دار ملف شهود الزور أمس دورة كاملة، وتنقل بين الأطراف المعنية به، على وقع افكار ومناورات متبادلة، بدت انها مبطنة بنيات وحسابات مضمرة، على الرغم من القشرة الايجابية الرقيقة التي غلفتها في الظاهر.
ويمكن القول إن مخاض اليوم الطويل من المشاورات والاتصالات لم ينته الى نتيجة حاسمة، وبقيت التسوية المنشودة معلقة على أجوبة ينتظرها كل فريق من الآخر، بانتظار ما يمكن ان تحمله الساعات المقبلة من تطورات، فيما قالت مصادر واسعة الإطلاع لـ«السفير» إنها تستبعد حصول اختراق قبل موعد انعقاد جلسة مجلس الوزراء في ظل تمسك رئيس الحكومة برفض مبدأ المجلس العدلي أياً تكن آلية اعتماده، ورفض المعارضة مبدأ الهيئة العليا الاستشارية التي اقترحها الحريري للنظر في كيفية التعاطي مع ملف شهود الزور.
وفي حال بقيت المخارج مقفلة، فإن الدينامية الذاتية لجلسة الحكومة هي التي ستحدد مسارها، علماً ان الثابت هو ان الحريري لن يقبل بمرجعية المجلس العدلي، والرئيس ميشال سليمان والنائب وليد جنبلاط لن يسيرا بخيار التصويت، والمعارضة لن توافق على الانتقال الى بحث أي بند في جدول الاعمال قبل حسم بند شهود الزور. وامام هذه الثوابت، فإن احد السيناريوهات المرجحة هو ان يناقش مجلس الوزراء ملف شهود الزور والاقتراحات المطروحة للمعالجة، من دون ان يجري التوافق على أي منها، وعندها قد يرفع رئيس الجمهورية الجلسة او يطلب الانتقال الى مناقشة بنود أخرى، فيهدّد وزراء المعارضة بالانسحاب، الامر الذي سيدفع سليمان حينها الى رفع الجلسة، فتنجو بذلك من لغمي الانسحاب والتصويت.
ويبدو ان ما يحول دون ان يتطور المأزق نحو انفجار مجلس الوزراء من الداخل، هو استمرار الجهد السوري - السعودي لإيجاد تسوية متكاملة، وبالتالي فإن رغبة سليمان والنائب وليد جنبلاط في تجنب التصويت تحظى على الارجح بتغطية إقليمية، انطلاقاً من حرص دمشق والرياض على حماية مسعاهما وعدم تعريضه لاختبار صعب في ربع الساعة الاخير. ولذلك، فان دمشق لم ترم بكل ثقلها بعد للدفع في اتجاه حسم النقاش حول التصويت، وهي لم تبلغ النائب جنبلاط بأي إشارة من هذا القبيل بعد، علماً ان رئيس الحزب التقدمي الاشتراكي يميل الى التجاوب مع أي رغبة سورية من هذا النوع.
وعقد وزراء المعارضة أمس اجتماعاً حضره معاون الامين العام لحزب الله الحاج حسين خليل والنائب والمعاون السياسي للرئيس نبيه بري النائب علي حسن خليل الذي اتصل خلال الاجتماع بالرئيس سعد الحريري، وعرض عليه باسم المعارضة اقتراحاً معدلاً لمعالجة ملف شهود الزور، مبنياً على مبادرة بري، وجوهره ان جريمة اغتيال الرئيس رفيق الحريري ومتفرعاتها محالة أصلاً من قبل حكومة الرئيس عمر كرامي الى المجلس العدلي، وبالتالي فانه ليس مطلوباً من مجلس الوزراء إصدار مرسوم جديد ولا التصويت على ذلك، وإنما مجرد تأكيد المرسوم السابق الذي ما زال ساري المفعول.
وفي حين تمنى النائب خليل ان يكون هناك رد إيجابي من الحريري قبل موعد الجلسة اليوم، قالت مصادر وزارية مقربة من الحريري لـ«السفير» إن حقيقة ما طرح من أفكار خلال اليومين الماضيين، تتمثل في ان النائب خليل تقدم باقتراح الى رئيس الحكومة يوم الاثنين الماضي باسم أطراف 8 آذار، فحواه ان قضية شهود الزور هي فرع من أصل جريمة اغتيال الرئيس رفيق الحريري، الموجودة أصلا امام المجلس العدلي بموجب مرسوم صادر عام 2005، وان المطلوب هو ان يؤكد مجلس الوزراء هذا المرسوم، فأجابه الحريري بأن هذه الفكرة يجب أن تخضع للدراسة القانونية، «وقبل الاجابة عليها، نحن نفضل ان تعطونا الصيغة مكتوبة».
