وعبر الثوار فتيانا مذهولين فوق شاحناتهم السريعة من عنف الضربة، وتأملوا عن بعد جثث عشرين جنديا ليبيا احترقت بالكامل، وسط عشرات من السيارات العسكرية، كانت النيران تنهي فيها بتمهل وعناية، ما كانت القنابل الفرنسية قد بادرت إليه عصر أمس الأول.
وبدا المشهد كأن طائرات «فجر الأوديسه» الفرنسية قد أغارت في ساعة الاستراحة للكتيبة، على الأرجح، عصرا، لتبعثر عشرات الأشلاء المحترقة حول الدبابات من دون ان يعثر على جثث كثيرة داخلها. فاجأ طواقمها سعير القنابل، فتكومت أجساد الجنود مومياءات متفحمة في أوضاع اللحظات الأخيرة ما قبل الموت. ولم يتوقف الثوار لتفقد جثث أخرى لجنود كتيبة الساعدي وسط برك الدماء .
لم يكن محمد وحده يحتفل بالعودة إلى «قمينس»، القرية الصغيرة التي تقف على بعد خمسين كيلومترا من بنغازي. لم يجد المستطلعون من يقاتلهم على الطريق إلى اجدابيا. وقال ثوار عادوا من دورية متقدمة إن الدبابات الناجية من الهجوم أعادت تنظيم صفوفها على حاجز سيدي عبد العاطي، على بعد مئة وعشرين كيلومترا من بنغازي في الطريق نحو اجدابيا. لم ينتظر رتل من شاحنات الـ«ميتسوبيتشي»، شاحنة الثوار في الرمال الصحراوية الليبية، وتقدم هؤلاء بأكثر ما أمكن من سرعة، وخلفه رهط من الفضوليين والإعلاميين، والكثير من الراقصين في هذه الساعة التي بدت فيها بنغازي كأنها تخرج من كابوسها الذي كان قبل ساعات يحاول الإطباق عليها، في محاولة أخيرة للقضاء على الثورة واقتحام بنغازي.
ومع هبوط المساء التقت دوريات الثوار اول الخارجين من حصار اجدابيا، الذين قالوا إنهم لم يصادفوا أيا من عناصر الكتائب الأمنية، الذين انسحبوا من المدينة نحو الطريق الساحلية الشمالية المؤدية إلى البريقة.
ومنذ هزيمة السبت امام المدخل الغربي لمدينة بنغازي، فقد الرئيس الليبي فرصته الأخيرة، في الدخول إلى معقل الثورة، وتصفية حساباته مع الثوار في المدينة.
وبالغ الرئيس الليبي على الأرجح في تقييم قدرات كتائبه الأمنية التي يقودها أبناؤه على تحقيق انتصار سريع في بنغازي بعدما تمددت بسرعة خاطفة على مسافة 350 كيلومتراً، خلال أيام، من بن جواد إلى راس لانوف فالبريقة واجدابيا، جارفة بدباباتها شاحنات الثوار الخفيفة وسواترهم الترابية المتهالكة مدينة تلو أخرى .
وتحت ضغط السباق إلى بنغازي مع طائرات القرار 1973 الفرنسية والأميركية، لتحقيق انتصار لا بد منه، راهن القذافي أكثر مما ينبغي على الفوضى التي تسود صفوف الثوار، وانعدام التنسيق في صفوفهم، وافتقارهم الصارخ للحد الأدنى من القيادة. ولكن شجاعتهم وبسالتهم المدهشة، واستمرار إقبال المئات منهم على التطوع والصعود إلى الجبهة رغم ضراوة الهجوم جعلت اختراق خط الدفاع الأخير عن بنغازي امرا صعبا جدا امام جامعة قار يونس على المشارف الغربية الجنوبية المدينة.
