جرت العادة كلما اختلف مواطنان افريقيان في احدى دول القارة السوداء، أن يتضرر مغترب لبناني في هذه الدولة، في حين لا تكون لهذا المغترب ناقة او جمل في هذا الخلاف. وكلما كان الخلاف واسعاً بين الافارقة ازدادت الأضرار في مصالح اللبنانيين وتهددت حياتهم واضطربت احوالهم وهجروا من ديارهم.
مناسبة هذا الكلام ما تشهده دولة ساحل العاج في غرب افريقيا حيث تقطن جالية لبنانية لعلها الأكبر في هذه القارة. اذ تشير التقديرات الى أنها تبلغ نحو سبعين الفاً. وهي الجالية الأكبر حجماً في ساحل العاج.
تبدو ساحل العاج اليوم على شفير حرب أهلية اثر الانتخابات الرئاسية التي جرت اول الشهر الحالي وأفرزت رئيسين: واحد، اعلنت فوزه اللجنة الانتخابية وآخر ثبته المجلس الدستوري ورفض الاعتراف بنتائج الانتخابات. فأقسم كل منهما اليمين القانونية وشكل حكومته الخاصة. وكان من الطبيعي ان تنقسم البلاد بين زعيمين لكل منهما انصاره ومحازبوه وجيشه الخاص.
وفي البلدان الافريقية، غالباً ما ينحو الصراع السياسي الى العنف بكل مظاهره الدموية والتدميرية. حيث يتدخل المجتمع الدولي بقوات عسكرية لوقف الحرب. ولكن بعد خراب البصرة. حصل ذلك سابقاً في دول جارة لساحل العاج كليبيريا وسيراليون وكذلك في تشاد والصومال ورواندا ودول افريقية أخرى.
وقد شهدت البلدان الافريقية خلال العقود الثلاثة الماضية تحولات دراماتيكية بعد فترة من الاستقرار اعقبت تحرر هذه البلدان من الاستعمار ونيلها استقلالها الذاتي. ونجم هذا الاستقرار عن تولي السلطة مجموعة من الحكماء والمحررين كانوا أبطال الاستقلال وتمتعوا بهيبة موصوفة على شعوبهم التي كانت تحترم أشخاصهم وإنجازاتهم. الا ان هذه الفترة أعقبتها حالة من الاضطراب نتيجة غياب هؤلاء، اما بالوفاة او بانقلابات قادها عسكريون من أعلى الرتب وادناها، ولم يكونوا على مستوى الحكم، ما افسح المجال امام السفارات واجهزة المخابرات الدولية للتدخل في شؤون هذه البلدان، وأدى الى توترات عنيفة راح ضحيتها مئات الآلاف من الأفارقة في مجازر ومذابح مشهودة.
ففي ليبيريا، مثلاً أطاح انقلاب عسكري بالرئيس «وليم تولبرت» قاده رقيب في الجيش هو «صمويل دو» الذي انتهى عهده ايضاً بثورة دامية اكلت الاخضر واليابس في ذلك البلد الذي ما زال يعاني للنهوض من كبوته.
وشهدت سيراليون حالة مماثلة بوفاة الرئيس الاستقلالي «شياكا ستيفنس» وتولي السلطة قائد الجيش «جوزف سعيدو مومو» الذي اطاحه انقلاب عسكري بزعامة ملازم في الجيش واعقبت ذلك اضطرابات دامية.
وفي غينيا، خلف الرئيس «احمد سيكوتوري» ضابط هو «لانسانا كونتي» اطاحه انقلاب قاده نقيب هو «موسى كمارا» ولم تسلم البلاد من التوترات الدامية.
وفي غانا، اطاح انقلاب بالرئيس «كوامي نيكروما» على يد النقيب «جيري رولينغز»، وحصل الأمر نفسه في الزائير حيث قتل «باتريس لومومبا» على يد «مويز تشومبي». وشهدت نيجيريا بدورها سلسلة من الانقلابات العسكرية بعد عهد الرئيس «سيكوتو». اما ساحل العاج وهي من أبرز وأهم الدول الافريقية، فقد عاشت فترة من الاستقرار في عهد الرئيس الاستقلالي «هوفوية بوانييه» الذي توفي عام 1990. وشهدت البلاد بعده انقلابين عسكريين واضطرابات دموية حتى الانتخابات الاخيرة التي وضعت البلاد على شفير الحرب الأهلية.