وأضافت المصادر: بالفعل، حمل النائب خليل الى الحريري خلال لقائه به أمس الصيغة مكتوبة، فأبلغه رئيس الحكومة بأنه يقترح بدوره صيغة تستند الى المادة 13 من المرسوم الاشتراعي رقم 151/83 المتعلق بتنظيم وزارة العدل والتي تنص على انه يمكن لمجلس الوزراء في القضايا البالغة الأهمية ان يطلب صدور رأي استشاري عن الهيئة الاستشارية العليا المؤلفة من وزير العدل رئيساً وعضوية: رئيس مجلس شورى الدولة، المدير العام لوزارة العدل، رئيس هيئة التشريع والاستشارات، رئيس هيئة القضايا، رئيس معهد الدروس القضائية، واثنين من رجال القانون يعينهما مجلس الوزراء. وعندها تجيب هذه الهيئة مجلس الوزراء على القضية المرفوعة اليها.
وتابعت المصادر: بعدما تسلم خليل هذا الاقتراح وبعد مراجعته من أطراف 8 آذار، تبلغ الحريري أنه مرفوض من جانب المعارضة التي اقترحت تعديلاً طفيفاً على النص الأول الذي كان خليل قد عرضه في البداية على الحريري. وعندما وصلت المشاورات الى هذا الحد، ولتشجيع أطراف 8 آذار على درس الاقتراح الذي قدمه الحريري، طرح رئيس الحكومة فكرة تقضي بأن يتولى رئيس الجمهورية ميشال سليمان تسمية أحد القانونيين المفترض ان تضمهما الهيئة الاستشارية وان تسمي أطراف 8 آذار الشخصية القانونية الثانية، وقد وصلت الامور الى هذا الحد.
ولكن أوساطاً في المعارضة شاركت في الاجتماع التنسيقي لوزرائها أبلغت «السفير» ان اقتراح الحريري مرفوض كلياً لسببين: الاول ان إحالة الملف للدرس الى الهيئة الاستشارية يعني المزيد من التمييع وتضييع الوقت، والثاني ان أغلبية أعضاء هذه الهيئة هم من المؤيدين لقوى 14 آذار، وبالتالي لا يمكن الوثوق في موضوعية رأيها.
وأبدت الاوساط خشيتها من ان يكون الرئيس الحريري وفريق 14 آذار يتعمدون استهلاك الوقت من خلال افتعال اقتراحات مضادة لما طرحه الرئيس بري، وذلك بانتظار صدور القرار الاتهامي وتغيير المعادلة، منبهة الى ان إخفاق مجلس الوزراء اليوم في معالجة ملف شهود الزور سيعني ان الافق غامض لانه قد يكون من الصعب عقد جلسة قريبة مع اقتراب موعد الاعياد.
في المقابل، أبلغ وزير مقرب من رئيس الحكومة «السفير» ان الرئيس سعد الحريري ما زال على موقفه الرافض لإحالة ملف شهود الزور الى المجلس العدلي، لأنه يخشى من حصول ضغوط سياسية على المجلس، مترافقة مع ضغوط شعبية مبرمجة، للتأثير على قراره. وأشار المصدر الى ان الاتصالات ستستمر طيلة ساعات اليوم، قبل موعد انعقاد مجلس الوزراء، سعياً الى بلورة مخرج ما قبل الدخول الى الجلسة.
في هذه الاثناء، نقل زوار الرئيس ميشال سليمان عنه انه أجرى أمس اتصالات مع كل الاطراف المعنية، متمنياً التخفيف من شروطهم، لتسهيل التوصل الى حل، وخص بهذا التمني الرئيس سعد الحريري.
جنبلاط الى طهران
ومن ناحيته قال النائب وليد جنبلاط لـ«السفير» إنه يأمل في ان يحسم ملف شهود الزور في جلسة مجلس الوزراء اليوم بالتوافق، وتجنب التصويت، خصوصا ان المسعى السوري - السعودي ما زال قائماً، وعلينا مواكبته بأجواء داخلية مؤاتية، لا تشوش عليه، لافتاً الانتباه في الوقت ذاته الى انه لا يمانع في إحالة ملف شهود الزور الى المجلس العدلي.
وأوضح ان المسعى السوري ـ السعودي ما زال مستمراً ويجب إعطاؤه كل الفرص، مشيداً بالسرية التي تحيط به والتي تحميه وترفع حظوظ نجاحه. ونبه الى مخاطر المناخات التي تمهد الارضية امام الفتنة، داعياً كل الاطراف الى التعقل، لان الفتنة المذهبية لا تخدم إلا المخطط الاسرائيلي - الاميركي لتفتيت المنطقة.
وعلمت «السفير» ان جنبلاط الذي يقوم اليوم بزيارة خاصة الى دمشق يلتقي خلالها اللواء محمد ناصيف واللواء حكمت شهابي، سيستقبل في المختارة السبت المقبل السفير الايراني في بيروت غضنفر ركن آبادي الذي سينقل اليه دعوة رسمية لزيارة إيران.
الاسد: نرفض اتهاماً بلا دليل
الى ذلك، أكد الرئيس السوري بشار الاسد ان سوريا لا تقبل أي اتهام من دون دليل، خصوصاً إذا كان الموضوع فيه محكمة ويتعلق بقضية وطنية كاغتيال رئيس وزراء بلد مثل لبنان، فيه انقسامات عمرها قرون وليس عقوداً من الزمن، مشدداً على انه لا بد من أن يكون هناك دليل كي لا يكون هناك انقسام.
