«القلب يُتهم وإن صدق اللسان»
أكثم التميمي
تعتبر عطلة عيدي الميلاد ورأس السنة، فرصة مناسبة للتأمل في ما آل إليه نظام الحكم بعد الطائف، في وقت بدا ملف شهود الزور وكأنه المرحلة الأخيرة من الانحدار نحو الهاوية، إلا إذا نجح المسعى السعودي ـ السوري في إنتاج حل، قبل صدور القرار الاتهامي في جريمة اغتيال الرئيس رفيق الحريري، يأخذ في الاعتبار الظروف والعوامل التي أوصلت اللبنانيين إلى حد العجز عن إدارة شؤون بلدهم بأنفسهم، ولجوئهم إلى الخارج لمساعدتهم في اجتراح حلول لمشكلاتهم ـ وليس اجتراح حل واحد يتعلق بقرار الاتهام الذي أشيع انه يستهدف «حزب الله».
فالشلل الذي تعانيه الحكومة بسبب ملف شهود الزور، كان متوقعاً حصوله في غياب هذا الملف، نظراً إلى ان الخروج المتكرر على الدستور منذ بوشر تطبيق اتفاق الطائف قبل عشرين سنة، قد الحق الأذى بالقاعدة الذهبية التي قام عليها ذلك الاتفاق، ونعني بها العيش المشترك.
وقد غاب هذا الأمر عن الأذهان، ويا للأسف، تحت وطأة الضغوط التي تعرضت لها البلاد بسبب المحكمة الدولية، والخشية على الوحدة الوطنية من تداعيات القرار الاتهامي الذي سيصدر عنها في اغتيال الحريري. فسارعت السعودية وسوريا إلى العمل لتدارك خطر الفتنة وإشاعة مناخ من الهدوء والاستقرار، على أمل الوصول إلى حل ما لمسألة القرار. إلا ان هذا المسعى سرعان ما اكتشف ان ثمة مشاكل متراكمة أمام الحكم اللبناني تحول دون انتظام عجلته. لا بل ان ثمة أصواتاً بدأت ترتفع من هنا وهناك مشككة بإمكان استمرار العيش المشترك بين اللبنانيين.
فبعد الكلام المذهبي الذي صدر عن أحد نواب طرابلس، وأثار ردود فعل سلبية في أكثر من وسط سياسي وطائفي، جاء كلام البطريرك الماروني مار نصر الله بطرس صفير حول «حزب الله» وانه قد «ينفذ انقلاباً» للسيطرة على البلاد، محذراً إياه من ان «القيام بانقلاب شيء، والمحافظة عليه شيء آخر».
ولم يكتف البطريرك بهذا الكلام، أو هو اعتبره غير وافٍ للتعبير عما يجول في خاطره، فأتبعه بتصريح بعد ثلاثة أيام جاء فيه «ان الطريقة التي يتصرف بها الحزب بالقوة والنفوذ الذي يمتلكه توحي بمحاولة الاستيلاء على الحكومة والبلد». وقد تجاهل البطريرك الماروني تأكيدات الأمين العام لـ«حزب الله» السيد حسن نصر الله في خطبة اليوم الأخير من عاشوراء، انه لم يكن لدى الحزب يوماً أي مشروع انقلابي. وانه لو كان لدىه مثل هذا المشروع لكان نفذه قبل ذلك. وقال: «إننا لم نتصرف في يوم من الأيام لإيجاد ذريعة للامساك بالسلطة أو للانقلاب على الطائف أو غيره. وإذا كنا نريد هذه الحجة في موضوع القرار الاتهامي فقد كانت بأيدينا منذ 2008 ولكننا لم نلجأ إلى هذا الأمر».
وغمز نصر الله من قناة «بعض المسيحيين في لبنان وغيرهم الذين يتوهمون ان الصراع السني ـ الشيعي يمكن أن يجعلهم الرقم الصعب في لبنان، فأقول لهم هذا خطأ (...) ورهانات خاطئة، ذلك ان ما يريده الإسرائيليون هو إنهاء الوجود المسيحي وإضعاف الوجود المسلم».
ورغم اعتقادنا برجاحة فكر البطريرك، وحسن نياته، إلا ان ما صرح به أخيراً لا يمكن تجاهله، ليس لأنه يزيد الصدع بين مكوّنين رئيسيين في البلاد، بل لأنه يهدد العيش المشترك بين فريق من المسيحيين يلوذون بسيد بكركي لاعتبارات سياسية وحزبية، وأكثرية ساحقة في مكوّن آخر حريص على البلاد وأمنها وسلامتها، إلى حد تقديم مئات الشهداء على مذبحها، دفاعاً عن المسيحيين والمسلمين على السواء.
