الصدمة التي اثارها كلام القذافي في نفوس جميع الذين شاهدوه على شاشة التلفزيون يرغي ويزبد ويعلنها حربا اهلية لا رجعة فيها، سرعان ما تحولت الى احساس بالخوف والعطف على خمسة ملايين مواطن ليبي يقادون اليوم نحو مذابح جماعية لم يعد بالامكان وقفها الا بمعجزة، تعجل بخروج الرجل من سدة المسؤولية وايضا من الحياة، رأفة بليبيا وصونا لمشاعر العرب والمسلمين وكرامتهم وحقوقهم الانسانية.
حتى الامس كان صلف القذافي وهلوساته موجهة الى الخارج، لكنها المرة الاولى التي يتوجه فيها مباشرة الى الشعب الليبي الذي يثبت هذه اللحظات انه لا يقل جدارة بالحرية والديموقراطية عن اشقائه التونسيين والمصريين، ولا ينقص عنهم عزما وثباتا في الكفاح من اجل نيل حقوقه الوطنية، برغم تعرضه لابشع انواع الجرائم التي لم يسبق ان ارتكبها طاغية او نظام دكتاتوري بحق مواطنيه العزل.
الانباء والصور الآتية من ليبيا مفجعة، لم يخترقها امس سوى انشقاق المزيد من اركان نظام القذافي المدنيين والعسكريين عنه وانضمامهم الى المطالبين بالتغيير، وبينهم وزيرا الداخلية والعدل وعدد من كبار ضباط الجيش الذي يبدو انه بات الامل الوحيد لخلاص ليبيا وشعبها من الابادة الجماعية، التي تقف بقية دول العالم عاجزة عن وقفها او شامتة بحصولها او على الاقل متفرجة على وقائعها المرعبة، المنقولة على شاشات التلفزيون، وتقطعها بين الحين والآخر مشاهد فرار او جلاء غير الليبيين، من ليبيا ، التي لم يبق فيها سوى مصريين وتونسيين وسواهم ممن تقطعت بهم السبل في ذلك البلد المعذب.
وفي كلمة متلفزة ألقاها من أمام منزله في باب العزيزية في طرابلس، وتجاوزت مدتها الساعة، دعا القذافي «الملايين إلى تطهير ليبيا شبرا شبرا» إذا لم تتوقف حركة التمرد. وقال «سنعلن الزحف المقدس وسنوجه نداء إلى الملايين من الصحراء إلى الصحراء،
وسنزحف عليهم بالملايين لتطهير ليبيا بيتا بيتا وشبرا شبرا ودارا دارا وزنقة زنقة».
وهاجم القذافي الأجهزة الإعلامية العربية والغربية قائلا إنها تحاول تشويه صورة الشعب الليبي أمام العالم. وأشار القذافي في كلمته إلى أن المواطن الليبي لم تكن له هوية في الماضي، أما اليوم، بعد الثورة، فقد صارت له هوية مشددا على «انها ليبيا القذافي ليبيا الثورة». وقال إن حكام العالم بمن فيهم حكام القوى النووية يتطاولون على ليبيا ومدنها لتشويه صورتها وإهانة شعبها، مضيفاً «نحن نرد في الميدان فوق الأرض».
ونفى القذافي ما تردد عن احتمال تنحيه قائلا «معمر القذافي ليس رئيسا أو صاحب منصب كي يستقيل.. هذه بلادي ولن أتركها... ولن اترك هذه الأرض.. هذه بلادي.. أنا لست رئيس جمهورية.. أنا قائد ثورة»، مضيفا ان «معمر القذافي تاريخ ومقاومة وثورة». وتابع بالقول :«أنا لست رئيسا ورجلا عاديا حتى يتم قتلي بالسم.. أنا مجد لا تفرط فيه ليبيا أو الشعب الليبي»، متسائلا: «اين كنتم حينما كان يُقصف بيت معمر القذافي».
وتابع «نحن لم نستخدم القوة بعد وإذا تطورت الأمور فسنستخدمها وفق المواثيق الدولية والدستور الليبي». ووجه حديثه للمتظاهرين، الذين وصفهم بـ«الجرذان» و«متعاطي الحبوب»، قائلا: «انكم تواجهون صخرة». ودعا الى تشكيل «لجان الامن الشعبي في المدن لحفظ الامن»، معتبراً أنها ستكون «لجان الدفاع عن الثورة وعن كل مكتسبات الثورة في كل المدن الليبية».