وكان ليل الجمعة السبت شهد فصل الهجوم الأخير على بنغازي، الذي لن يتكرر في ظل القرار 1973، بعدما وضعت الطائرات الفرنسية حدا واضحا لتفوق قوات القذافي على الثوار في المدينة. واعتمدت كتائب الساعدي القذافي خطة من مرحلتين: هجوم بالدبابات والمدفعية وقصف صاروخي بالـ«غراد» الكثيف من محور واحد على المدخل الغربي للمدينة لجهة اجدابيا، والإيعاز إلى خلايا اللجان الثورية النائمة، وبقايا الأمن الوطني في المدينة، بزعزعة خطوط الثوار ونشر الفوضى وإطلاق النار في الشوارع.
ومساءً تقدمت الدبابات من اجدابيا، ملتفة على ما تبقى من الثوار فيها، وقطعت خلال ساعات قليلة مسافة مئة وعشرين كيلومترا دفعة واحدة، من دون ان يتسنى لقوات الثوار مواجهتها في ارض صحراوية مكشوفة. وكان لا بد من انتظار وصولها فجرا إلى الأحياء الغربية المأهولة لخوض المعارك معها.
واستخدم المهاجمون في تقدمهم سيارات مشابهة لسيارات الثوار السريعة. وكان الكثيرون يرتدون ملابس مدنية. وروى شهود عيان لـ«السفير» ان المهاجمين كانوا يقومون بإعدام ركاب السيارات المدنية التي كانت تصادفهم في الطريق.
وفي مدرسة «الفجر الجديد»، في شارع الحجاز في قلب المدينة، كان العشرات من خلايا اللجان الثورية، قد تجمعوا علنا خلال الهجوم، وانطلقوا في سياراتهم في الشوارع، وباشروا إطلاق الرصاص على دوريات الثوار. وكانت سيارات أخرى تدعو الأهالي إلى استقبال الجيش الليبي العائد إلى المدينة بالتظاهرات، فيما كانت صواريخ هذا الجيش تبث الذعر والموت في الأحياء الشعبية.
وانتشر المئات من الثوار والأهالي المسلحين في الشوارع كافة، ونصبت العشرات من الحواجز داخل المدينة، وجرت عمليات مطاردة واعتقال وقتل واسعة في الأحياء المتاخمة خصوصا للمداخل الغربية لبنغازي، استمرت يوم أمس، وأدت إلى اعتقال عقيد من كتيبة الساعدي وعناصر منها دخلوا المدينة فقدوا الاتصال بقيادتهم.
وشهدت الطرق المؤدية إلى مدن البيضاء ودرنة والمرج موجة نزوح من المدينة، واكبها وصول قوافل كبيرة من سكان اجدابيا، الذين استطاعوا الخروج ليلا من المدينة، عبر الطرق الصحراوية. وكانت المدينة قد شهدت حملة اعتقالات متأخرة من قبل أعضاء اللجان الثورية المؤيدة للقذافي، ومسؤولي أجهزته الأمنية، الذين كانوا لا يزالون يختبئون في المدينة.
ودفعت الثوار ممن لا خبرة أمنية لهم تهديدات القذافي بأخذ المدينة من الداخل إلى ارتجال حملة اعتقالات «اعتمدت في تنفيذها على معلومات المواطنين في المدينة لأننا لسنا بعسكريين، وأكثرنا أكاديمي أو رجل أعمال أو دارس لا خبرة له في قضايا التجسس»، بحسب ما قالت الدكتورة ايمان استاذة الحقوق في قار يونس، موضحة أنه في مدينة من 700 ألف نسمة قادتها اللجان طيلة أربعة عقود «اعتقلنا 35 شخصا في الساعات الأخيرة فقط، وبحوزتهم أسلحة، ومبالغ نقدية كبيرة، من بينهم احمد السنوسي الوزري، قائد امن المنطقة الشرقية».
الشاب الممدد بين القذائف الفارغة لا يبدو عليه الموت. نعاس ثقيل يطوي ملامح وجه عشريني، وبقعة دم كبيرة تتوسط الصدر، الذي توقف نزفه. السائل اللزج ظل ينز من الثنايا الحديدية لمنصة الشاحنة المسلحة بمدفع مضاد للطائرات، واندفع متدفقا عندما توقف بجنون عند حاجز جامعة قار يونس، استراحة الثوار الأخيرة قرب بنغازي، قبل التوجه إلى سيدي بو العاطي حيث تمركز رتل دبابات الكتائب الأمنية في الطريق إلى اجدابيا.
