في أعقاب صدور قرار مجلس الأمن الدولي بحق نظام العقيد معمر القذافي وتقلص المساحة التي يسيطر عليها، هل باتت نهاية النظام والزعيم وشيكة؟ غالبية الآراء تؤكد ذلك. لكن بالنظر إلى ما يعرف عن القذافي من عناد واستبداد وقدرة على التعامل مع الواقع واللعب على التناقضات القبلية والاستفادة من الأعماق الإقليمية، العربية منها والأفريقية، فضلاً عن إمكاناته المادية غير المحدودة، وعن الطبيعة المنوعة الملائمة للتخفي والانقضاض في دولة شاسعة المساحة، تبرز الخشية من تحوّله وأتباعه ومرتزقته إلى ما يشبه أسامة بن لادن ثان.
كثيرون، وفي مقدمهم من كانوا مقربين من القذافي مثل مندوب ليبيا في الأمم المتحدة عبد الرحمن شلقم ونائبه إبراهيم الدباشي، يعتقدون أن القذافي لن يترك ليبيا من دون خوض الحرب إلى نهايتها حتى يلقى حتفه، فهو «نرجسي يفضّل الموت بطلاً على مواجهة العدالة»، على حد وصف الدباشي.
هل يستطيع القذافي فعلاً خوض حرب من هذا النوع؟ نظرة إلى أوضاع ليبيا الجغرافية والديموغرافية تساعد على تكوين صورة عن احتمالات حرب طويلة مع فلول النظام، حرب قد تشبه ما يحدث في أفغانستان على يد «القاعدة» و«طالبان».
ليبيا تختلف كثيراً عن أي دولة أخرى في الشرق الأوسط. إنها ضئيلة السكان (5.5 ملايين نسمة) مؤلفة من ثلاث ولايات أو أقاليم رئيسية. طرابلس ونواحيها في الغرب، برقة ونواحيها في الشرق، وفزان في الوسط والجنوب. مساحتها الشاسعة، التي تقل بعض الشيء عن مليوني كيلومتر مربع، تجعل المسافات بين مدينة وأخرى تقاس بمئات الكيلومترات. جلّ هذه المساحة على شكل صحراء في غاية القساوة والجفاف. فالأمطار لم تسقط في بعض مناطقها الصحراوية في فزان منذ عام 1998. وباستثناء شريط ساحلي ضيّق يتمتع بالخضرة، تفتقر ليبيا إلى عماد الحياة الأساسي، الماء، وليس فيها أي أنهار جارية، باستثناء النهر الاصطناعي الذي كلّف عدة مليارات من الدولارات. لذا تعتمد ليبيا، في غالبية مدنها وقراها، على المياه الجوفية وعدد من الواحات المتباعدة في منخفضات ومحطّات تحلية قليلة الإنتاج. أمر يجعل التنقل في هذه الدولة الشاسعة محكوماً بتوافر المياه.
كل ما في هذه الصحراء الواسعة الجميلة، في تضاريسها المتنوعة بين جبال صخرية وكثبان رملية شاهقة، معاد وقاس بما يفوق الحدود. ليبيا نادرة في جغرافيتها. يشعر الزائر لعمقها بأنه في كوكب آخر. هذه القسوة في الطبيعة، فضلاً عن تركة استعمارية إيطالية كانت في غاية العنف، مورست خلالها إبادة جماعية لعشرات آلاف السكان، انعكست على طبيعة البشر المتوزعين على مناطق ومدن على أسس قبلية، قبل أن يحيلها حكم القذافي إلى نظام جديد مبنيّ على الشعبيات. وبقيت الاختلافات في طبيعة السكان بين الشرق والغرب والشمال والجنوب والوسط، شاسعة للغاية. فالقذافي مارس التمييز خلال أربعين عاماً على أسس قبلية. حارب سكان منطقة طبرق ونكّل بشبابها وحرمها المشاريع الإنتاجية المهمة، على عكس سرت في شمال الوسط، وسبها الصحراوية حيث القذاذفة هم القبيلة الطاغية، التي عرفت بمحاربتها للقبائل العربية على مر العصور.