وختم قائلاً «لقد دقت ساعة الزحف والعمل والانتصار، ولا رجوع. إلى الأمام، إلى الأمام، إلى الأمام، ثورة، ثورة، ثورة». وغادر المكان بعد أن ضرب بقبضته على الطاولة التي كانت أمامه.
ميدانيات
وفي الوقت الذي بدت فيه ليبيا معزولة عن العالم الخارجي، بعدما قطع نظام القذافي كافة وسائل الاتصالات، ما جعل من الصعب جداً الحصول على صورة واضحة للأوضاع الميدانية، أكد شهود عيان أن المعارضين أحكموا سيطرتهم على مدن بنغازي وطبرق والبيضاء. وعلى امتداد الطريق الصحراوي في شرقي البلاد، شوهدت مجموعات من المتمردين الذين يحملون بنادق آلية وبنادق تعمل بضغط الهواء يلوحون بسعادة للسيارات المارة، وهم يرفعون علامة النصر.
وقال مواطن ليبي من المقيمين في مدينة بنغازي إن الأوضاع في المدينة التي شهدت أسوأ أحداث عنف وقعت منذ بدء الاحتجاجات الليبية، بدت أهدأ امس الثلاثاء فيما استمرت المظاهرات الاحتجاجية حيث بات مئات المحتجين ليلتهم قبالة ساحة القضاء الرئيسية في المدينة.
وقال جنود في طبرق إنهم ما عادوا يساندون القذافي، مؤكدين أن المنطقة الشرقية باتت خارج سيطرته. وأكد مقيمون في المدينة انها الآن في أيدي الشعب، فيما أكد الرائد هاني سعد، الذي انضم للمعارضة، ان «كل المناطق الشرقية خارج سيطرة القذافي الآن... الجيش والشعب يد واحدة هنا».
وسيطر معارضون للقذافي على الجانب الليبي من الحدود المصرية، حيث حمل البعض صوراً مقلوبة للرئيس الليبي كتب عليها «الطاغية الجزار قاتل الليبيين». وقال الجيش المصري انه تم سحب أفراد حرس الحدود الليبي وأصبحت لجان شعبية تسيطر على الجانب الليبي من الحدود، من دون أن يوضح إلى من تنتمي هذه اللجان.
وفي طرابلس، قال شهود إن القذافي واصل استخدم دبابات وطائرات حربية ومروحيات لقمع أكبر انتفاضة شعبية يواجهها منذ توليه الحكم قبل 42 عاماً. ولم تعلن حتى الآن أي حصيلة مؤكدة لعدد ضحايا عمليات القتل، لكن كثراً تحدثوا عن «إبادة جماعية» مؤكدين مقتل المئات.
وذكرت مصادر ملاحية أن العمليات توقفت في موانئ الشحن في بنغازي وطرابلس ومصراتة على البحر المتوسط، فيما بدأ إنتاج المحروقات الليبية بالتباطؤ بسبب الانتفاضة الشعبية، ما يزيد من زعزعة سوق نفطية عالمية هشة أصلا، بالرغم من وعود السعودية التي تؤكد انه لن يكون هناك شح في العرض النفطي.
ولدى افتتاح جلسة التداول في سوق نيويورك، ارتفع سعر برميل النفط أكثر من 8 في المئة. وجرى التداول بسعر برميل النفط المرجعي الخفيف، تسليم آذار، بـ92,92 دولارا. وفي سوق التداول الدولية في لندن، ارتفع سعر برميل النفط المرجعي الخفيف، تسليم نيسان، 1,06 دولار، ليصل الى 106,80 دولارات.
ويبدو ان التطمينات التي أطلقتها السعودية، أول دولة منتجة للنفط في منظمة الدول المصدرة (أوبك)، لم تهدئ الأسواق. وكان نائب وزير البترول السعودي عبد العزيز بن سلمان أكد لشبكة «سي ان بي سي» ان بلاده لن تسمح بحصول شح في العرض النفطي، لافتاً الى أن «السوق تعرف أن السعودية تتمتع بطاقة فائضة كبيرة وقد لجأت إليها عندما تبين أن ذلك ضروري في الماضي».