«لم يصعد إلى الباخرة الأميركية في ميناء بنغازي قبل أسبوعين»، روى السائق لصديقه، متذكرا فيما كانت الله اكبر رامي المدفع المرتعب والمشدوه من حمولة الموت عند قدميه، تدوي بهلع خلع صدور الشبان الذين تحلقوا لتحسس موت رفيقهم الليبي الأميركي المتطوع فأرسلوا نظرات من يختبر موته في الجسد المضرج الملقى على ظهره بطمأنينة ودون حراك. لم يمض على وصوله ارض المعركة اكثر من يومين، قال السائق، «توسلت إليه والدته الأميركية في ميناء بنغازي ان يصعد السلم وإياها إلى أريزونا، لكنه أبى. والده الذي عاد من المنفى الأميركي حول باص العائلة إلى سيارة إسعاف وتموين».
يتحصن الثوار بفروع أشجار الكينا المتطاولة على جانبي الطريق السريع. وتدوي على بعد بضعة كيلومترات مدافع الدبابات التي عبرت الصحراء من الجنوب، حيث لم ينتظرها احد لتلتف على ثوار اجدابيا أملا بفتح الطريق في 48 ساعة كما توعد سيف الإسلام القذافي البنغازيين. فعند ميناء الصيادين في زويتينا، لا تزال الدبابات تراوح مكانها في القرية التي تقع على المدخل الشرق للمدينة، من دون ان تتمكن من التقدم مترا واحدا في رمال الصحراء التي تحيط بالطريق السريع. وخلال ساعات, كانت الشاحنات السريعة توالي صعودها من بنغازي نحو قمينس، لتدوي «الله اكبر» في المكان كلما وصلت مجموعة جديدة .
وللمرة الأولى منذ اندلاع الثورة قبل شهر، وبفضل «فجر الأدويسه»، خرج قادة الثورة علنا إلى مؤيديهم. وألقى رئيس أركان الجيش الليبي الوطني عبد الفتاح يونس كلمة في صلاة الجماعة عشاءً في ساحة التحرير، من دون حماية أمنية مكثفة. وخرج خليفة حفتر من عزلته، احد أبطال معارك شريط أوزو المتنازع عليه مع تشاد، برغم وصوله منذ ثلاثة أيام إلى بنغازي ليظهر في مؤتمر صحافي في المدينة معلنا انضمامه إلى الثوار، الذين اختاروه في منصب قائد جيش التحرير، وهو منصب شرفي، لإرضاء الرجل الذي يحترمه الليبيون بسبب سجله العسكري الناصع في الحرب التشادية الليبية.
وبفضل القرار الدولي، تنعم بنغازي بسماء من دون طائرات منذ 3 أيام، ومن دون راجمات صواريخ منذ 24 ساعة، لكن ذلك لا يعني كف الثوار عن استخدام مدافع المضادات للطائرات من وقت إلى آخر لأسباب احتفالية. وينتظر المجلس الوطني استمرار تطبيق القرار في الساعات المقبلة وقيام الأوروبيين بتوجيه ضربات جوية لا بد منها، لا سيما في مصراتة والزنتان ونالوت ويفرن، والاستعجال بضرب الكتائب المحاصرة لها.
