في مركز الأمانة العامة لقوى 14 آذار، «مثقفون» و«ناشطون» يجتمعون في حلقات «ثينك تانك» أو خزانات الأفكار. يبحثون شؤون «ثورة الأرز»، ويلتقون من حين إلى آخر أعضاء الأمانة العامة ويطرحون بعض الأفكار التي توصلوا إليها.
شُغلت أمس إحدى مجموعات هؤلاء «المثقفين» بمناقشة الأوضاع التي وصلت إليها قوى الأكثرية السابقة وكيفية التعامل مع المعطيات الجديدة. كانت أجواء الصور المعلّقة في قاعة الاجتماعات الرئيسية في المركز تؤثّر على النقاشات الجارية. فوجوه شهداء «انتفاضة الاستقلال» والجموع المحتشدة في وسط بيروت يوم 14 آذار 2005 حاضرة تماماً في عقل تلك المجموعة. تحدث أفرادها عن الأخطاء التي ارتكبتها قيادة 14 آذار منذ 2005، وأهمها أنها لم تعتمد سياسة الحسم في مواجهة الفريق الآخر، ولم تستطع استغلال عناوين المعارك الطويلة وتنظيمها منذ 2006. وضمن نقاشاتهم، تناولوا سبل معالجة الخروج من السلطة، وكانت إحدى أكثر الأفكار حماسةً الدعوة إلى انتخابات نيابية مبكرة. دعّموا هذه النظرية بأنّ قوى الأكثرية السابقة قادرة على إسقاط وليد جنبلاط في ساحل الشوف والبقاع الغربي، وأن العودة إلى طرابلس أمر أكثر من ممكن. سُردت تصوّرات وتمنيّات بتفاصيلها، فيما رائحة الدخان تعبق في القاعة.
عندما لاحظت هذه المجموعة وجود وجه غريب، بدأ الارتباك. صمت تقطعه بعض الهمسات وحركات اليدين، ليُستعان بأحد الأصدقاء ويتبيّن أنّ «الغريب» صحافي عدّوه من الفريق الآخر. فظنت المجموعة أنها وجدت مخرجاً: متابعة النقاش بالفرنسية، الذي يمكن من خلاله إنكار وجود «الغريب»، كما عبّر أحدهم باستخدام عبارة «soyez indifférents»، لكونه من الضفة الأخرى ولا يفهم لغة المستعمر. تتابع النقاش وفق هذا المنوال مع سرد التفاصيل نفسها، لكن مترجمة حرفياً إلى الفرنسية.
هو الأسلوب نفسه الذي يتعامل به قادة 14 آذار مع الملفات السياسية. عملية إنكار منهجية. إنكار للمستجدات على الأرض، وفي مقدمها انتهاء الجولة الأخيرة من المواجهة إلى غالب ومغلوب، وإنكار لكون ملفي السلاح والمحكمة الدولية أصبحا من الماضي.
ليس بعيداً عن هذا الإنكار، يصر أمين سر الأمانة العامة، فارس سعيد، على تفاؤله وقراءته الإيجابية للتحولات السياسية منذ أسبوعين حتى اليوم. يؤكد أنّ جميع الحلفاء سيشاركون في الاستشارات النيابية من باب تأكيد الثوابت، تأكيد استمرار المحكمة ونزع السلاح غير الشرعي، الالتزام بمقررات الشرعية الدولية واحترام الطائف ومرجعية الدولة والمؤسسات.
ينتظر فريق الأقلية النيابية الجديدة، وخصوصاً الأمانة العامة والقوات اللبنانية وتيار المستقبل، إجابة الرئيس نجيب ميقاتي بأنّ مسألة السلاح ستعالج على طاولة الحوار وأنّ ملف المحكمة سيُبحَث في مجلس الوزراء. ومع هاتين الإجابتين، سيعلن الأكثريون السابقون عدم مشاركتهم في الحكومة العتيدة ويطلقون حركة معارضة غير تقليدية ستعتمد على تراكم التجمعات السلمية التي ستواكب اهتزاز الفريق الآخر نتيجة مواجهته الشرعية الدولية والمحكمة الدولية. هكذا يمكن تلخيص مشروع 14 آذار في هذه المرحلة بانتظار خطتي كل من الرئيس السابق سعد الحريري ورئيس الهيئة التنفيذية في القوات اللبنانية، سمير جعجع، اللذين يلوذان حالياً بالصمت. هذه المعادلة لا تنطبق على حزب الكتائب، الذي يشهد نقاشات جدية لتحديد الأسلوب الملائم للحراك السياسي في المرحلة المقبلة. لا يزال هذا النقاش الكتائبي قائماً، بين مجموعة تجد أنّ موقع الحزب هو إلى جانب حلفائه، ومجوعة أخرى تسعى إلى ممارسة ما قاله الرئيس أمين الجميّل قبل أشهر، بأنّ الكتائب هو إلى جانب رئيس الجمهورية، مع العلم بأنّ بعض الكتائبيين باتوا محرجين من وصول ميقاتي إلى الرئاسة، في ظلّ العلاقة «العقارية» الجيدة التي تجمع الجميّل الأب والرئيس الجديد. وبالتالي موقف الكتائب سيتحدد بين أمرين: الاختيار بين منطق «دم بيار أغلى من أي أمر آخر» أو منطق «نيو صيفي»، ولو أنّ النائب سامي الجميّل أكد أمس أن لا مساومة على المحكمة الدولية ولا شرعنة للسلاح، مشيراً إلى أنّ معالجة الأزمة اللبنانية الحالية تكون بإجراء انتخابات نيابية مبكرة وعقد مؤتمر وطني يمكن من خلاله طرح الهواجس والمواضيع الخلافية