كان من الطبيعي ان تتأثر الجاليات اللبنانية بهذه الاجواء المضطربة، وهي تنتشر منذ قرن ونيف في معظم الدول الأفريقية. ان لم يكن جميعها على الإطلاق. ويزيد عدد اللبنانيين في القارة السوداء على نصف مليون مغترب بينهم عشرات الآلاف ممن حصلوا على جنسيات هذه الدول واصبحوا مواطنين أفارقة.
وليس سراً ان بعض فعاليات الجاليات اللبنانية لهم علاقات سياسية متينة بقادة هذه الدول وحكامها، وبعضهم منتسب لأحزاب هذه الدول ويشارك في الانتخابات والنشاطات الافريقية نتيجة انتمائه بالتجنس الى هذه البلدان. لكن الغالبية العظمى من هؤلاء يؤثرون الانحياز الى اعمالهم ومصالحهم الناشطة او الى مصادر رزقهم الشحيحة احياناً.
ولا يكفي القول ان اللبنانيين في افريقيا لا علاقة لهم بالتوترات والاحداث التي تجري في تلك البلدان. اذ يكفي ان تكون مصالحهم ومنازلهم وطريقة عيشهم في الواجهة لينالوا نصيبهم الوافر من الأضرار والخراب والأثمان الباهظة ويبدأوا من جديد واحياناً من الصفر لإعادة ترميم هذه المصالح. وما حصل في ليبيريا وسيراليون وساحل العاج والزائير ونيجيريا وغيرها مثال حي على هذا الواقع المرير.
ازاء الواقع الصعب الذي تعيشه ساحل العاج في هذه الفترة يجد اللبنانيون انفسهم مرة جديدة امام واقع لا يحسدون عليه. فالقلق الذي يسبق العاصفة في ذلك البلد. يعيشه اللبنانيون بأقسى صوره، حيث حياتهم ومصالحهم مهددة. وهاجس التهجير الذي شهدوه سابقاً في بلدان مجاورة يقض مضاجعهم. خصوصاً أن مصالحهم في ساحل العاج وعاصمتها الشهيرة ابيدجان التي يطلق عليها اسم «باريس الصغيرة»، تبلغ أحجامها أرقاماً مالية خيالية بحسب مطلعين على أحوالهم. وليس غرواً ان الجالية اللبنانية الموجودة في ساحل العاج منذ نحو قرن من الزمان اسهمت اسهاماً فاعلاً في نهضة هذا البلد وتطوره الاقتصادي والعمراني والحياتي الى جانب الجالية الفرنسية التي كانت أكبر الجاليات وضمر حجمها الى أقل من الفين بفعل التوترات التي حصلت في العقدين المنصرمين. وتشهد العاصمة السياسية «ياموسكرو» التي شيّدها الرئيس «بوانييه» في الثمانينيات على دور بعض اللبنانيين في هذه النهضة وبينهم رئيس الجالية التاريخي ورئيس المجلس القاري الأفريقي في الجامعة اللبنانية الثقافية نجيب زهر وآخرون لهم اوزانهم المعروفة.
على أن ما يضاعف من حالة القلق لدى الجالية في ساحل العاج انها متروكة لمواجهة القدر الذي ينتظرها، في غياب الرعاية الرسمية الوطنية الفاعلة لهذه الجالية من الدولة اللبنانية التي عجزت في السابق عن احتضان وإنقاذ جاليات أخرى تعرضت في افريقيا للمصير نفسه، فكان ان تولت جاليات لبنانية في بلدان مجاورة احتضان المهجرين واللاجئين. وعلى قاعدة «شر البلية ما يضحك» يعتقد البعض ان من الترف مطالبة الدولة اللبنانية في هذه المرحلة بخطة إنقاذية فاعلة لمغتربيها... وهي عاجزة في الوقت نفسه عن لملمة هموم اللبنانيين المقيمين في لبنان.
عندما تسأل ابناء الجالية في ساحل العاج عن المستقبل يردون بأسى شديد: اللهم انّا لا نسألك رد القدر ولكن نسألك اللطف فيه!