وبدلاً من الهجوم على «حزب الله»، كان حرياً بالبطريرك ان يظهر تضامنه والجماعة التي تنتمي إليه مع الشيعة عموماً والمقاومة خصوصاً في مواجهتهم للمؤامرة الأميركية ـ الإسرائيلية في موضوع المحكمة. علماً ان التضامن هو أبسط تعابير العيش المشترك، خصوصاً في أيام الضيم. إلا إذا كان هذا العيش قد سقط منذ سقطت السلطة في أيدي مجموعة استأثرت بها من مطلع التسعينيات، في انقلاب حقيقي دفع المسيحيون الثمن الأكبر فيه، وتجلّى هجرة وتهجيراً لمئات ألوف الشباب والشابات.
وحبذا لو يقر البطريرك علناً بذلك، ويعلن للملأ ان أمله قد خاب في الطائف جراء التنفيذ المجتزأ له والذي اكتفى بنقل السلطة من رئيس الجمهورية إلى مجلس الوزراء، واعداً البطريرك بأن تكون مشاركة المسيحيين في القرار داخل مجلس الوزراء متكافئة ومتوازنة، عبر ممثلي الاطراف المسيحيين الرئيسيين، وليس بواسطة أي مسيحيين دأب نظام الوصاية على اختيارهم من بين الحلفاء والاتباع، الأمر الذي جعل البطريرك والمطارنة يرفعون الصوت عالياً في نداء أيلول 2000 الشهير، في وجه هذا النظام الذي استمر حتى اتفاق الدوحة في تهميش المسيحيين ودفعهم إلى الانكفاء والهجرة، فضلاً عن تحويل مبدأ المناصفة بين المسيحيين والمسلمين شعاراً فارغاً حيال شعب يبيع كثيرون منه أرضهم ويغادرونه إلى بلاد الله الواسعة.
وإذا كان الخروج المتكرر على قواعد اللعبة الديموقراطية التي لها أصول واضحة قد أوصل البلاد إلى ابتكار بدع وأعراف مرشحة لأن تتكرر وتتثبت، وتفتح الباب للقضاء على ما تبقى من الطائف، وإلحاق أكبر الأذى بالعيش المشترك، فإن المؤمل من اللبنانيين ان يتداركوا الأمر، مدعومين من السعوديين والسوريين بما يعيد الاعتبار إلى المؤسسات، ويعترف واحدهم بالآخر، شريكاً كامل الأوصاف، في القرار كما في الواجبات والمسؤوليات، خاضعين جميعاً للمحاسبة والمساءلة بدءاً بشهود الزور، وعلى أساس أن لا أحد فوق القانون.
[email protected]
أكثم التميمي
تعتبر عطلة عيدي الميلاد ورأس السنة، فرصة مناسبة للتأمل في ما آل إليه نظام الحكم بعد الطائف، في وقت بدا ملف شهود الزور وكأنه المرحلة الأخيرة من الانحدار نحو الهاوية، إلا إذا نجح المسعى السعودي ـ السوري في إنتاج حل، قبل صدور القرار الاتهامي في جريمة اغتيال الرئيس رفيق الحريري، يأخذ في الاعتبار الظروف والعوامل التي أوصلت اللبنانيين إلى حد العجز عن إدارة شؤون بلدهم بأنفسهم، ولجوئهم إلى الخارج لمساعدتهم في اجتراح حلول لمشكلاتهم ـ وليس اجتراح حل واحد يتعلق بقرار الاتهام الذي أشيع انه يستهدف «حزب الله».
فالشلل الذي تعانيه الحكومة بسبب ملف شهود الزور، كان متوقعاً حصوله في غياب هذا الملف، نظراً إلى ان الخروج المتكرر على الدستور منذ بوشر تطبيق اتفاق الطائف قبل عشرين سنة، قد الحق الأذى بالقاعدة الذهبية التي قام عليها ذلك الاتفاق، ونعني بها العيش المشترك.
وقد غاب هذا الأمر عن الأذهان، ويا للأسف، تحت وطأة الضغوط التي تعرضت لها البلاد بسبب المحكمة الدولية، والخشية على الوحدة الوطنية من تداعيات القرار الاتهامي الذي سيصدر عنها في اغتيال الحريري. فسارعت السعودية وسوريا إلى العمل لتدارك خطر الفتنة وإشاعة مناخ من الهدوء والاستقرار، على أمل الوصول إلى حل ما لمسألة القرار. إلا ان هذا المسعى سرعان ما اكتشف ان ثمة مشاكل متراكمة أمام الحكم اللبناني تحول دون انتظام عجلته. لا بل ان ثمة أصواتاً بدأت ترتفع من هنا وهناك مشككة بإمكان استمرار العيش المشترك بين اللبنانيين.
فبعد الكلام المذهبي الذي صدر عن أحد نواب طرابلس، وأثار ردود فعل سلبية في أكثر من وسط سياسي وطائفي، جاء كلام البطريرك الماروني مار نصر الله بطرس صفير حول «حزب الله» وانه قد «ينفذ انقلاباً» للسيطرة على البلاد، محذراً إياه من ان «القيام بانقلاب شيء، والمحافظة عليه شيء آخر».