ويأتي القرار الدولي في أحرج اللحظات لقوات الرئيس القذافي وكتائبه الأمنية، فخلال سباقه مع «فجر الأوديسه» إلى بنغازي، ارتكب النظام أخطاء استراتيجية قاتلة سيدفع ثمنها غاليا في الأيام المقبلة، وكان مجرد غارة قام به سرب فرنسي أدى إلى إرجاعه مئة كيلومتر أكثر دفعة واحدة بعيدا عن بنغازي المنشودة. إذ لجأ القذافي إلى التمدد في المدن الثائرة على جبهة تمتد أكثر من ألف كيلومتر، من زوارة غربا حتى مشارف بنغازي شرقا. ولن يكون بوسع قواته تأمين خطوط المواصلات إليها التي ستكون تحت رحمة الطائرات الغربية خلال الساعات المقبلة. كما انه سيعجز عن توفير التموين اللوجستي من دون غطاء جوي، ولا حماية الاتصال بها في ظل التهديد بتعرضها لغارات دولية. وتنتشر حول المدن المحاصرة ألويته الأساسيةى الـ 37 والـ 32، وهي خيرة القوات التي يعتمد عليها في الدفاع عن نظامه بإشراف أبنائه خميس، الساعدي، والمعتصم وهنبيعل وعز العرب، والمخلصين له من القذاذفة. والمأزق أنه لن تسمح له اي تسوية سياسية بالابقاء على قواته على الخطوط التي وصلت اليها.
ويقف الرئيس القذافي امام خيارين مصيريين احلاهما مر، إذ يؤدي الإبقاء على كتائبه الامنية في مواقعها الحالية إلى تحويلها إلى اهداف سهلة للغارات الجوية الدولية التي ستعمل على قصم العمود الفقري لقواته، ولا سيما كتائب الدبابات التي تضم ما يقارب 700 دبابة صالحة للقتال، فضلا عن ضرب رادراته وشبكات الاتصال، وإعماء اركان حربه، ومنع التنسيق بينها بالحرب الالكترونية. كما ان الخيار الآخر بسحبها سيعلن بداية النهاية، وسقوط المدن الواحدة تلو الأخرى في ايدي الثوار خلال ايام، بعد رفع الحصار عنها، وتشجيع المدن المترددة على حسم امرها والاقدام على الثورة في طرابلس نفسها.
ولن يصمد طويلا سرب طائراته المقاتلة التي لا يتجاوز الصالح منها للقتال العشرين مقاتلة. كما ان تحريك بطاريات صواريخ الدفاع الجوي باتجاه المدن التي تنتشر فيها قواته سيحرم طرابلس من الحماية الضرورية، وهي معقله الاخير ورأس أولوياته الاستراتيجية وخط انسحابه الاخير السياسي، اذا ما اضطر إلى التحصن في العاصمة وباب العزيزية .
وتتعدى مفاعيل «فجر الاوديسه» العمليات العسكرية نفسها وما ستقوم به من تدمير العمود الفقري للقوات الموالية للرئيس القذافي إلى مفاعيل سياسية ونفسية اخرى يراهن الكثيرون عليها في تسريع العد التنازلي لإنهاء حكم الرئيس معمر القذافي.
ويبدي المجلس الانتقالي مرونة واضحة في التعامل مع القرار الدولي ومتطلباته السيادية، واشتراطه الا يكون التدخل بريا وان يقتصر على الضربات الجوية. لكن ذلك كان قبل وصول قوات القذافي إلى مشارف بنغازي .»سنقوم بما يتطلبه الأمر منا، وما تفرضه علينا مصالح شعبنا»، قال المتحدث باسم الحكومة الانتقالية عبد الحفيظ غوقه. ولم يستبعد المتحدث باسم عسكر الثورة خالد السائح تقديم تسهيلات لوجستية ووقود للطائرات الدولية في مطارات وقواعد المناطق المحررة، «لكن احدا لم يطلب منا شيئا حتى الآن، كما ان احداً من حلف شمال الاطلسي او الدول الاوروبية او العربية لم يتصل بنا حتى الان».
هل سلمتم لائحة بالأهداف التي تتمنون ان تضرب؟ يجيب غوقة «لا.. لا حاجة لذلك، لكن نتمنى ان ينفذ الغربيون مضمون القرار بضرب تجمعات الكتائب الأمنية ودباباتها حول مدن مصراتة وزوارة واجدابيا والزاوية ونالوت ويفرن، وعندها سيكون القتال سهلا من رجل إلى رجل، وتثور بعدها طرابلس وينتهي القذافي»... هكذا يأمل من دون أي مخاطرة بالقول متى.