واعلن متحدث باسم مجموعة «ريبسول» النفطية الإسبانية أنه تم تعليق كافة العمليات في ليبيا، لتنضم بذلك إلى مجموعات نفطية أخرى، من بينها «ايني» الإيطالية، المحت إلى تباطؤ في الانتاج النفطي الليبي الذي يقدر بما بين 1,5 و1,8 مليون برميل.
انشقاقات
وقدم مسؤولون ليبيون كبار ووزراء ودبلوماسيون وعسكريون استقالاتهم، او تخلوا عن نظام معمر القذافي، تعبيرا عن رفضهم ممارسات القمع الدامي ضد المتظاهرين. وقال وزير العدل مصطفى عبد الجليل انه استقال «احتجاجا على الاستخدام المفرط للقوة» ضد المتظاهرين.
واعلن وزير الداخلية الليبي اللواء الركن عبد الفتاح يونس العبيدي استقالته وانضمامه الى «ثورة 17 فبراير». وقال العبيدي في تسجيل مصور «أعلن انا اللواء ركن عبد الفتاح يونس اني تخليت عن جميع مناصبي استجابة لثورة 17 فبراير وذلك لقناعتي التامة بصدق مطالبها العادلة». واضاف «اهيب بكل القوات المسلحة ان تستجيب لمطالب الشعب نصرة لثورة 17 فبراير».
وكان القذافي أكد في كلمته أن العبيدي يقف الى جانبه، وأنه تعرض لاطلاق النار في مدينة بنغازي التي انطلقت منها حركة الاحتجاج، وان مصيره مجهول.
وكان المندوب الدائم لليبيا لدى الجامعة العربية عبد المنعم الهوني اعلن استقالته للالتحاق بالثورة، فيما حض أعضاء في الفريق الدبلوماسي الليبي في الامم المتحدة، وعلى رأسهم مساعد السفير ابراهيم الدباشي، الجيش الليبي على الاطاحة بمعمر القذافي «الطاغية». وفي الولايات المتحدة، اعلن السفير علي العجيلي انه يرفض خدمة «دكتاتورية» ودعا الى تنحي معمر القذافي، فيما استقال سفراء ودبلوماسيون من مهامهم في البعثات الدبلوماسية، أو فكوا ارتباطهم بنظام القذافي، في الهند وبنغلاديش واستراليا وماليزيا والصين والمغرب الدنمارك والسويد ومالطا، وغيرها من الدول.
واعلنت قيادة الجبل الأخضر في الجيش الليبي انضمامها لـ«ثورة 17 فبراير»، فيما ترددت أنباء عن فرار عدد من جنود البحرية بعدد من السفن الحربية إلى جزيرة مالطا.
وقال وزير الخارجية البريطاني وليم هيغ إن هناك ما يشير إلى أن الدولة الليبية تتداعى، موضحاً أن «هناك مؤشرات كثيرة على أن هياكل الدولة تنهار بأكثر من صورة في ليبيا»، لافتاً إلى أن «استقالة هذا العدد الكبير من السفراء والدبلوماسيين والأنباء بأن الوزراء غيروا ولاءهم داخل ليبيا... تظهر أن النظام في حالة أزمة شديدة».
مواقف دولية
وأعلن البيت الأبيض انه يدرس اقتراحا قدمه السيناتور الأميركي جون كيري لبحث إعادة فرض عقوبات على ليبيا، فيما رأت وزيرة الخارجية الأميركية هيلاري كلينتون أن عملية القمع الدموي في ليبيا لحركة الاحتجاج ضد النظام «غير مقبولة على الإطلاق». وأضافت ان «من مسؤولية الحكومة الليبية احترام الحقوق العالمية لشعبها بما فيها حق التعبير بحرية والتجمع».
وحذر رئيس لجنة الشؤون الخارجية في مجلس الشيوخ الأميركي السيناتور جون كيري القذافي من «عواقب» مباشرة للقمع الذي يمارسه على المتظاهرين في ليبيا. وقال، في بيان، ان «الاستخدام المفرط للقوة الذي تبديه حكومة القذافي ينبغي ان ينذر بنهاية النظام نفسه». وأعرب عن امله في ان يكون نظام القذافي «يشهد ساعاته الاخيرة».
بدورها، شجبت مسؤولة العلاقات الخارجية في الاتحاد الأوروبي كاثرين آشتون ما يجري حاليا فى ليبيا، مشددة على ضرورة ضبط النفس واحترام حقوق الشعب الليبي.
