كشف مدير تحقيق ميدانيّ سابق في لجنة التحقيق الدوليّة أن اللجنة طلبت مساعدة إسرائيل لتزويدها بصور التقطتها طائرات التجسس الإسرائيلية يوم اغتيال الرئيس رفيق الحريري، لكن إسرائيل «زودتنا بصور قبل ثلاثة أيام من عملية الاغتيال وادّعت أن عطلاً تقنياً طرأ على كاميرات طائرات التجسّس قبل يومين من عملية الاغتيال واستمر ذلك العطل يومين إضافيين بعد العملية».
أضاف مدير التحقيق الذي عمل مع ديتليف ميليس لفترة تسعة أشهر في لجنة التحقيق الدولية: «لم نقتنع بما قاله الإسرائيليون، إذ إن أجهزة الاستخبارات لها أجندة خاصة بها لا تبوح بمضمونها، وهي ليست جمعية خيرية تساعد في تحقيقات من هذا النوع». وبعدما رفضت إسرائيل تسليم لجنة التحقيق صوراً تجسسية لعملية الاغتيال، توجّهت اللجنة بالطلب نفسه إلى الولايات المتحدة الأميركية، «والغريب أن الأميركيين كرّروا الادعاء الإسرائيلي أن عطلاً تقنياً طرأ على أجهزة تصوير طائرات التجسّس في يوم الاغتيال». ويلفت المحقق إلى أن لجنة التحقيق بقيادة ديتليف ميليس لم تجد أي رابط بين رفض تزويد إسرائيل اللجنة بالصور ووضعها (إسرائيل) في خانة المشتبه فيها.
وأكد المحقق الأوروبي أن إسرائيل «ساعدت اللجنة بتزويدها بمعلومات مهمّة عن عبد الباسط بني عودة»، عميل الموساد الذي هُرّب إلى السويد بعدما اعتمدته لجنة التحقيق الدولية شاهداً، إذ اتهم كلّاً من سوريا وحزب الله بالوقوف وراء عملية الاغتيال، إلا أنه استُبعد من لائحة الشهود بعد انتهاء عمل ميليس في لبنان.
ويوضح المحقق أنه «كان هناك اقتناع بأن المتفجرات التي استخدمت في اغتيال الحريري هي من نوع تي أن تي، لكن بعدما نفّذنا مسحاً جديداً لمنطقة الانفجار تبيّن أن المتفجرة هي من نوع «C4» الشديدة الانفجار. وقد زوّدتنا إسرائيل بمعلومة استخبارية مفادها أن استخباراتها رصدت اختفاء ألف كيلوغرام من تلك المادة من مخزن متفجرات تابع للجيش السوري في لبنان قبل عملية الاغتيال بستة أسابيع».
وكشف المحقق أن لجنة التحقيق صادرت كل كاميرات المراقبة المنصوبة في منطقة السان جورج في ساحة النجمة في وسط بيروت، إلا أنها كانت خالية من أي صور، مؤكّداً أن «ليس لدى لجنة التحقيق سوى الصور التي التقطتها كاميرا مصرف اتش اس بي سي».
ليمان والسيّد
ميليس والسنيورة كانا يقضيان الوقت مع السيجار الكوبي والنبيذ في سنّ
الفيل
أكد المحقق الأوروبي ما قاله المدير العام للأمن العام السابق اللواء جميل السيد، من أن لجنة التحقيق حاولت إبرام صفقة معه لإيجاد كبش محرقة واتهامه باغتيال الحريري، وأفصح المحقق أن «هذا العرض تلقّاه جميل السيد من المحقق الألماني غيرهارد ليمان الذي قال للسيد إن بإمكانه اختيار أي شخصية سياسية من الصف الأول واتهامه بتدبير اغتيال الحريري ثم تصفيته لاحقاً. هذا العرض لا يمكن أن يقدّمه الالماني غيرهارد ليمان من دون الرجوع إلى ميليس. عندما علمت بالموضوع أثرته مع اللجنة وتعاركنا كلامياً».
واتّهم المحقق الأوروبي ميليس بأنه «حاول مرّات عدة أن يلفّق خبريات وملفات مثلما فعل في تحقيق الملهى الليلي في برلين الذي كان يحقّق به وانتهى بفشل ذريع لميليس وفريقه». أضاف المحقق الذي كان مقرباً من ميليس حتى دبّ الخلاف بين المحققين حول أسلوب عمل ميليس، أن «الأخير لم يقدّم أي شيء في ملف التحقيق من جهده الخاص. بينما كان فريق المحققين، وأنا واحد منهم، يعمل ليلاً ونهاراً لتجميع معلومات والوصول الى أدلّة مادّية، كان ميليس مشغولاً بشرب النبيذ الفاخر من نوع «شاتو بيتروس» وتدخين السيجار الكوبي مع رئيس وزراء لبنان فؤاد السنيورة في بار السيغار في فندق ميتروبوليتان، ثم تناول الطعام البحري في مطعم فندق فينيسيا. لم يكن لديه الوقت الكافي لعملية التحقيق.
