البقاع ــ في بيت ترابيّ منسي على أطراف بلدة الفاكهة، تجلس نهلا سكّريّة خلف نول خشبي بين «كباكيب» الصوف، جاهدة في إنجاز سجادة طلبها منها أحد الزبائن. لم تثنها الرجفة في يديها ولا التعب الذي بدا واضحاً في ملامحها عن متابعة العمل الذي يسرقها من عيش يومياتها كغيرها من النسوة.
صباح كل يوم، تستيقظ أم عمر، قبل «كل البشر» في بلدتها. تدخل محترفها العتيق الذي أمضت فيه أكثر من ثلثي عمرها ولا تخرج منه إلا لتلبية حاجات العائلة والنوم. لا أكثر ولا أقل. أما باقي الساعات، فتقضيها أمام نولها عاكفة على حياكة السجاد التي تنفرد الآن بصناعتها في بلدتها والمحيط أيضاً.
35 عاماً من العمل.. لم تشعر أم عمر بعد بالتعب من مهنتها، فهي لا تزال تطمح إلى إعطائها المزيد من حياتها. لن تتركها حتى «ياخد الله أمانته»، فهي ترى أن مجرد التفكير بترك تلك المهنة «قلّة وفاء لرفيقة العمر التي كانت السند في تربية الأولاد» و«اللي خلّتني ما مدّ إيدي لحدا».
حكاية أم عمر مع حياكة السجاد بدأت قبل 35 عاماً، وتحديداً عندما تركت المدرسة وبدأت التفتيش عن عمل لمساعدة أهلها في «أمور البيت». في ذلك الوقت، كان العمل الأساسي لأهالي قريتها والقرى المجاورة الزراعة وحياكة السجاد، فلا يكاد يخلو بيت هناك من قطعة أرض أو من نول خشبي. حينها، قسمت يومها قسمين: صباحاً في الزراعة، فيما كانت تقصد ليلاً منزل صديقتها الذي يبعد بضعة أمتار فقط عن منزلها، لمساعدتها ووالدتها في حياكة السجاد.
شيئاً فشيئاً، تعلّمت أم عمر المهنة، فلم تكد تمضي ثلاث سنوات حتى باتت «المايسترو» في الحياكة. نالت إعجاب كل من كان يتقن أصول المهنة، وآخرهن «أم عاصي، أشهر معلمة في حياكة السجاد بالفاكهة والتي أعطت حينها رأيها بفرش أحد المنازل الذي صنعته أنا من سجاد ومساند وأرائك ودواشك». تتذكر أم عمر أنه «في ذلك الوقت، قالت أم عاصي هالسداج (السجاد) شغلو رائع وأحلى من شغلي». كان لرأي «المعلمة» صدى كبير، حتى بات الجميع «يعلم فنّي ومقدرتي على حياكة السداج بشكل فني وجمالي وبضاين العمر»، تضيف.
اشتهرت سكريّة بحياكة السجاد، حتى بات منزلها مقصداً للزبائن. لكن، هذه الشهرة خفتت قليلاً بسبب الحياة الزوجية، فتدنت نسبة أعمالها «حد سداجة واحدة بالسنة نزولاً عند رغبة زوجي معلم البناء». لكن، بعدما توفي الزوج بداية تسعينيات القرن الماضي، عادت الأمور إلى ما كانت عليه سابقاً، الأمر الذي تطلب «مني اتخاذ قرار جريء بالعودة إلى المهنة لتوفير مدخول أولادي الصغار». لكن، كانت تلك العودة متعبة لأم عمر، إذ كانت تقضي نحو 16 ساعة يومياً أمام النول الذي ورثته من حماتها. تقول: «شو بدي أنطر مين يعطيني ألف لربّي اولادي.. ومن فضل ألله ما احتجت حدا وقدرت ربيهم وعلّمهم».
