتقلا بمطبعتهما إلى منطقة الطريق الجديدة. وقد وصل عدد العاملين فيها ذات مرة إلى 22 موظفاً. كثافة العمل هذه باتت غائبة اليوم. أسباب عدة أدت إلى هذا التراجع. أسعار الورق الرخيص، والمعامل الكبيرة، والمطابع العملاقة.. والكومبيوتر.
عند عمر الزعني
تعلم الفتى العزف على العود في «الكونسرفتوار» فأرسل بطلبه شاعر الأغنية الشعبية عمر الزعني، عبر سعد الدين، شقيق عمر، الذي كان يملك محلا للأسطوانات قرب المسجد الكبير. ذهب حسن وسعد الدين إلى عند عمر الزعني. جلس الثلاثة ليتحادثوا فطلب منه عمر أن يعود في اليوم التالي ليأكل بقلاوة. سأل عن سبب التأجيل إلى الغد، فرد عمر: «اسمعني مساء في الإذاعة وتعال غدا لتأكل البقلاوة».
ليلتها غنى عمر الزعني: نحنا سبور/ نحنا سبور/ لا منطيق ولا منصبر/ بدنا كل شي عالحارك/ بدنا كل شي على الفوووور... ما في شي بيكفينا/ إلا الحمص بطحينة/ بقلاوة كول وشكوووور/ من عند حسن الصمدي/ نحنا سبووور... التقط الصمدي التفاتة الزعني تجاهه في الأغنية فبادر إلى إرسال البقلاوة في اليوم التالي وأكل الجميع منها.
لاحقا صار حسن عضواً في الفرقة الموسيقية التابعة للزعني. وتألفت الفرقة يومها من توفيق الباشا على «الفيولونسيل»، حسن داعوق وخليل عيتاني على العود، وخـــضر الغالي وإبـــراهيم شهاب على الكمان. وعندما شاع خبر التجديد لولاية الرئيس بشارة الخوري غنى الزعني الذي كان يعبّر عن صوت المحــــرومين قصيدة «جــــددلو» فأحيل على القـــضاء وأودع السجن. هناك ذهب أبو عدنان ليزوره مرارا.
ويوم غنى داعوق للمرة الأولى في الإذاعة، في الخمسينيات، سمعه والده، فغضب، وقال له: «ما بقى تدعس هونيك». اعتبر الوالد أن الإذاعة هي الخطوة الأولى، تليها الخطوة المؤكدة الثانية، أي المسرح، ولرجل محافظ وقتها «مش شغلتنا هالشغلة». ولم يكن وارداً بالطبع أن يخرج عن طاعة أبيه. لكنه نال يومها من الإذاعة جائزة عبارة عن مئة ليرة.
خلال الحرب العالمية الثانية صار الطحين يصل إلى المواطنين تقطيرا عبر شركة الإعاشة الفرنسية، وانقطع السكر، وانتشر مرض الجرب. لكن والد حسن، محمد، كان قد عمل حسابا للأيام السوداء وقام بتموين السكر، الذي كان عبارة عن قوالب هرمية تكسّرها العائلة كلما احتاجت لشيء من هذه المادة.
وأثناء القصف المتبادل بين دول الحلفاء ودول المحور سقطت عدة قذائف ثقيلة على بيروت من بينها واحدة بالقرب من مسجد الحمراء، القريب من منزل آل داعوق، لكنها لم تنفجر. استشهد أربعة شبان ووالدتهم من آل التقي في قذيفة عائشة بكار. وسقطت قذيفة قرب منزل آل العرداتي عند محلة النادي العسكري. يتذكر أبو عدنان أن الكهرباء كانت مقطوعة خلال ساعات القصف وكانت الناس تستنير بضوء القنديل «انطفأ القنديل في منزل العائلة بسبب قوة ضغط انفجار عائشة بكار».
إلى قصر عمر بك الداعوق في قريطم يدخل عبد الحميد كرامي، رئيس الوزراء، فيفاجأ بأعداد الحاضرين ومن بينهم حسن الذي يستمع إلى الحديث الذي يدور بين الداعوق البك وبين كرامي. يسأل كرامي الداعوق باستهجان: «عمر بك، ما هذا التجمع؟». ضحك عمر بك وأجابه: «هؤلاء أبناء عائلتي». رد كرامي عندها: «الله يبارك فيكم. هل تسجلونني معكم في هذه العائلة الكريمة؟»، قاصدا جمعية آل الداعوق. يخبر أبو عدنان الحادثة بزهو الفخور بعائلته، ويقول عن كرامي إنه كانت شخصية سياسية مميزة تختلف عن «بضاعة» اليوم.
يداوم اليوم أبو عدنان في معمله العتيق. آلات الطباعة والقص والتصميغ تبدو ساكنة في انتظار زبون محتمل. آلة التصميغ وحدها، والتي تعمل على الغاز، تعود لأكثر من مئة عام إلى الوراء. الرجل الذي بلغ الخامسة والثمانين اليوم مسؤول عن طباعة المغلفات الكبيرة التي تحمل مسابقات الامتحانات الرسمية.
يعمل مع وزارة التربية منذ فترة طويلة. ولا يغادر المعمل إلا ليؤذن في مسجد الإمام علي في الطريق الجديدة صلاة أو اثنتين أو خمسا في اليوم الواحد. يقوم بهذه المهــمة بحثا عن ثواب مرتجى.