وقال الأسد بعد لقائه أمس في الدوحة أمير دولة قطر الشيخ حمد بن خليفة آل ثاني: لا أريد التحدث نيابة عن اللبنانيين في موضوع الافكار المتداولة للحل. أحياناً إعلان الأفكار في الإعلام يكون ضاراً بالعمل السياسي نفسه. تناقشنا أنا وسمو الأمير في الأفكار المطروحة ولكن يُفضَّل أن تعلن لبنانياً وليس سورياً أو قطرياً.
وعما إذا كان يوافق على فكرة أن صدور القرار الظني قبل التسوية في لبنان سيؤدي إلى الفوضى، قال الأسد: لا أريد أن أقول نوافق أو لا نوافق .. فالموضوع في لبنان وليس في سوريا، ولكن لكل إنسان رأي. بالنسبة الى سوريا بشكل عام كدولة وكقيادة سياسية لا نقبل أي اتهام بأي حال من دون دليل. ليس فقط في موضوع لبنان سواء أكان من المحكمة أم من غيرها بل في دول أخرى حصل ذلك في مواقف سابقة عدة اتهامات قد تكون سياسية.
وأضاف: تطرقنا إلى الوضع في العراق وموضوع تشكيل الحكومة هناك بالإضافة إلى العلاقات الثنائية وغيرها من القضايا.
ورداً على سؤال عن امكان وجود مبادرة مشتركة سورية قطرية بشأن لبنان أكد أمير قطر أن الموضوع ما زال في يد سوريا والسعودية، مضيفا أنه متأكد أن دمشق والرياض حريصتان كل الحرص ألا تكون هناك فتنة في لبنان وأن تجنبا المنطقة أي شر جديد مقبل.
وأفادت «وكالة سانا» ان الرئيس الأسد وأمير قطر أكدا أهمية اعتماد الحوار لحل المواضيع الخلافية على الساحة اللبنانية وتجنب الوقوع في الفتنة مجددين حرصهما على مساعدة اللبنانيين في الحفاظ على أمن لبنان واستقراره.
كما اكد الجانبان أهمية استمرار التشاور والتنسيق بين سوريا وقطر حول مختلف القضايا لما فيه مصلحة الشعبين الشقيقين وخدمة قضاياهما العادلة.
تحذيرات فرنسية
في هذا الوقت، قال مصدر دبلوماسي عربي في باريس لـ«السفير» إنه من دون تجديد التفويض العربي والفرنسي، رسميا وعلنيا، لسوريا في لبنان، لن تتقدم الجهود المبذولة نحو التسوية لاحتواء مفاعيل القرار الاتهامي في لبنان.
وأشار المصدر العربي الى أن ساركوزي، الذي يملك من دون شك تصورا واضحا لتداعيات القرار الاتهامي، إسرائيليا، فضل أن يطلب من الأسد تصوراته لنتائج القرار وما يمكن ان تقوم به اسرائيل، في حال اتهام المدعي العام الدولي دانيال بيلمار عناصر من «حزب الله» بالتورط في اغتيال الرئيس رفيق الحريري.
وعلمت «السفير» ان مقربين من الرئيس الفرنسي يشيعون وجود مؤشرات خطرة حول احتمال تدخل اسرائيل عسكريا، إذا ما اختار حزب الله الإخلال بالتوازن السياسي الحالي بينه وبين الكتلة التي يقودها الرئيس سعد الحريري، وقلب طاولة حكومة الوحدة الوطنية، «لان ذلك يعد اسقاطا للموقع اللبناني، بعد العراق، في السلة الإيرانية».
التهديدات الاسرائيلية
وبالتزامن مع هذه الاجواء الفرنسية، أعرب وزير الحرب الإسرائيلي إيهود باراك في لقائه امس مع وزير الدفاع الأميركي روبرت غيتس عن القلق الإسرائيلي من الوضع في لبنان والعواقب المحتملة من صدور القرار الظني في قضية اغتيال الرئيس الشهيد رفيق الحريري. كما أبدى مخاوفه من «استمرار كل من سوريا وحزب الله في جهودهما التسلحية». وقال باراك لغيتس إن إسرائيل قلقة من «استمرار تسلح سوريا وحزب الله بأسلحة متطورة يمكن أن تمس بالتفوق النوعي لإسرائيل وبأمنها». وطالب بمواصلة التعاون الإسرائيلي الأميركي في مجال مجابهة الصواريخ التي يمكن أن تطلق على الأراضي الإسرائيلية.
وفي سياق متصل، هدد ضابط إسرائيلي كبير في قيادة الشمال بتوجيه ضربات قاسية إلى لبنان في حال نشوب حرب بعد صدور القرار الظني في جريمة اغتيال الرئيس رفيق الحريري.
ونقلت صحيفة «يديعوت أحرونوت» الاسرائيلية عن هذا الضابط تحذيره من أنّ الردّ، في حال انتقل التوتر الى الحدود الشمالية، سيكون أقسى بعشر مرات من حرب تموز، التي وصفها بـ«النزهة» مقارنة مع الحرب المقبلة.