وبدا المشهد كأن طائرات «فجر الأوديسه» الفرنسية قد أغارت في ساعة الاستراحة للكتيبة، على الأرجح، عصرا، لتبعثر عشرات الأشلاء المحترقة حول الدبابات من دون ان يعثر على جثث كثيرة داخلها. فاجأ طواقمها سعير القنابل، فتكومت أجساد الجنود مومياءات متفحمة في أوضاع اللحظات الأخيرة ما قبل الموت. ولم يتوقف الثوار لتفقد جثث أخرى لجنود كتيبة الساعدي وسط برك الدماء .
لم يكن محمد وحده يحتفل بالعودة إلى «قمينس»، القرية الصغيرة التي تقف على بعد خمسين كيلومترا من بنغازي. لم يجد المستطلعون من يقاتلهم على الطريق إلى اجدابيا. وقال ثوار عادوا من دورية متقدمة إن الدبابات الناجية من الهجوم أعادت تنظيم صفوفها على حاجز سيدي عبد العاطي، على بعد مئة وعشرين كيلومترا من بنغازي في الطريق نحو اجدابيا. لم ينتظر رتل من شاحنات الـ«ميتسوبيتشي»، شاحنة الثوار في الرمال الصحراوية الليبية، وتقدم هؤلاء بأكثر ما أمكن من سرعة، وخلفه رهط من الفضوليين والإعلاميين، والكثير من الراقصين في هذه الساعة التي بدت فيها بنغازي كأنها تخرج من كابوسها الذي كان قبل ساعات يحاول الإطباق عليها، في محاولة أخيرة للقضاء على الثورة واقتحام بنغازي.
ومع هبوط المساء التقت دوريات الثوار اول الخارجين من حصار اجدابيا، الذين قالوا إنهم لم يصادفوا أيا من عناصر الكتائب الأمنية، الذين انسحبوا من المدينة نحو الطريق الساحلية الشمالية المؤدية إلى البريقة.
ومنذ هزيمة السبت امام المدخل الغربي لمدينة بنغازي، فقد الرئيس الليبي فرصته الأخيرة، في الدخول إلى معقل الثورة، وتصفية حساباته مع الثوار في المدينة.
وبالغ الرئيس الليبي على الأرجح في تقييم قدرات كتائبه الأمنية التي يقودها أبناؤه على تحقيق انتصار سريع في بنغازي بعدما تمددت بسرعة خاطفة على مسافة 350 كيلومتراً، خلال أيام، من بن جواد إلى راس لانوف فالبريقة واجدابيا، جارفة بدباباتها شاحنات الثوار الخفيفة وسواترهم الترابية المتهالكة مدينة تلو أخرى .
وتحت ضغط السباق إلى بنغازي مع طائرات القرار 1973 الفرنسية والأميركية، لتحقيق انتصار لا بد منه، راهن القذافي أكثر مما ينبغي على الفوضى التي تسود صفوف الثوار، وانعدام التنسيق في صفوفهم، وافتقارهم الصارخ للحد الأدنى من القيادة. ولكن شجاعتهم وبسالتهم المدهشة، واستمرار إقبال المئات منهم على التطوع والصعود إلى الجبهة رغم ضراوة الهجوم جعلت اختراق خط الدفاع الأخير عن بنغازي امرا صعبا جدا امام جامعة قار يونس على المشارف الغربية الجنوبية المدينة.
وكان ليل الجمعة السبت شهد فصل الهجوم الأخير على بنغازي، الذي لن يتكرر في ظل القرار 1973، بعدما وضعت الطائرات الفرنسية حدا واضحا لتفوق قوات القذافي على الثوار في المدينة. واعتمدت كتائب الساعدي القذافي خطة من مرحلتين: هجوم بالدبابات والمدفعية وقصف صاروخي بالـ«غراد» الكثيف من محور واحد على المدخل الغربي للمدينة لجهة اجدابيا، والإيعاز إلى خلايا اللجان الثورية النائمة، وبقايا الأمن الوطني في المدينة، بزعزعة خطوط الثوار ونشر الفوضى وإطلاق النار في الشوارع.