وفي فزان الغنية بالنفط، هناك العديد من القوميات والتجمعات القبلية. الطوارق هم الغاليبة في مدينة غات التاريخية في أقصى الجنوب الغربي. والقذاذفة غالبية في مدينة الشاطئ في الولاية نفسها. هناك لا تشعر بأنك في دولة من دول شمال أفريقيا، بل تكون أقرب إلى النيجر والجزائر والتشاد ودارفور، سواء في الطبيعة أو في ملامح السكان وعاداتهم. كثيرون لا يزالون يقطنون مدناً طينية تاريخية يفترض أن تكون متاحف تحفظها الأونسكو، على غرار مدينة غدامس. حتى مصاحف السكان في الغات ونواحيها تجدها على شكل مخطوطات قديمة ذات قيمة تاريخية عالية. اللغة هناك تختلط فيها الأمازيغية مع العربية ولغة الهوسة. هؤلاء لا يزالون يقتاتون بالقليل القليل، وتفتقر حتى طرقهم للإسفلت، بينما النفط ينبع من مناطقهم. وربما يقطع المسافر مئات الكيلومترات في تلك المناطق دون أن يبصر مخفراً أو مستشفى. أما المدارس فإنها من الكماليات. هذه القبائل لا تزال تعيش على تجارة المواشي، ولا سيما الإبل. وبعضها يعمل في مجال التهريب وتجارة السلاح وحتى الذهب. فالحدود بين ليبيا والجزائر والنيجر والتشاد والسودان، وصولاً إلى مالي ونيجيريا معدومة. كل ما في المنطقة يقوم على سيادة رؤساء القبائل وتحالفاتهم، التي، غالباً، لا تدوم طويلاً. وبالتالي فإن المتنقل بين هذه الدول قادر على اختراق كل الحواجز طالما سمحت له القبائل بالانتقال في مناطق نفوذها بثمن. هناك لا أحد يعرف زعيماً ولا وزيراً. وزير السياحة الليبي السابق عمار لطيّف توقف عند إحدى القرى في منطقة جبال أكاكوس الصخرية، وحاول التقاط صورة مع سيدة عجوز من الطوارق قرب خيمتها المبنية من عيدان يابسة، فطلبت منه أن يعطيها مالاً لقاء قبولها التقاط الصورة معه. وعندما قال لها مساعده، وكان من الطوارق أيضاً، إنه وزير، أجابت، «هنا لا نعرف المسؤول أو الوزير. عليه أن يدفع»، فدفع.
السكان المتفرقون في الكثير من القرى والتجمعات الصحراوية الليبية لا يزالون غرباء عن الإدارة المركزية في طرابلس. لكن زعماء القبائل كانوا ينتظرون الهبات والمكرمات من صاحب القصر في طرابلس، ويهدون له الجمال البيض عندما يحضر لزيارتهم بين فترة وأخرى لتجديد العلاقة. الولاء هناك يمنح عادة للزعماء مؤقتاً، فالحياة قاسية جداً، والدماء رخيصة في أفريقيا. والزعيم يحتفظ بكل الثروة نقداً أو ذهباً، وبالسلاح من مختلف الأنواع، لذا في وسعه أن يجهّز جيوشاً من المرتزقة من كل الدول المجاورة، ليتحول إلى إحدى أساطير الصحارى الليبية.
النفط والغاز هما المصدر الأساسي للثروة في البلاد، إذ يقدمان أكثر من 94 في المئة من الإيرادات. لكن حساباتهما تبقى خاضعة لأهواء الزعيم الذي يقتطع لنفسه ولعائلته أكثر من الثلث، ويوزع الثلثين الباقيين على هيئة مشاريع ورواتب وإكراميات، بلغ مجموعها نحو 24 مليار دولار عام 2009. ليبيا غنية بالإمكانات السياحية الهائلة في الشمال والجنوب على حد سواء. من ساحل خلاب يمتد مسافة ألفي كيلومتر قريباً من جنوب أوروبا، وصولاً إلى الصحراء التي تتميز بالكهوف، التي يعود عهدها إلى الإنسان الأول في الوسط والجنوب.
