في عودة إلى ترتيب المطالب المتبادلة بين طرفي الأزمة في لبنان، يمكن فهم قاعدة التفاوض الجارية الآن بين السعودية وسوريا. وهي التي لن تتجاوز الإطار اللبناني، خلاف ما يعتقد كثيرون، وربما هذا ما يحتاج إليه البعض لفهم سبب تكرار المسؤولين في سوريا والسعودية عبارة الحل اللبناني للأزمة اللبنانية.
من جانب حزب الله، ثمة مطالب ترتفع في حدّها الأقصى إلى إسقاط المحكمة الدولية كوسيلة يستخدمها الأميركيون لمعاقبة من لا يقف في صف المشروع الأميركي، وقرارات تصدر عن المؤسسات الدستورية اللبنانية تفضّ كل الاتفاقات الموقّعة بين لبنان والأمم المتحدة ثم مع المحكمة نفسها، والعودة إلى إلغاء مجموعة قرارات وخطوات قامت بها الحكومة اللبنانية أو أجهزة أمنية وسياسية ومدنية لبنانية في إطار ما سمّي التعاون مع المحكمة الدولية، والسعي أخيراً إلى تنظيم العلاقات الداخلية بطريقة تمنع تفرّد فريق 14 آذار بملفات أساسية وتقفل الباب أمام الذين تسهل حركتهم للتآمر على المقاومة وقوى المعارضة. وفي ملف العلاقات الخارجية، دعوة إلى موقف واضح من التنسيق مع سوريا في ما خصّ مسألة الصراع مع إسرائيل وضبط العلاقات مع مجلس الأمن الدولي والأمم المتحدة تحت هذا السقف، وجعل التنسيق بين الجيش وقوى الأمن الداخلي والمقاومة قائماً وفق وتيرة تمنع لعبة التشكيك والتخويف، مع التأكيد أن مسؤولية إدارة الشأن العام داخلياً هي مسؤولية مشتركة ولم يعد ممكناً تركها لطرف دون الآخرين.
من جانب الرئيس سعد الحريري، هو يريد المحافظة على المحكمة الدولية باعتبارها أداة تحاسب المسؤولين عن الجرائم، ويرى وجوب إبقاء أبواب التعاون معها مشرعة، وتسهيل حصولها على ما تريده بغية الوصول إلى نتائج حاسمة. وهو يريد خصوصاً من حزب الله عدم وضع عراقيل، وأن يقدّم إيضاحات له بشأن نقاط تخصّ ملف الاتصالات، ويريد أن يبقى الحزب متعاوناً مع التحقيق الدولي. ويرى الحريري أن أيّ تزوير سيكون مكشوفاً، ولن يقبل التعرّض للحزب كفريق لبناني له حضوره، وسيواجه محاولة تحميل الشيعة المسؤولية عن جريمة ارتكبها أفراد.
ويريد الحريري المحافظة على نفوذه ونفوذ حلفائه من قوى 14 آذار داخل الدولة ومؤسساتها، ويريد صيغة توفر ضمانات بأن حزب الله لن يلجأ إلى استخدام قوة المقاومة ونفوذها لتحقيق أهداف سياسية داخلية. ويعتقد الحريري أنه الأفضل لإدارة الملف الاقتصادي والمالي والنقدي في البلاد، وأن على الفريق الآخر تركه يعمل، وهو يظن أن مشروعه عرضة لعراقيل تشبه تلك التي تعرّض لها والده. كذلك يريد الحريري انتزاع مساحة نفوذ داخل مؤسسات الدولة توازن، ولو قليلاً، نفوذ حزب الله على الأرض.
بناءً على هذه المعطيات، كان الجميع يسير في اتجاه المواجهة. مقرّبون من الحريري أو من الداعمين له داخلياً وخارجياً قدّموا له تصوّراً يقضي بأن يستمر بالمواجهة، ولو تطلّب الأمر حشر حزب الله ودفعه إلى خطوات على الأرض. وقال له هؤلاء إن أي مواجهة ستشدّ العصب السياسي والطائفي والمذهبي حوله، وسيتحرك العالم لإدانة حزب الله، وإن الأيام ستكون كفيلة بإبطال أهداف أي تحرك يقوم به حزب الله وحلفاؤه. وقليلون من الفريق المحيط به غامروا بالحديث عن الاستعداد للبقاء في المنزل إذا تطلّب الأمر، وترك الفريق الآخر يدير كامل مؤسسات الدولة.
أما في جانب حزب الله، فإن قواعده كما حلفاؤه في لبنان وربما خارج لبنان، يحثّونه على عدم الذهاب نحو تسوية، بل على السير نحو مواجهة حاسمة واستخدام الضربات القاسية والقاضية، وإبعاد فريق 14 آذار نهائياً عن الحكم وجعل قادته ينزوون في منازلهم أو يسافرون، وأن يؤلَّف حكم من نوع مختلف، ويُترك الباب مغلقاً أمام أي نوع من التسويات، وليبلّط الآخرون البحر. وينطلق أصحاب هذا الرأي من أن اللبنانيين سينعمون بعدها بالاستقرار، ويمكن المعارضة أن تعمل بقوة على إنتاج سلطة حكومية قادرة على خلق برامج عمل تقوم على نفض ما قام خلال السنوات العشرين الماضية، وأن يصار إلى استغلال الفرصة لمعالجة أمور كثيرة، من بينها ملف الدَين العام والسياستان النقدية والمالية في الدولة، ومحاصرة قوى السرقة والهدر.
عند هذه النقطة من المواجهة، تظهر فائدة التدخل السعودي ـــــ السوري، إذ يمكن مراقبة المشهد من بعيد، مع درجة أعلى من الواقعية، وإمكانية للحسم من لائحتي المطالب حتى يمكن الوصول إلى تسوية الحد الأدنى التي تخصّ المحكمة ورفدها بعناصر تسوية الحدّ المتوسط التي تشمل الإطار السياسي أيضاً.
بناءً على ذلك، إن ما تحقق حتى الآن، وإن كان يغلّف بكتمان شديد، إلا أنه وفّر أرضية صلبة لحل لا يتجه صوب إلغاء المحكمة، لكن صوب تنظيم عملها وعلاقة الدولة اللبنانية بها، ما يعطّل محاولات التآمر على جهات لبنانية، ويفرض على المحققين الدوليين التصرّف بمسؤولية وشمولية أكبر. أما على الصعيد الداخلي، فإن النقاش يتركز على عنوان واحد: هل يبقى سعد الحريري رئيساً لحكومة إحباط مؤامرة المحكمة الدولية، أم التسوية نفسها تحتاج إلى شخصية أخرى توفر المرحلة الانتقالية بانتظار صورة مختلفة عن الحكم في لبنان؟
الجواب لم يعد يحتاج إلى كثير من الوقت، لكن الجديد هو أن شخصية أخرى تشعر بالقلق على منصبها جرّاء هذه العملية، وهي دانيال بلمار نفسه.