عزيزتي هيلاري،
اسمحي لي، هذه المرة فقط، بمناداتك باسمك الأول متخلياً عن أصول الخطابة بيننا، لأنني، أكثر من أي وقت مضى، أشعر بالحاجة إلى الصديق أكثر من الحاجة إلى رب العمل.
أنا محبط.
لبنان لم يعد كما كان. هاتفي الذي لم يكن يكف عن الرنين، لا أسمع له صوتاً، حتى للإشعار بوصول رسالة نصية قصيرة. يلفني الإحراج وأنا مضطر، كلما اتصلت بواحد من أصدقاء الزمن الجميل، إلى الانتظار طويلاً حتى يأتي من الطرف الثاني صوت متوجس ومذهول، كأن المتصل به يحكيه من العالم الآخر.
لست ادري ماذا افعل. هؤلاء كانوا يدعون أن العلاقة معي تخطت تماماً العلاقة بين دبلوماسي وبين سياسي محلي. كنت معهم اكثر من صديق. كنت كما كاهن كنيستهم الذي يتخلصون من آثامهم بالاعتراف أمامه. كانوا، على اختلاف انتماءاتهم، معنا في ثورة الارز المجيدة، أم ضدنا، شفافين يمكن الرؤية من خلالهم. قالوا ما في قلوبهم. ووضعوا أمامي كل ما عندهم: مخاوفهم ونقاط ضعفهم وما يعتمل فيهم من حسد لبعضهم البعض، وكرههم للآخر وحقدهم عليه، وعنصريتهم اتجاهه، والتطوع لتقديم أفضل الطرق لأذيته، بل حتى التوسل إلي لأن أساعد في إيذائه.
كنت الكتف التي يبكون عليها لدى يأسهم، والاب الذي يفخرون أمامه بإنجازاتهم (معظمها من صنع خيالاتهم). كنت الأم التي يختبئون في حضنها، في لحظات رعبهم. الأم التي دللت العديد منهم، حتى باتوا عاجزين عن الانسلاخ عنها، ومواجهة واقعهم وحدهم. كان على الأم أن تغادر يوماً وأن يكبروا. ولكن هذا ما لم يفهموه.
صدقيني هيلاري، كنت كل شيء. وكنت، لمحبتي لهم، أغفر كل عاداتهم السيئة. عشقهم للثرثرة بلا طائل. حماستهم التي تقارب الطيش، ورغبتهم الدائمة في توريطي في كل مشاكلهم، مهما صغرت. ومحاولات استدراجي الدائمة. ضحالتهم وضآلة أحجامهم في عيون انفسهم. رعونتهم. وبالطبع، عدم خجلهم من أنهم بلا أي نزاهة، حيث إنهم لا يترددون في أن يقولوا في العلن عكس ما يقولونه في مجالسهم الخاصة، ولي بالذات. ولا أنسى بالطبع تلك الانانية الغريبة التي تجعل الواحد منهم مستعداً للدوس على اقرب المقربين منه كي يرتقي درج مصلحته.
كنت متسامحاً، ربما لأنهم ورطوني عاطفياً، فصرت أبرر لهم، بيني وبين نفسي، تصرفاتهم الناجمة عن انعدام فطري لإيمانهم بأي قيم. وكنت أفكر في أن هذه المساوئ هي ضريبة الانخراط في السياسة اللبنانية التي مهما كانت تافهة، لا يمكن الواحد إلا الادمان عليها. ولن تعرفي ماذا اقصد لأنك لم تعملي هنا، واشكري السماء على أي حال لأنك لم تفعلي.
أحببتهم من قلبي، هيلاري. وأنا، حين كتبت عنهم رسائلي نفسها، كتبتها بحب. كانوا، واحداً واحداً، في كل وجوههم، أبطالي الرائعين. شخوص تجاربي التي كنت أجريها كي اعرف أكثر. تلك المادة الخام التي منها يمكن تشكيل فهم عميق وموضوعي لهذا الجزء المضطرب العتيق من العالم، حيث السياسة هي كل ما ليس له علاقة بالنزاهة، وحيث هي مجرد متاهة متشابكة ومتداخلة ومتناسلة من المؤامرات.
هيلاري،
اقرب إلى رسائل الحب، منها إلى التقارير، تلك التي كتبتها وأنا أطل من الهضبة على المتوسط يتمدد امامي عابقاًَ بتاريخ هذا الشرق المسكين، وأحزانه وحكاياته. رسائل حب كانت. وها أنا ألقى مكافأتي ممن كتبت عنهم: تخلّوا عني.
سأخبرك بسري الصغير. أنا، ضمنياً، شاكرٌ «ويكيليكس» لأنه سرّب تقاريري السابقة. لولا «ويكيليكس»، لما عرف اللبنانيون أي كاتب رائع وأي دبلوماسي خطير وأي محلل نفسي وأي عاشق لوطنهم أنا، ولما عرفوا من أي قماشة هم معظم حكّامهم. ولولا هذه الوثائق أيضاً، لما كان هناك ما يسلي هذا الشعب البسيط في ايامه الخاوية بعدي. والاهم من كل ذلك، فلولا تسرّب هذه الوثائق، لما لمستُ أنا كل هذا الجحود.
الآن، كلما التقيت واحداً منهم، اعتقدت أنني التقي شبيهاً آلياً به، شبيهاً صامتا قلقا بابتسامة متكلفة وعينين تدوران في محجريهما خائفتين كأنهما تدفعان الزمن دفعاً كي يمر سريعاً. وبينما أمضي وقتي مثرثراً، يجلس الواحد منهم على قلقه، وما ان أسكت حتى يهب واقفاً ماداً يداً مرتخية في مصافحة تمر بلمح البصر، ثم يغادر وهو على وشك الهرولة.
لا تخافي «ويكيلكس» عزيزتي هيلاري. الوثيقة التي قد تُسرب هذه المرة ستقتصر على همهمة غير مفهومة تختمها عبارة يتيمة: «حسناً. إلى اللقاء».
افضل لو تسرب هذه الرسالة في المقابل، كي أثأر من الطريقة التي عاملوني بها، ناكرو الجميل هؤلاء.
يكفي الآن. يبدو أنني مشحون بالعواطف. سأقوم لأوضب أغراضي للسفر من لبنان، وأفكر بأنني لن أعود إليه في حياتي، لأنه لم يعد لدي فيه أحد، ولا حتى الحنين. سأُخرج لبنان من قلبي إلى الأبد.
أوه هيلاري. أوه هيلاري لو تدرينَ في أي حزن أنا.
جيفري