ذلك أن بعض الأجوبة تتطلب بحثاً أمنياً، وهو غير متوافر إلا عند قلة في البلاد يمكنها التدقيق في خلفية ما كان يحصل في الطبقة الثانية، وخصوصاً أنه تبين لجهات بارزة في الدولة وخارجها أن المعلومات عن وجود «شيء ما» في هذه الطبقة كانت متوافرة قبل عدة أشهر، وربما أكثر. لكن إثارة الأمر أو التصدي له بطريقة إعلامية كما يفضّل البعض، ما كان ليحقق الهدف الأساسي بأن تضع وزارة الاتصالات يدها على الملف وتحول دون تدخل أي جهة أخرى، سواء كانت من داخل الدولة أو من خارجها، لاستخدام الشبكة الثالثة لأغراض لم تُقرّها الجهات الرسمية المعنية.
وبناءً على هذا المعطى، يمكن تفسير ما بات واضحاً من «استماتة» جهة أمنية رسمية، تتبع سياسياً لفريق 14 آذار، في منع وصول وزارة الاتصالات سريعاً إلى هذه الطبقة. وكثيرون يعتقدون أنه إذا كانت هناك مخالفات جدية، فإن الأيام القليلة التي فصلت بين إثارة الملف وتولّي الجيش إدارة أمن المقر، كانت كافية لإزالة آثار عمليات التشغيل غير المصرح بها، على الرغم من أن بعض الضباط الرفيعي المستوى في فرع المعلومات، في قوى الأمن الداخلي، ينفون بشدة وجود عملية تشغيل. وعندما يُواجَهون بالمعلومات، ينفون ـــــ على الأقل ـــــ علمهم بوجود مثل هذا التشغيل. لكن ثمة إقرار على صعيد واسع داخل قوى الأمن الداخلي بأن تصرف فرع المعلومات وتصرف المدير العام لقوى الأمن الداخلي اللواء أشرف ريفي قد ترك انعكاسات سلبية على إدارة قوى الأمن، وعلى بنية قوى الأمن نفسها، حتى لو أُبعد ريفي عن موقعه الحالي.
وفي سياق المتابعة، يبدو واضحاً أن فريق «المستقبل» قرر اعتماد سياسة الأخطاء المدروسة، إذ إنّ من الصعب توقع عدم معرفة قيادة هذا الفريق بأن ما يقومون به هو خطأ، وخصوصاً أن عملية الاستيلاء على الطبقة الثانية والتمرد على قرارات السلطة السياسية، إنما جاءا على شاكلة يوم الغضب الشهير الذي حصل في طرابلس وبعض المناطق الأخرى، والذي عكس صورة سلبية جداً لهذا الفريق، بل قدمه بأسواء مما يعتقد كثيرون، ما دفع حتى الحلفاء إلى عدم تبريره أو إلى انتقاده، ولو في الغرف المغلقة.
وبعد مراكمات يوم الغضب، انتقل الفريق لكي يقود معركة دفع الرئيس نجيب ميقاتي إلى الانسحاب من مهمة تأليف الحكومة، بحجة أنه خائن، وهو يوفر الغطاء السنّي للمنقلبين من الشيعة والمسيحيين. واستخدمت كل أنواع الأسلحة في وجه الرجل، بما في ذلك أنه سيكون رئيساً لحكومة يختارها حزب الله والتيار الوطني الحر. وأمعن فريق المستقبل في ارتكاب الأخطاء، حتى دلّت نتائج غير استطلاع للرأي على أن شعبية الرئيس ميقاتي بين السنّة ارتفعت، وأنه بدا في طرابلس، مثلاً، الأول مقابل الآخرين. كذلك، رأى غالبية المستطلعين أنه لم يعرّض مقام رئاسة الحكومة للمهانة.
ثم جاءت فضيحة مقر الاتصالات قبل أيام، لتشير مرة جديدة إلى أن كل الحملات على الوزير شربل نحاس إنما قامت لتغطية جرائم أو مخالفات فظيعة للقانون، وخصوصاً أن نحاس لم يطلق عملية إصلاح جذرية داخل المؤسسة، ولم يعمد إلى إقصاء أي من المسؤولين، بمن فيهم من هو «فاتح على حساب المستقبل و 14 آذار»، وكل ما فعله هو محاولة إعادة تنظيم دورة العمل بما يبقيها في حدودها القانونية لا أكثر، ليتبيّن أن هذه العملية البديهية من جانب نحاس أو أي وزير جدّي، إنما تهدد شبكة من المصالح غير المحددة نهائياً حتى الآن، التي تأخذ شكلاً تجارياً ومالياً في مكان، وشكلاً أمنياً وسياسياً في مكان آخر.
والنتيجة أن الجمهور اللبناني عموماً لم يُسَرّ قط بالمظهر الميليشياوي الذي شاهده الناس في محيط مبنى الاتصالات في العدلية، ولم يستسغ أحد من السياسيين ولا من المواطنين طريقة تعامل اللواء ريفي مع وزيري الداخلية والاتصالات. حتى إن رئيس الجمهورية ميشال سليمان الذي «يراعي» التوازنات داخل إدارات الدولة، لم يقدر على تحمّل المشهد، وقرر الذهاب بعيداً، قبل أن يتراجع «المستقبل» ويقبل بأن يصار إلى ترك الأمر إلى الجيش وسحب قوى الأمن من هناك.
الواضح أن «المستقبل» يتصرف الآن من دون توازن. زعيمه الأبرز لديه هموم أكبر، وقياداته المنتشر بعضها داخل مؤسسات الدولة وبعضها الآخر في القطاع الآخر، تعيش هواجس غير متطابقة. وثمة تطور جديد عبّر عنه أحد السياسيين اللصيقين بتيار «المستقبل» مفاده أن موظفين كباراً في الدولة كانوا قد أقدموا على أعمال غير قانونية، يبدون خشية من تعرضهم للملاحقة القانونية في أي عهد حكومي جديد، وأن الغطاء الذي توافر لهم سابقاً سيختفي، وبالتالي قد يظهرون وحدهم في مواجهة القضاء. وهم لذلك يلجأون إلى خطوات غير مدروسة بغية «تنظيف» ملفاتهم بأيديهم قبل وصول الخصم إليها.
السؤال هو: هل على اللبنانيين تحمّل نتائج كارثية لوجود فريق «المستقبل» وقوى 14 آذار داخل مؤسسات الدولة؟ ثم عليهم أن يتحملوا نتائج أكثر كارثية عندما تسير الأمور باتجاه ضرب نفوذ هؤلاء أو إبعاد بعضهم عن مواقع المسؤولية؟ يبدو أن «المستقبل» بحاجة إلى من يمسك بيده ويدلّه على طريق المنزل قبل أن يقضي على ما بقي من البناء!