قضت نهلا أيامها في المحترف الترابي العتيق. ذلك المكان الذي أنهكته السنون، وهو عبارة عن غرفة لصيقة بمنزلها لا تكاد تتسع لنولها الموجود هناك منذ 23 عاماً، و«الشماميط» (خيطان الصوف بعد غزلها على المغزال الدولاب)، و«الكباكيب» (خيطان صوفية غير مستعملة). تعيد أم عمر التذكير بالمهنة، شارحة آلية عملها التي تتطلب مجهوداً كبيراً. تقول سكرية «أول شيء نطلبه في العمل هو أن يُحضر الزبون الرسم المطلوب للسجاد، عندها نأتي بالصوف النظيف الذي نمشّطه لاحقاً ثمّ نغزله ونكبكبه، لنصبغه أخيراً باللون الأرجواني أو الأسود، أو الألوان الزاهية التي يطلبها الزبون». تتابع «بعد تنظيفه من الصباغ تبدأ مرحلة وضع الخيطان على «السدوة» في النول، وشدّها وتثبيتها «بالنيرة»، ندخل بعدها القطَب الصغيرة الملونة حتى تأخذ السجادة شكلها المطلوب». تتطرق إلى أنواع السجاد وأسعارها «التي تتراوح بين مليون ومليون ونصف الليرة لقياس ذراعين بست اذرع، فيما سجادة «البوكس العريضة»، وهي أشهر الأنواع، يصل سعرها إلى 4 ملايين ليرة نظراً لخصوصيتها إن لجهة الألوان أو لجهة النقش والغزل المميز».
تنقبض ملامح سكرية عندما تبدأ بالحديث عن مستقبل هذه المهنة، فهي إن ماتت «ماتت المهنة»، تقول. ولحظة سؤالها عن إمكانية «انقراض» هذه المهنة، لا تجد السيدة ما تقوله، لكنها تجزم أن المهنة في بلدة الفاكهة «راحت واندثرت مع الأيام، وباتت تقتصر عليّ أنا فقط في البقاع، وخصوصاً أن كل واحد باع النول الخشبي الذي ورثه عن أهله، إلى أشخاص يهتمون بديكور منزلي تراثي، فيما البعض الآخر وصلت به الأمور حد تقطيعه للنول واستعماله حطباً للتدفئة في الشتاء». تأسف سكرية لما وصلت إليه الحال، وهي ترى أن «الحرفة تراجعت لأسباب عدة، منها انتشار سجاد النايلون الرخيص الثمن والذي تفضّله بعض النسوة لكونه خفيفاً ويُستبدل كل سنة». أما سجاد الصوف، فبات "عبئاً عليهن بالنظر إلى وزنه الثقيل وضرورة تنظيفه سنوياً». ومن الأسباب أيضاً التي ساعدت على اندثار هذه المهنة وعدم تعلّم فتيات القرية لمبادئها، تتطرق سكرية إلى «ارتفاع نسبة المتعلمات من جهة، ولأن هذه المهنة متعبة جداً وما عادت تعيّش عيلة». ثمّة سبب إضافي لتراجع مهنة حياكة السجاد في الفاكهة وانقراضها، هو «توقف زراعة الحشيشة والأفيون في البقاع، حيث انعدمت القدرة الشرائية عند البقاعيين»!
اليوم، تفتقد أم عمر الزبائن، إذ باتوا قلائل ومعظمهم «من آل جعفر القاطنين في قرى جرود الهرمل، فهم الزبائن الوحيدين اللي مّشّيين الحال، نظراً لطلبياتهم المتعددة من سجاد ومساند وقياسات وأرائك ودواشك، ولمعرفتهم الوثيقة بمدى أهمية سجاد الفاكهة لجهة المتانة وتوفير الدفء في الشتاء البارد». رغم قلة زبائنها، ترفض، أقله إلى الآن، التخلّي عن النول والحرفة التي اشتهرت بها وأحبتها، و«لو كانوا أولادي يحاولون منعي من العمل لتخليصي من التعب الذي تحملته أياماً وليالي». وتقول بثقة «رح اشتغل تيخلص العمر.. مش حرام تنقرض أو تموت المهنة اللي تعدّ تراث بلدتنا الفاكهة.. وما بيكفي أنو ما عاد حدا بدو يتعلمها؟». تقنع أولادها بتلك الكلمات وتقنع نفسها بأنها لن تكون السبب في موت هذه المهنة.
أصل الحياكة من عكّار
يعود أصل حرفة حياكة السجاد في بلدة الفاكهة إلى بدايات القرن الماضي، على يد سيدة من بلدة عيدمون العكارية، التي تزوجت أحد أبناء البلدة، وكانت تتقن طرق حياكة جميع أنواع السجاد. فكرة تعلم هذه الحرفة لاقت استحسان نسوة الفاكهة، الأمر الذي ساعد على انتشارها. في المقابل، لم يستطع أبناء البلدات البقاعية المجاورة تعلم مهنة «جيرانهم».