أسبوع من الجهود الإقليمية تقودها تركيا وقطر، والمحلية بقيادة وليد جنبلاط مدعوماً من نبيه بري، للخروج بصيغة تفاهم، أبت المحكمة الدولية إلا أن تضع لمساتها عليها بإحالة القرار الظني من دانيال بلمار على القاضي دانيال فرانسين
تكليف ولا تأليف. عبارة سحرية ظهرت في الكواليس أمس، في إشارة إلى اتجاه نحو إعادة تكليف الرئيس سعد الحريري، على ألا يُسمح له بتأليف الحكومة إلا بعد موافقته على التسوية السورية السعودية والاتفاق معه على جميع التفاصيل، إن من ناحية طريقة إخراج إسقاط المحكمة وحل ملف شهود الزور، أو من ناحية توزيع الأدوار في البلد وتقاسم الملفات الاقتصادية والأمنية والحصص السياسية.
هذا على الأقل ما أشارت إليه خطوة إرجاء الاستشارات النيابية لمدة أسبوع، في محاولة لإفساح المجال أمام جهود رأب الصدع الذي سبّبته الولايات المتحدة وحلفاؤها في رفض تسوية س ـــــ س. جهود منها الإقليمي، وأول إرهاصاتها القمة الثلاثية في دمشق أمس، ومنها المحلي الذي يتولاه النائب وليد جنبلاط، مدعوماً من الرئيس نبيه بري.
ولعل الرواية الأكثر صدقية، تلك التي تقول إن «المعارضة السابقة إنما تريد أكل العنب لا قتل الناطور، وفق تفاهمات س ـــــ س»، وإن «الأهداف المطلوبة (إسقاط المحكمة ومحاكمة شهود الزور) الأفضل تحقيقها على يد الحريري منه على يد غيره، لسببين: الأول، أن ذلك سيكون بأقل تكلفة ممكنة، ومن دون المخاطرة بانزلاق الأوضاع إلى ما لا يمكن السيطرة عليه. أما الثاني، فيتلخص بأن إسقاط المحكمة بيد الحريري يدفنها إلى غير رجعة».
بناءً على ذلك، تضيف الرواية نفسها أن ما عزز هذا الاتجاه لدى سوريا أولاً والمعارضة في لبنان ثانياً، تدخل تركيا لإعادة إحياء س ـــــ س بمباركة من الرياض. وتوضح أن الحكاية بدأت يوم زارت الدوحة وزيرة الخارجية الأميركية هيلاري كلينتون التي سبق أن أعطت ونائبها جيفري فيلتمان ضمانات لقوى الموالاة بأن المعارضة لن تأخذ الأمور إلى نهاياتها في حال إجهاض التسوية. هناك، في خضم انعقاد ما يعرف بمنتدى المستقبل، طُرحت على كلينتون مجموعة من الأسئلة عن سبب إيقاف مساعي س ـــــ س. بدت مربكة ولم تقدم أجوبة مقنعة، مع اعتراف ضمني بأنها فوجئت بما حصل، فما كان من السعودية، التي شعرت بأن ليس هناك من سبيل لإنقاذ الحريري إلا باستئناف مساعي التسوية مع دمشق قبل أن تقدم المعارضة مرشحها لرئاسة الحكومة، إلا أن أجرت اتصالات بأنقرة للعمل على إعادة إحياء التسوية السورية ـــــ السعودية. عندها تواصل الأتراك مع السوريين والقطريين، فكانت قمة دمشق وزيارة أحمد داوود أوغلو لبيروت اليوم.
أصحاب هذه الرواية يؤكدون أن حركة النائب جنبلاط، مهما كانت، لا يمكن فهمها إلا في هذا الإطار. ويضيفون أن «تعهد جنبلاط للحريري بإعطائه أصوات لائحته كاملة يعني أن إعادة تكليف الأخير باتت محسومة، وباتت الأمور تتجه نحو أحد أمرين: إما توافق يؤدي إلى تكليف وتأليف سريعين، وإما تعنت يدخل البلاد في أزمة حكومية قد تستمر لأشهر» على غرار ما حصل مع نوري المالكي في العراق.
ولذلك، فإن الطابة عادت إلى ملعب الحريري.
في المقابل، فإن سياسيين مقرّبين من دمشق يقدّمون قراءةً أخرى، أساسها أن القمّة الثلاثيّة تأتي في سياق «صدامٍ ناعم» مع السعوديّة؛ يوضحون أن تركيا وقطر تسعيان لأداء دور بديل من السعوديّة التي تبدو ملتزمةً بالدور الأميركي. ويُضيف هؤلاء أنّ «من غير المعقول أن يقبل الحريري في بيروت ما رفضه في نيويورك مع اللاعبين الكبار».
ومع ذلك، تُجمع غالبية المصادر على أن قمّة يوم أمس هي قمّة تأكيد الدور السوري في لبنان، وأن التشديد على س ـــــ س، يعني التشديد على دور دمشق وعلى أنه لا حلّ من دونها في بيروت. وهو ما تحدّث عنه أحد الآتين من دمشق بوضوح أكثر عندما قال: «نحن في مرحلة عرقنة لبنان (نسبة إلى العراق)، أي إنه لا حكومة حتى يُعترَف بهذا الدور، تماماً كما حصل في العراق، حيث بقي بلا حكومة حتى الاعتراف النهائي بالدور الفاصل لإيران فيه».
وتفيد المعلومات الواردة من دمشق بأن الأسد عرض لضيفيه، رئيس الوزراء التركي رجب طيب أردوغان، وأمير قطر الشيخ حمد بن خليفة آل ثاني، «تفاصيل ما جرى في المرحلة الماضية ووضعهما في صورة الوضع كاملاً»، وخصوصاً أن وزيري خارجيّة تركيا وقطر، أحمد داوود أوغلو وحمد بن جاسم، يصلان اليوم إلى بيروت، لاستطلاع آراء مختلف القوى والسعي إلى إيجاد حلحلة معيّنة للأزمة.