ومساءً تقدمت الدبابات من اجدابيا، ملتفة على ما تبقى من الثوار فيها، وقطعت خلال ساعات قليلة مسافة مئة وعشرين كيلومترا دفعة واحدة، من دون ان يتسنى لقوات الثوار مواجهتها في ارض صحراوية مكشوفة. وكان لا بد من انتظار وصولها فجرا إلى الأحياء الغربية المأهولة لخوض المعارك معها.
واستخدم المهاجمون في تقدمهم سيارات مشابهة لسيارات الثوار السريعة. وكان الكثيرون يرتدون ملابس مدنية. وروى شهود عيان لـ«السفير» ان المهاجمين كانوا يقومون بإعدام ركاب السيارات المدنية التي كانت تصادفهم في الطريق.
وفي مدرسة «الفجر الجديد»، في شارع الحجاز في قلب المدينة، كان العشرات من خلايا اللجان الثورية، قد تجمعوا علنا خلال الهجوم، وانطلقوا في سياراتهم في الشوارع، وباشروا إطلاق الرصاص على دوريات الثوار. وكانت سيارات أخرى تدعو الأهالي إلى استقبال الجيش الليبي العائد إلى المدينة بالتظاهرات، فيما كانت صواريخ هذا الجيش تبث الذعر والموت في الأحياء الشعبية.
وانتشر المئات من الثوار والأهالي المسلحين في الشوارع كافة، ونصبت العشرات من الحواجز داخل المدينة، وجرت عمليات مطاردة واعتقال وقتل واسعة في الأحياء المتاخمة خصوصا للمداخل الغربية لبنغازي، استمرت يوم أمس، وأدت إلى اعتقال عقيد من كتيبة الساعدي وعناصر منها دخلوا المدينة فقدوا الاتصال بقيادتهم.
وشهدت الطرق المؤدية إلى مدن البيضاء ودرنة والمرج موجة نزوح من المدينة، واكبها وصول قوافل كبيرة من سكان اجدابيا، الذين استطاعوا الخروج ليلا من المدينة، عبر الطرق الصحراوية. وكانت المدينة قد شهدت حملة اعتقالات متأخرة من قبل أعضاء اللجان الثورية المؤيدة للقذافي، ومسؤولي أجهزته الأمنية، الذين كانوا لا يزالون يختبئون في المدينة.
ودفعت الثوار ممن لا خبرة أمنية لهم تهديدات القذافي بأخذ المدينة من الداخل إلى ارتجال حملة اعتقالات «اعتمدت في تنفيذها على معلومات المواطنين في المدينة لأننا لسنا بعسكريين، وأكثرنا أكاديمي أو رجل أعمال أو دارس لا خبرة له في قضايا التجسس»، بحسب ما قالت الدكتورة ايمان استاذة الحقوق في قار يونس، موضحة أنه في مدينة من 700 ألف نسمة قادتها اللجان طيلة أربعة عقود «اعتقلنا 35 شخصا في الساعات الأخيرة فقط، وبحوزتهم أسلحة، ومبالغ نقدية كبيرة، من بينهم احمد السنوسي الوزري، قائد امن المنطقة الشرقية».
الشاب الممدد بين القذائف الفارغة لا يبدو عليه الموت. نعاس ثقيل يطوي ملامح وجه عشريني، وبقعة دم كبيرة تتوسط الصدر، الذي توقف نزفه. السائل اللزج ظل ينز من الثنايا الحديدية لمنصة الشاحنة المسلحة بمدفع مضاد للطائرات، واندفع متدفقا عندما توقف بجنون عند حاجز جامعة قار يونس، استراحة الثوار الأخيرة قرب بنغازي، قبل التوجه إلى سيدي بو العاطي حيث تمركز رتل دبابات الكتائب الأمنية في الطريق إلى اجدابيا.