ينتمي القذافي شخصياً إلى قبيلة القذاذفة التي كانت تعيش بين منطقتي غريان وسهول سرت، منذ ما يزيد على 300 عام. إلا أن قسماً منهم هاجر إلى التشاد عقب الاحتلال الإيطالي ثم عادوا ليقيموا في ولاية فزان الصحراوية الجبلية الوعرة. خاض القذافي حرباً ضد التشاد محاولاً تغيير النظام وهو يحلم بتزعم أفريقيا، لكنه فقد فيها آلاف الليبيين. تجربة لن تساعده كثيراً في ما لو سلك هو وأبناؤه طريق التمرّد على النظام الجديد.
إذا أراد القذافي تنفيذ وعيده بالاقتصاص من الليبيين، يفترض أن يمارس ساديته انطلاقاً من تلك المناطق، مثل مدينة الشاطئ في فزان، أو الغات القريبة من حدود الجزائر الجنوبية الشرقية. وهو لا يستطيع بالطبع التنقل على الجمال كما يفعل الكثيرون، وسيحتاج إلى أرتال من سيارات الدفع الرباعي الأمنية الخاصة التي يقتني الآلاف منها. لكن عيبها أنها تترك آثاراً على رمال الصحراء، قد يسهل تعقبها إذا لم تكن مموهة بحيث تبدو محلية. وهي تحتاج إلى صهاريج كبيرة من البنزين تتبعها. سيحتاج القذافي بالتأكيد إلى عدد كبير من المرتزقة، وهم كثر في الصحراء الأفريقية. ومساحة ليبيا الكبيرة وطرقها وجبالها الوعرة، تبقى ملائمة من نواح كثيرة لحرب عصابات طويلة. حرب يستطيع فيها رجال القذافي إلحاق الضرر بالاقتصاد والسطو المسلح على مدن على طريقة المتمردين في التشاد أو دارفور.
سيضطر القذافي الفاقد شخصية الزعيم، إلى شراء ولاء القبائل إذا كتبت له النجاة في معارك طرابلس والفرار عبر الأنفاق الكثيرة التي حفرها تحت قصره. وهو حسب حساب هذا التطور منذ أن تعرض في عام 1986 إلى غارات أميركية فقد فيها إحدى بناته بالتبني.
في أحد قصوره في مدينة البيضاء التي نقلت منها «الجزيرة» صوراً بعد استيلاء الثوار عليه، كان واضحاً أنه حفر أنفاقاً في كل اتجاه تمتّد عدة كيلومترات تحسباً لأي طارئ. ومن الطبيعي أن يكون قد فعل الشيء نفسه في طرابلس، حيث ركّز قواته المرتبطة به مصيرياً. وهو يستغلّ الفقر المدقع بين القبائل البدوية والأفريقية لتجنيد كل ما يحتاج له من مرتزقة، فالبقاء على قيد الحياة في هذه الصحراء القاسية يضطر الإنسان إلى سلوك تصرفات في غاية القساوة. آلاف السكان يموتون سنوياً في الصحراء لمجرد غياب الخبرة بطرقها التي سرعان ما تغطيها الرمال بعد كل عاصفة. لذا فإن التناحر بين القبائل لا يقوم فقط على الأنساب والأصول، بل على سيطرة القبائل التي ترعى في معظمها الإبل في مناطق الكلأ وآبار المياه. وخليفة القذافي قد يواجه في مثل هذه الظروف تحدياً صعباً إذا حاول بسط السيطرة على باقي أنحاء ليبيا. النفط يوحّد ليبيا، لكن النفط نفسه قد يقسمها في حال غياب الإجماع الشعبي على مضمون النظام الجديد. والمؤكد أن الليبيين بكافة قبائلهم يكرهون المستعمر والتدخل الخارجي بكل أشكاله. فذكرى الاستعمار الإيطالي لم تنمح من أذهانهم بعد.