ودعا رئيس الحكومة الايطالية سيلفيو برلوسكوني وزراءه الى اجتماع لمناقشة الازمة الليبية، معربا عن خشيته من تدفق مهاجرين ليبيين، ومن تهديد مصالح شبه الجزيرة في مستعمرتها السابقة.
وقرر مجلس الجامعة العربية في ختام اجتماع عقده على مستوى المندوبين الدائمين في القاهرة تعليق مشاركة ليبيا في اجتماعات الجامعة وجميع مؤسساتها احتجاجا على استخدام العنف ضد المتظاهرين الليبيين، وأوصى وزراء الخارجية العرب بدراسة تعليق عضويتها في الجامعة العربية.
وفي نيويورك (خالد داود)، حسم البيان الذي أصدرته جامعة الدول العربية وأدان العنف الذي مارسته السلطات الليبية ضد المدنيين، الخلافات داخل مجلس الأمن الدولي وصدر بيان صحافي مماثل أعلن فيه أعضاؤه الخمسة عشر عن «القلق العميق من الموقف في ليبيا، وإدانتهم للعنف واستخدام القوة ضد المدنيين».
كما أعرب البيان، الذي صدر في أعقاب نحو ثلاث ساعات من المشاورات وتلا الاستماع لخطابات من مندوب ليبيا الدائم لدى الأمم المتحدة عبد الرحمن شلقم ووكيل الأمين العام للشؤون السياسية لين باسكو، عن «الأسف لقمع التظاهرات السلمية وعبّر عن الأسف العميق لوفاة مئات المدنيين». ودعا المجلس في بيانه الصحفي الذي قرأته مندوبة البرازيل التي ترأس مجلس الأمن للشهر الحالي، إلى «وقف فوري للعنف واتخاذ خطوات للتعامل مع المطالب المشروعة للشعب بما في ذلك عبر حوار وطني».
وطالب مجلس الأمن حكومة ليبيا بـ«تنفيذ التزاماتها بحماية شعبها. كما دعا السلطات الليبية إلى ممارسة ضبط النفس واحترام حقوق الإنسان والقانون الإنساني الدولي، والسماح بشكل فوري بوصول مراقبين دوليين لحقوق الإنسان والوكالات الإنسانية».
ودعا بيان المجلس إلى تقديم مساعدات إنسانية دولية للشعب الليبي، «وعبروا عن قلقهم من ورود تقارير حول وجود نقص في المؤن الطبية اللازمة لمعالجة الجرحى. كما حثوا بقوة السلطات الليبية على ضمان المرور الآمن للمساعدات الإنسانية والطبية والسماح بدخول موظفي الإغاثة للبلد». وأكد على أهمية احترام الحكومة الليبية لحق التجمع السلمي وحرية التعبير، بما في ذلك حرية الصحافة. ودعا لرفع كل القيود المفروضة على كل أشكال الإعلام.
وبينما كان بعض أعضاء المجلس قد طالبوا بتشكيل لجنة تحقيق دولية في الاعتداءات التي تعرض له المدنيون في ليبيا، فلقد تعذر التوصل لاتفاق بهذا الشأن، واكتفى بيان مجلس الأمن بـ«التأكيد على أهمية المحاسبة»، مشددا على «ضرورة محاسبة المسؤولين عن هذه الهجمات، بما في ذلك من قبل القوات الخاضعة لسيطرتهم ضد المدنيين».
وقال دبلوماسيون غربيون لـ«السفير» إن البيان الذي صدر من الجامعة العربية دفع الصينيين والروس إلى التخلي عن أي تحفظات سابقة كانت لديهم بشأن تدخل المجلس في ما يرون أنه شأن داخلي في الأساس ولا علاقة له بالأمن والسلم الدوليين. ولكنهم رفضوا في الوقت ذاته مطلب بريطانيا بالإشارة بشكل مباشر إلى الخطاب الذي ألقاه القذافي وحرّض فيه الليبيين على مهاجمة المحتجين على حكمه.
ورحب نائب المندوب الدائم لليبيا لدى المجلس، ابراهيم الدباشي، والذي كان سبق له إعلان تمرده على القذافي «وتمثيله للشعب الليبي فقط» ببيان مجلس الأمن «رغم أنه ليس بالقوة المطلوبة.» وحذر مما قال أنه عمليات «إبادة جماعية» بدأها أنصار القذافي ضد معارضيه فور إنهائه خطابه وخاصة في مدن تقع في غرب ليبيا».