«لم يصعد إلى الباخرة الأميركية في ميناء بنغازي قبل أسبوعين»، روى السائق لصديقه، متذكرا فيما كانت الله اكبر رامي المدفع المرتعب والمشدوه من حمولة الموت عند قدميه، تدوي بهلع خلع صدور الشبان الذين تحلقوا لتحسس موت رفيقهم الليبي الأميركي المتطوع فأرسلوا نظرات من يختبر موته في الجسد المضرج الملقى على ظهره بطمأنينة ودون حراك. لم يمض على وصوله ارض المعركة اكثر من يومين، قال السائق، «توسلت إليه والدته الأميركية في ميناء بنغازي ان يصعد السلم وإياها إلى أريزونا، لكنه أبى. والده الذي عاد من المنفى الأميركي حول باص العائلة إلى سيارة إسعاف وتموين».
يتحصن الثوار بفروع أشجار الكينا المتطاولة على جانبي الطريق السريع. وتدوي على بعد بضعة كيلومترات مدافع الدبابات التي عبرت الصحراء من الجنوب، حيث لم ينتظرها احد لتلتف على ثوار اجدابيا أملا بفتح الطريق في 48 ساعة كما توعد سيف الإسلام القذافي البنغازيين. فعند ميناء الصيادين في زويتينا، لا تزال الدبابات تراوح مكانها في القرية التي تقع على المدخل الشرق للمدينة، من دون ان تتمكن من التقدم مترا واحدا في رمال الصحراء التي تحيط بالطريق السريع. وخلال ساعات, كانت الشاحنات السريعة توالي صعودها من بنغازي نحو قمينس، لتدوي «الله اكبر» في المكان كلما وصلت مجموعة جديدة .
وللمرة الأولى منذ اندلاع الثورة قبل شهر، وبفضل «فجر الأدويسه»، خرج قادة الثورة علنا إلى مؤيديهم. وألقى رئيس أركان الجيش الليبي الوطني عبد الفتاح يونس كلمة في صلاة الجماعة عشاءً في ساحة التحرير، من دون حماية أمنية مكثفة. وخرج خليفة حفتر من عزلته، احد أبطال معارك شريط أوزو المتنازع عليه مع تشاد، برغم وصوله منذ ثلاثة أيام إلى بنغازي ليظهر في مؤتمر صحافي في المدينة معلنا انضمامه إلى الثوار، الذين اختاروه في منصب قائد جيش التحرير، وهو منصب شرفي، لإرضاء الرجل الذي يحترمه الليبيون بسبب سجله العسكري الناصع في الحرب التشادية الليبية.
وبفضل القرار الدولي، تنعم بنغازي بسماء من دون طائرات منذ 3 أيام، ومن دون راجمات صواريخ منذ 24 ساعة، لكن ذلك لا يعني كف الثوار عن استخدام مدافع المضادات للطائرات من وقت إلى آخر لأسباب احتفالية. وينتظر المجلس الوطني استمرار تطبيق القرار في الساعات المقبلة وقيام الأوروبيين بتوجيه ضربات جوية لا بد منها، لا سيما في مصراتة والزنتان ونالوت ويفرن، والاستعجال بضرب الكتائب المحاصرة لها.