خدّام فبرك الصدّيق
رأى المحقق أن شاهد الزور السوري زهير الصدّيق «ركّب شهادته بطريقة ذكية لإقناع اللجنة بما كان يقوله. فهو أدلى بمعلومات 70 في المئة من مضمونها صحيح والباقي معلومات كاذبة لتسريع إدانة النظام السوري وحزب الله. لكن تبيّن في ما بعد أن الصدّيق، الذي اشترط علينا نقله إلى فرنسا بعد تزويدنا بالمعلومات، كان قد دسّه نائب الرئيس السوري السابق عبد الحليم خدّام، الذي أراد أن ينتقم من النظام السوري عبر طعنه بالظهر بمساعدة الصدّيق».
ويقول المحقق الأوروبي «هناك اقتناع راسخ لدى لجنة التحقيق بأن سوريا أعطت أمراً بتصفية الحريري، وحزب الله هو من نفّذ العملية. فنحن تمكّنا من الوصول إلى نهاية الخيط في المجموعات التي راقبت ونفّذت عملية الاغتيال. فكل الهواتف الجوالة كان مرجعها الاخير إمام مسجد كان يتردّد إليه أحمد أبو عدس قبل أن يختفي. وهذا الإمام هو مسؤول في إحدى هيئات الإغاثة التابعة لحزب الله».
غملوش والهواتف
وثيقة في فرع المعلومات: غملوش ليس عضواً في حزب الله بل استفاد من أقربائه
كشف المحقّق أنّ اللجنة توصّلت إلى من أُوكلت إليه مهمّة إتلاف الهواتف الجوالة التي تعتقد اللجنة أنها كانت تراقب الحريري قبل الاغتيال بفترة قصيرة وأثناء الاغتيال، لكنها أُقفلت بعد الاغتيال مباشرةً. ويقول المحقق: «قبل أن يتلف ذلك الشخص (ع. م. غملوش) الهواتف، استخدم أحدها واتصل بخطيبته».
وفي تصريح لافت هو الأول من نوعه، يزعم المحقّق أنّ اللجنة قابلت غملوش، «إلا أنه قال لنا أفضّل الانتحار على أن أزوّدكم معلومات عن عملية الاغتيال»، علماً بأن الأجهزة الأمنية المعنية بالتحقيقات تؤكد أنّ الشاب اختفى قبل أن يتمكّن المحققون من مقابلته.
ولا يتوقع المحقق، الذي تربطه علاقة قوية بعدد من زملائه في لجنة التحقيق، أن يحمل القرار الاتهامي المرتقب صدوره خلال أيام «أيّ مفاجآت. فاللجنة لا تملك أدلّة قاطعة، بل هناك اقتناع بأن حزب الله وسوريا يقفان وراء عملية الاغتيال».
وختم المحقق الذي فضّل عدم الكشف عن اسمه «اللجنة لن تقبض على قتلة الحريري، ولن تتمكن من الوصول إلى الحقيقة».
مصدر لبناني: كدنا نوقفه
يكشف مصدر أمني لبناني رفيع، أن فرق التحقيق اللبنانية والدولية عملت على جمع معلومات تفصيلية عن غملوش، وراقبته وتوصلت إلى مكان إقامته وكادت تصل إليه قصد اعتقاله، إلّا أنّ بعض الأخطاء أدّت إلى هربه واختفائه. وقال المصدر إن فرق التحقيق تمكنت، بالتعاون مع حزب الله، من التواصل مع أفراد من عائلة غملوش وبعض أصدقائه، وجُمعت وثائق تخصّه في سبيل تكوين ملفّ، وإن فرع المعلومات في قوى الأمن الداخلي توجّه بسؤال مباشر إلى حزب الله للإفادة عن علاقة غملوش بالحزب.
ويوضح المصدر اللبناني، أنه بعد فترة من الوقت، أبلغ الحزب قوى الأمن الداخلي رسمياً أن غملوش ليس عضواً في الحزب، وأنه كان يملك محلّاً لتجميع الخطوط الهاتفية وكاميرات المراقبة، وأنّ له أقرباء في الحزب، وربما ساعده هؤلاء في أخذ مشاريع عمل خاصة ببعض مكاتب الحزب في بيروت والجنوب. وأوضح المصدر أن في أرشيف فرع المعلومات وثيقة تشير إلى أن غملوش ليس عضواً في حزب الله، وأنه كان قريباً جداً من الحزب حتى عام 2000.