ولم يكتف البطريرك بهذا الكلام، أو هو اعتبره غير وافٍ للتعبير عما يجول في خاطره، فأتبعه بتصريح بعد ثلاثة أيام جاء فيه «ان الطريقة التي يتصرف بها الحزب بالقوة والنفوذ الذي يمتلكه توحي بمحاولة الاستيلاء على الحكومة والبلد». وقد تجاهل البطريرك الماروني تأكيدات الأمين العام لـ«حزب الله» السيد حسن نصر الله في خطبة اليوم الأخير من عاشوراء، انه لم يكن لدى الحزب يوماً أي مشروع انقلابي. وانه لو كان لدىه مثل هذا المشروع لكان نفذه قبل ذلك. وقال: «إننا لم نتصرف في يوم من الأيام لإيجاد ذريعة للامساك بالسلطة أو للانقلاب على الطائف أو غيره. وإذا كنا نريد هذه الحجة في موضوع القرار الاتهامي فقد كانت بأيدينا منذ 2008 ولكننا لم نلجأ إلى هذا الأمر».
وغمز نصر الله من قناة «بعض المسيحيين في لبنان وغيرهم الذين يتوهمون ان الصراع السني ـ الشيعي يمكن أن يجعلهم الرقم الصعب في لبنان، فأقول لهم هذا خطأ (...) ورهانات خاطئة، ذلك ان ما يريده الإسرائيليون هو إنهاء الوجود المسيحي وإضعاف الوجود المسلم».
ورغم اعتقادنا برجاحة فكر البطريرك، وحسن نياته، إلا ان ما صرح به أخيراً لا يمكن تجاهله، ليس لأنه يزيد الصدع بين مكوّنين رئيسيين في البلاد، بل لأنه يهدد العيش المشترك بين فريق من المسيحيين يلوذون بسيد بكركي لاعتبارات سياسية وحزبية، وأكثرية ساحقة في مكوّن آخر حريص على البلاد وأمنها وسلامتها، إلى حد تقديم مئات الشهداء على مذبحها، دفاعاً عن المسيحيين والمسلمين على السواء.
وبدلاً من الهجوم على «حزب الله»، كان حرياً بالبطريرك ان يظهر تضامنه والجماعة التي تنتمي إليه مع الشيعة عموماً والمقاومة خصوصاً في مواجهتهم للمؤامرة الأميركية ـ الإسرائيلية في موضوع المحكمة. علماً ان التضامن هو أبسط تعابير العيش المشترك، خصوصاً في أيام الضيم. إلا إذا كان هذا العيش قد سقط منذ سقطت السلطة في أيدي مجموعة استأثرت بها من مطلع التسعينيات، في انقلاب حقيقي دفع المسيحيون الثمن الأكبر فيه، وتجلّى هجرة وتهجيراً لمئات ألوف الشباب والشابات.
وحبذا لو يقر البطريرك علناً بذلك، ويعلن للملأ ان أمله قد خاب في الطائف جراء التنفيذ المجتزأ له والذي اكتفى بنقل السلطة من رئيس الجمهورية إلى مجلس الوزراء، واعداً البطريرك بأن تكون مشاركة المسيحيين في القرار داخل مجلس الوزراء متكافئة ومتوازنة، عبر ممثلي الاطراف المسيحيين الرئيسيين، وليس بواسطة أي مسيحيين دأب نظام الوصاية على اختيارهم من بين الحلفاء والاتباع، الأمر الذي جعل البطريرك والمطارنة يرفعون الصوت عالياً في نداء أيلول 2000 الشهير، في وجه هذا النظام الذي استمر حتى اتفاق الدوحة في تهميش المسيحيين ودفعهم إلى الانكفاء والهجرة، فضلاً عن تحويل مبدأ المناصفة بين المسيحيين والمسلمين شعاراً فارغاً حيال شعب يبيع كثيرون منه أرضهم ويغادرونه إلى بلاد الله الواسعة.
وإذا كان الخروج المتكرر على قواعد اللعبة الديموقراطية التي لها أصول واضحة قد أوصل البلاد إلى ابتكار بدع وأعراف مرشحة لأن تتكرر وتتثبت، وتفتح الباب للقضاء على ما تبقى من الطائف، وإلحاق أكبر الأذى بالعيش المشترك، فإن المؤمل من اللبنانيين ان يتداركوا الأمر، مدعومين من السعوديين والسوريين بما يعيد الاعتبار إلى المؤسسات، ويعترف واحدهم بالآخر، شريكاً كامل الأوصاف، في القرار كما في الواجبات والمسؤوليات، خاضعين جميعاً للمحاسبة والمساءلة بدءاً بشهود الزور، وعلى أساس أن لا أحد فوق القانون.
[email protected]