ويأتي القرار الدولي في أحرج اللحظات لقوات الرئيس القذافي وكتائبه الأمنية، فخلال سباقه مع «فجر الأوديسه» إلى بنغازي، ارتكب النظام أخطاء استراتيجية قاتلة سيدفع ثمنها غاليا في الأيام المقبلة، وكان مجرد غارة قام به سرب فرنسي أدى إلى إرجاعه مئة كيلومتر أكثر دفعة واحدة بعيدا عن بنغازي المنشودة. إذ لجأ القذافي إلى التمدد في المدن الثائرة على جبهة تمتد أكثر من ألف كيلومتر، من زوارة غربا حتى مشارف بنغازي شرقا. ولن يكون بوسع قواته تأمين خطوط المواصلات إليها التي ستكون تحت رحمة الطائرات الغربية خلال الساعات المقبلة. كما انه سيعجز عن توفير التموين اللوجستي من دون غطاء جوي، ولا حماية الاتصال بها في ظل التهديد بتعرضها لغارات دولية. وتنتشر حول المدن المحاصرة ألويته الأساسيةى الـ 37 والـ 32، وهي خيرة القوات التي يعتمد عليها في الدفاع عن نظامه بإشراف أبنائه خميس، الساعدي، والمعتصم وهنبيعل وعز العرب، والمخلصين له من القذاذفة. والمأزق أنه لن تسمح له اي تسوية سياسية بالابقاء على قواته على الخطوط التي وصلت اليها.
ويقف الرئيس القذافي امام خيارين مصيريين احلاهما مر، إذ يؤدي الإبقاء على كتائبه الامنية في مواقعها الحالية إلى تحويلها إلى اهداف سهلة للغارات الجوية الدولية التي ستعمل على قصم العمود الفقري لقواته، ولا سيما كتائب الدبابات التي تضم ما يقارب 700 دبابة صالحة للقتال، فضلا عن ضرب رادراته وشبكات الاتصال، وإعماء اركان حربه، ومنع التنسيق بينها بالحرب الالكترونية. كما ان الخيار الآخر بسحبها سيعلن بداية النهاية، وسقوط المدن الواحدة تلو الأخرى في ايدي الثوار خلال ايام، بعد رفع الحصار عنها، وتشجيع المدن المترددة على حسم امرها والاقدام على الثورة في طرابلس نفسها.
ولن يصمد طويلا سرب طائراته المقاتلة التي لا يتجاوز الصالح منها للقتال العشرين مقاتلة. كما ان تحريك بطاريات صواريخ الدفاع الجوي باتجاه المدن التي تنتشر فيها قواته سيحرم طرابلس من الحماية الضرورية، وهي معقله الاخير ورأس أولوياته الاستراتيجية وخط انسحابه الاخير السياسي، اذا ما اضطر إلى التحصن في العاصمة وباب العزيزية .
وتتعدى مفاعيل «فجر الاوديسه» العمليات العسكرية نفسها وما ستقوم به من تدمير العمود الفقري للقوات الموالية للرئيس القذافي إلى مفاعيل سياسية ونفسية اخرى يراهن الكثيرون عليها في تسريع العد التنازلي لإنهاء حكم الرئيس معمر القذافي.
ويبدي المجلس الانتقالي مرونة واضحة في التعامل مع القرار الدولي ومتطلباته السيادية، واشتراطه الا يكون التدخل بريا وان يقتصر على الضربات الجوية. لكن ذلك كان قبل وصول قوات القذافي إلى مشارف بنغازي .»سنقوم بما يتطلبه الأمر منا، وما تفرضه علينا مصالح شعبنا»، قال المتحدث باسم الحكومة الانتقالية عبد الحفيظ غوقه. ولم يستبعد المتحدث باسم عسكر الثورة خالد السائح تقديم تسهيلات لوجستية ووقود للطائرات الدولية في مطارات وقواعد المناطق المحررة، «لكن احدا لم يطلب منا شيئا حتى الآن، كما ان احداً من حلف شمال الاطلسي او الدول الاوروبية او العربية لم يتصل بنا حتى الان».
هل سلمتم لائحة بالأهداف التي تتمنون ان تضرب؟ يجيب غوقة «لا.. لا حاجة لذلك، لكن نتمنى ان ينفذ الغربيون مضمون القرار بضرب تجمعات الكتائب الأمنية ودباباتها حول مدن مصراتة وزوارة واجدابيا والزاوية ونالوت ويفرن، وعندها سيكون القتال سهلا من رجل إلى رجل، وتثور بعدها طرابلس وينتهي القذافي»... هكذا يأمل من دون أي مخاطرة بالقول متى.