«مجموعة الأزمات»: سمعة حزب اللّه تشوّهت
«تلقينا تقارير، بغض النظر عن صحتها، عن أنّ السعودية تضغط على سعد الحريري للتخلي عن المحكمة. في تلك اللحظة، قررنا التحرك سريعاً. اتصالات وزيرة الخارجية وتصريحاتنا وزيارة فيلتمان، كلها خطوات أتت لدعمه وتشجيعه على مقاومة فرض اتفاق. ازدادت ثقته بنفسه وصار قادراً على الوقوف في وجه الضغوط المحلية والإقليمية للحفاظ على استراتيجيته الحالية: ربح الوقت إلى أن يصدر القرار الاتهامي». هذا التصريح نقله باحثو «مجموعة الأزمات الدولية» في تقريرهم الذي صدر أول من أمس عن الأوضاع في لبنان، ويحمل عنوان «محاكمة بالنار: السياسات المتعلقة بالمحكمة الدولية الخاصة بلبنان».
يفنّد التقرير الأوضاع في لبنان، بدءاً من قبل اغتيال الرئيس رفيق الحريري، وصولاً إلى الحالة الراهنة، إذ وصلت الأمور إلى ما يشبه الحائط المسدود. يعرض الباحثون الخيارات المتاحة، مستندين إلى المقابلات التي ينقلون مضامينها. قائد القوات اللبنانية سمير جعجع يرى أن الموقف بين حزب الله وسعد الحريري يبدو كأن ثمة من يريد إطلاق النار على قدم شخص ما، فيردّ الآخر بإطلاق النار على رأسه هو».
يعترف باحثو المجموعة بصعوبة توقّع كيفية تطور الأمور في لبنان، متحدثين عن المأزق الذي وقع فيه الطرفان: إذا نفّذ حزب الله تهديداته، فسيخسر صورته كحركة مقاومة. وإذا لم يفعل، فسيفقد هيبته. أما سعد الحريري، فإذا قبل بالتسوية، فإنه سيخسر سياسياً وشعبياً. وإذا رفضها، فإن البلاد ستدخل في أزمة قد تكون آثارها التدميرية أسوأ. ويخلص التقرير إلى أن الحلول المطروحة سيّئة، لكن أقلها سوءاً هو التوصل إلى تسوية بين الطرفين، أي حزب الله والحريري، على قاعدة تحييد لبنان عن مفاعيل المحكمة، مع الحفاظ على موازين القوى الداخلية بما يسمح بعدم التفريط بما قام به التحقيق الدولي.
يورد التقرير آراء مختلف الأفرقاء بشأن المحكمة الدولية. ينظر حزب الله إليها كإحدى الأدوات السياسية لاستهدافه. وينقل الباحثون عن دبلوماسي أميركي قوله: «قلنا لإسرائيل إن ما تقولونه أو تفعلونه سيعزّز ادّعاء حزب الله وجود مؤامرة إسرائيلية. أعتقد أنهم أخذوا بنصيحتنا بنحو أو بآخر». في المقابل، فإن أحد أعضاء الأمانة العامة لقوى 14 آذار يعرب عن اعتقاده بأن «المحكمة ستحقق هدفها وتخدمنا في معركتنا الداخلية».
يعيد التقرير نسبة الجزء الأكبر من الواقع السياسي الحالي إلى أحداث أيار 2008، عندما «كنا نتصل بالمسؤولين الأميركيين، إلا أنهم لم يردّوا على هواتفهم»، يقول أحد مساعدي رئيس الحكومة. (أحد المسؤولين الأميركيين قال لمعدّي التقرير إنهم ردّوا على اتصالات حلفائهم اللبنانيين، وأبلغوهم أنهم غير قادرين على القيام بأي شيء). وفي السياق ذاته، يقول دبلوماسي لبناني إن «السعوديين استداروا 180 درجة في أيار 2008، عندما انهارت أحلامهم اللبنانية. أيقنوا حينذاك أنهم يستطيعون حماية أرصدتهم واستثماراتهم في لبنان عبر الاتفاق مع سوريا أفضل من قدرتهم على تحقيق ذلك من خلال مواجهتها». ويرى باحثو المجموعة أن السياسة السعودية تجاه سوريا تتأثر بآراء الملك السعودي ومستشاره، نجله عبد العزيز بن عبد الله. ويستشهد الباحثون بكلام دبلوماسي مصري يقول إن «السياسة الأميركية ليست واضحة للسعوديين. لقد فقدوا نقاط ارتكازهم التقليدية، ولديهم شعور بعدم الثقة».
يخلص التقرير إلى استنتاج أن حزب الله نجح في استباق القرار الاتهامي وتحويل القضية إلى مسألة سياسية ينقسم اللبنانيون عليها. لكن، تشوّهت سمعته، وهو لن يتمكن قريباً من إعادة تلميعها. أما قوى 14 آذار، فإنها تُظهر مجدداً عجزها ومعاناتها من غياب توازن القوة على الأرض. في هذا الوقت، «لن تحقق الآمال العالية المعقودة عليها. ولا يبدو أننا سنرى رابحاً في هذه المعركة».