وفي البيان الرسمي للقمّة، أفادت وكالة الأنباء السوريّة الرسميّة (سانا) بأنه جرى التشديد خلال محادثات القمّة على «حرص القادة الثلاثة على أن يكون هناك حل لهذه الأزمة مبني على المساعي الحميدة السورية ـــــ السعودية لتحقيق التوافق بين اللبنانيين ومنع تفاقم الأوضاع». وأضافت الوكالة أن الرؤساء الثلاثة «رحّبوا بقرار لبنان تأجيل الاستشارات النيابيّة ريثما تتحرك الجهود السياسيّة لمساعدة اللبنانيين على إيجاد الحلّ الذي يحقّق مصالح الشعب اللبناني واستقرار لبنان».
ويأتي الاجتماع فيما أرجأ الرئيس ميشال سليمان لمدة أسبوع الاستشارات النيابيّة لتسمية رئيس للحكومة الجديدة، وذلك بعد مفاوضات بين القوى السياسيّة امتدت من ليل أول من أمس حتى صباح أمس، في ظلّ تداول معلومات عن أن خيار نواب اللقاء الديموقراطي الأحد عشر هو التصويت لسعد الحريري.
وتُشير معلومات مصدرها الضاحية الجنوبيّة لبيروت أن الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصر الله لم يطلب من جنبلاط شيئاً لجهة التصويت إلى جانب قوى المعارضة في اجتماعهما الأخير، فيما تؤكّد معلومات مصدرها دمشق أن الأسد لم يطلب شيئاً من جنبلاط أيضاً، بل إن زعيم المختارة بادر إلى القول إنه لن يكون جزءاً من حكومة لون واحد، أي حكومة يرأسها الحريري ولا تكون قوى المعارضة جزءاً منها.
وحصل هذا الكلام في اللقاء الأخير بين الأسد وجنبلاط في دمشق، حيث بادر زعيم «الاشتراكي» إلى شرح طويل لأسباب اقتناعه بضرورة بقاء الحريري في رئاسة الحكومة، من ضروريّات احترام الأكثريّة السنيّة، إلى خطورة الوضع السني ـــــ الشيعي وحساسيّته. تشعّب جنبلاط، على ما تفيد المعلومات، في شرح موقفه، وهو الذي كان قد سمع في وقت سابق في دمشق كلاماً سورياً حاداً لجهة عدم الرغبة في مشاهدة الحريري في السرايا الحكومية مجدداً. لكن زعيم المختارة نجح في تجنّب الضغط السوري من جهة، وخصوصاً أن الاتصالات الإقليميّة كانت قد بدأت تشتغل في السياق نفسه.
بدوره، كان الرئيس نبيه برّي يعمل على الموجة نفسها مع جنبلاط. تواصل مع حزب الله ومع دمشق تهيئة لحراك زعيم المختارة، وخصوصاً أن رئيس المجلس كان قد حدّد أولويّته بالبنود المتعلّقة بالمحكمة، وعدّها الأمر الأساسي والضروري، ولم يول أهميّة كبرى لموضوع الإصلاح المالي والإداري الذي لا يعدّه برّي أولويّة اليوم. حركة بري قامت وفق نظريّة ضرورة الانتقال من سعد الحريري واحد إلى سعد الحريري اثنين.
وهكذا، نجح جنبلاط في تحقيق ما سعى إليه، ما يعني أن قوى المعارضة تنتظر أن يُعلن الحريري التزامه بالمبادرة السوريّة ـــــ السعوديّة. وفي هذه الحالة ستشارك في حكومة، يُفترض أن ينال بيانها الوزاري أصواتاً نيابيّة أكثر من الأصوات التي سينالها رئيسها عند تكليفه.
وكان لافتاً يوم أمس خروج عدد من سياسيي تيّار المستقبل مؤيّدين للمبادرة السوريّة ـــــ السعوديّة. وزير الدولة جان أوغاسابيان رأى، في حديث إذاعي، أن من بين «المخارج للأزمة عودة إحياء المساعي السعوديّة ـــــ السوريّة، وقد يكون ذلك بمثابة إعادة لفتح الأبواب»، مشيراً إلى «أن السعودية حريصة على الاستقرار في لبنان». ولفت أوغاسابيان إلى «أن حكومة اللون الواحد هي بمثابة إعلان الحرب في لبنان أياً كان من يتولى الرئاسة، هذا الطرف أو ذاك»، مؤكداً «أن المخرج يكون في الوصول إلى تفاهم وحكومة وفاق وطني في هذه المرحلة الدقيقة التي تمرّ فيها المنطقة ككلّ».
في المقابل، كان للنائب أحمد فتفت رأي آخر، إذ قال إنه «لا أحد يتوقع تنازلات من الحريري لم يقدمها في السابق»، لافتاً إلى أن الفريق الآخر لا يُقدم أي تنازلات، وأنه «عندما علم أنّ من المستحيل إيقاف المحكمة تراجع عن تقديم أي التزام».
وفي الرياض، دعا مجلس الوزراء السعودي، في بيان بعد اجتماعه الأسبوعي «الأشقاء في لبنان إلى العمل معاً للحفاظ على وحدة لبنان وأمنه واستقراره، والبعد به عن مخاطر الفتنة والاضطرابات السياسيّة». وأكّد المجلس «عظم المسؤوليّة الملقاة على عاتق الأشقاء في لبنان، وعلى الثقة الكبيرة بحكمتهم، للخروج بلبنان من هذه الأزمة السياسيّة الحرجة».