في الرسالة التي وجدت على مقربة من الجثة التي تدلت في فضاء الغرفة أمس الأول، ورأسها يترنح ذات اليمين وذات الشمال، كتب نبيل زغيب، وكان خمسينياً، يقول: «يا ربّ، سامحني على هذا العمل المحرّم. يا رب، لم يعد في اليد حيلة. ليس لي مهنة تسدي لي جوع أولادي، وليس لي مسكن. يا رب، ضعفت حيلتي، ولم أقو على إعالة عائلتي. يا رب، سامحني».
وإلى أحبائه توجه مودّعاً: «سامحوني. فأنا ضعيف. سامحوني، فمن يقدم على الانتحار ليس إلا ضعيفاً. إنها شيم الضعفاء. سلامي إلى ابنتي ديانا، وابنيها محمد وإبراهيم».
وخطّ، في الختام، سطوراً موجهة لرجل دين، له صورة معلّقة على الجدار في المنزل المفجوع، تقول: «أرجو من سماحتكم إسداء طلب خاص: ثمة ثلاثة شبان عاطلون عن العمل. ثلاثة شبان لم توفقني الحياة بإعالتهم. وشكراً».
بعدها، رفع الملاءة البيضاء في فضاء الغرفة، وأحكم الوثاق حول يديه وقدميه كي لا يعود عن قرار يتخذه للمرة الثانية.
لمّا دخل ابنه إلى الغرفة، وجد جثة الرجل الذي بلا عماد أو سند، وقد نجح هذه المرة في قتل نفسه، في قتل فقره وعوزه. «لم يقتل نفسه»، قال الإبن، «ساسة لبنان هم من قتله. قسوة قلوبهم، وعظمة جنونهم، وحبهم لذواتهم، هي التي أحكمت شدّ الملاءة البيضاء ولفّها حول عنقه».
بعدها، تحوّل الرجل إلى جثة معلقة في فضاء غرفة. جثة أب لأولاد أربعة، ثلاثة شبان منهم عاطلون عن العمل.
جثة ساهم في قتلها كل أمير طائفة. جثة أعدمها كل رئيس ووزير ونائب. جثة كان صاحبها، ذو الشعر الخفيف الأشيب والقامة الطويلة، يقابل فلذات كبده بالدموع قائلاً: «لقد أغلقت الدنيا أبوابها في وجهي. طرقت أبواب الجميع، لكنها بقيت موصدة».
رحل الرجل الذي طُرد، قبل خمس سنوات، من وظيفته في أحد المطاعم، بسبب الطائفة المدوّنة على سجل قيده. رحل الرجل الذي ضاقت به الدنيا حتى حمل جسده إلى العراق، تاركاً ابنه العليل، قبل أن يعود خالي الوفاض، مكسوراً، إلى حيث كان: لا طعام، ولا مسكن، ولا ملبس. أبواب موصدة.
رحل الرجل الذي ودّع، قبل موته بأسبوعين، ابنه زاهد، قائلاً: «الفقر في الوطن.. غربة». رحل نبيل زغيب، لينام، بهدوء، إلى جانب محمد البوعزيزي، وفراس حيدر، وخالد سعيد، وحسين زعتر...
رحل نبيل زغيب. هو لم يشعل النار في جسده النحيل، لينتفض أهل بلده على طغاتهم، بل أراد لموته أن ينام معه، بهدوء، كأنه يعرف بأن بلاده لا تشبه تلك البلاد. هو يدرك بأن موته ليس كموت البوعزيزي، أو خالد سعيد.
موتٌ أبكم، ذو صدى لا صوت له، أصمّ، وعيون لا ترى في موت الفقير إلا الانتحار. عيون لا ترى، لن تفتح أهدابها بغتةً.
جثة معلّقة في غرفة.
وإلى أحبائه توجه مودّعاً: «سامحوني. فأنا ضعيف. سامحوني، فمن يقدم على الانتحار ليس إلا ضعيفاً. إنها شيم الضعفاء. سلامي إلى ابنتي ديانا، وابنيها محمد وإبراهيم».
وخطّ، في الختام، سطوراً موجهة لرجل دين، له صورة معلّقة على الجدار في المنزل المفجوع، تقول: «أرجو من سماحتكم إسداء طلب خاص: ثمة ثلاثة شبان عاطلون عن العمل. ثلاثة شبان لم توفقني الحياة بإعالتهم. وشكراً».
بعدها، رفع الملاءة البيضاء في فضاء الغرفة، وأحكم الوثاق حول يديه وقدميه كي لا يعود عن قرار يتخذه للمرة الثانية.
لمّا دخل ابنه إلى الغرفة، وجد جثة الرجل الذي بلا عماد أو سند، وقد نجح هذه المرة في قتل نفسه، في قتل فقره وعوزه. «لم يقتل نفسه»، قال الإبن، «ساسة لبنان هم من قتله. قسوة قلوبهم، وعظمة جنونهم، وحبهم لذواتهم، هي التي أحكمت شدّ الملاءة البيضاء ولفّها حول عنقه».
بعدها، تحوّل الرجل إلى جثة معلقة في فضاء غرفة. جثة أب لأولاد أربعة، ثلاثة شبان منهم عاطلون عن العمل.
جثة ساهم في قتلها كل أمير طائفة. جثة أعدمها كل رئيس ووزير ونائب. جثة كان صاحبها، ذو الشعر الخفيف الأشيب والقامة الطويلة، يقابل فلذات كبده بالدموع قائلاً: «لقد أغلقت الدنيا أبوابها في وجهي. طرقت أبواب الجميع، لكنها بقيت موصدة».
رحل الرجل الذي طُرد، قبل خمس سنوات، من وظيفته في أحد المطاعم، بسبب الطائفة المدوّنة على سجل قيده. رحل الرجل الذي ضاقت به الدنيا حتى حمل جسده إلى العراق، تاركاً ابنه العليل، قبل أن يعود خالي الوفاض، مكسوراً، إلى حيث كان: لا طعام، ولا مسكن، ولا ملبس. أبواب موصدة.
رحل الرجل الذي ودّع، قبل موته بأسبوعين، ابنه زاهد، قائلاً: «الفقر في الوطن.. غربة». رحل نبيل زغيب، لينام، بهدوء، إلى جانب محمد البوعزيزي، وفراس حيدر، وخالد سعيد، وحسين زعتر...
رحل نبيل زغيب. هو لم يشعل النار في جسده النحيل، لينتفض أهل بلده على طغاتهم، بل أراد لموته أن ينام معه، بهدوء، كأنه يعرف بأن بلاده لا تشبه تلك البلاد. هو يدرك بأن موته ليس كموت البوعزيزي، أو خالد سعيد.
موتٌ أبكم، ذو صدى لا صوت له، أصمّ، وعيون لا ترى في موت الفقير إلا الانتحار. عيون لا ترى، لن تفتح أهدابها بغتةً.
جثة معلّقة في غرفة.