يمكننا نحن اللبنانيين أن نعلن مرة جديدة تفوّقنا على كل العرب: الجميع يحبّنا ويغار منا، يحبّون كل شيء عندنا، الفوضى وتجاوز إشارة السير والمعاملات الإدارية التي تمر من فوق الطاولة وتحتها. يحبون الصبايا والسهر وكل أنواع الجمال والتجميل. يحبون أحزابنا وصور الزعماء عندنا. يحبّون تنوعنا الطائفي وقتالنا المذهبي أيضاً. يحبون نظامنا الفريد من نوعه. ومن ليس لديه طوائف، فلديه عشائر وقبائل وأفخاذ وما لفّ لفّها. ومن ليس لديه عدة رؤساء، فلديه عدة زعماء أو عدة مراكز قوى داخل العائلة الحاكمة أو داخل النظام.
هم أُعجبوا بتجربة التقسيم. ويريدون الآن تكرارها في بلادهم. يفضلون التقسيم على أي شيء آخر. يريدون أن يعيشوا على هواهم. لا يريدون أن يقف فوق رؤوسهم أحد. لا مسؤول ولا موظف ولا كل من يرمز إلى القانون. أصلاً، لا حاجة إلى من يسأل مواطناً عن مركز عمله، ولا مسؤولاً عن مصدر ثروته، ولا حاكماً عن مدة عهده، ولا رجل دين عن مصدر علمه، ولا أستاذاً جامعياً عن مصدر شهادته، ولا رئيس شركة عن كفاءته، ولا تافهاً عن شهرته، ولا أميّاً جاهلاً عن مكتبته، ولا أمير حارة عن شرعيته، ولا مجرماً طليقاً عن مصدر عفوه، ولا قاتلاً مأجوراً عن مصدر شعبيته.
صار أهل العرب يحبون كل شيء في لبنان. ها هم في مصر، يبدون إعجاباً قلّ نظيره بالفتنة بين المسيحيين والمسلمين، ويريدون تقليدنا حتى في وسائل التحريض والقتل. وقادة الدولة يعيدون تكرار ما نقوله منذ زمن الاستعمار، أن الأخوّة والتعايش والنموذج الحضاري لا تتعمّد إلا بدماء عشرات الآلاف من أبناء الرعية.
وها هم في ليبيا، يريدون أن يثبتوا للعالم أن ما فشل اللبنانيون في تكريسه من تقسيم، سيكون الأفضل على أيديهم. وسيقنعون الولايات المتحدة والغرب بأنهم سيبلون الأحسن لضمان نجاح التقسيم ورسم الحدود بجثث من لا يعجبه الأمر. وسيستدين قادة ثوار الأطلسي المليارات فوراً لشراء السيارات المصفحة، وتكديس الأسلحة وإنتاج تلفزيوناتهم وصحفهم وإذاعاتهم، ويتركون للدائن أن يأخذ أمواله من باطن الأرض مباشرة.
أما في اليمن، فلا حاجة لأن يكون اليمن السعيد. هم يقولون: ها هو لبنان، ماذا استفاد من تسميته «سويسرا الشرق»؟ لا شيء. فلنتجاوز الأمر. ولنترك الجنوب لأهله من دون طعام. ولنتقاسم في الشمال الأراضي والثروة على ندرتها بقوة الدم. ولنفتح البلاد أمام من يرغب في التدرب لمقاتلة الآخرين. ولتدفع السعودية كلفة كل ذلك. أما الغرب، فهو يريد منا تقريراً يومياً عمّا نأكله ونشربه، وعن كيف ننام وكيف نستيقظ، وسيرسل الأطباء تقارير دورية عن أحوال النساء أيضاً، حتى لا يفوتهم شيء.
ثم لنذهب صوب سوريا. فلماذا كل هذه الضجة حول استقرار وأمن ودولة مدنية يعيش فيها الجميع، ولو على مضض؟ ليست هناك حاجة إلى مثل هذا الانتظام. ثم من طلب من سوريا أن تصر على موقف العداء لإسرائيل؟ ومن أرغمها على عدم تلبية شروط الغرب في أعوام 1975 و1982 و1989 و2000 و2001 و2003 و2005، وحتى اليوم؟ طيب، ذنب بشار على جنبه. أما شعبه، فهو توّاق إلى الحرية على الطريقة اللبنانية. هل يعقل أن العرب في شمال أفريقيا يريدون بعد نجاح نكبة العراق تقليد لبنان، ونحن لا نفعل؟ أليس الأقربون أولى بالمعروف؟ فما لكم تتوجّهون إلينا بالسؤال؟ خلص، سنقسّم سوريا، وسنطلب إلى العشائر أن تدير شعوبها حيث هي في الريف، وتقيم دولتها واقتصادها القائم على مبدأ الصدقة وما تيسّر من تهريب. ثم يأتي فلاسفة «آل سعود وممالك العائلات السوداء» ويتولون هم بقية المهمة. سنعيد للشام صورتها الجميلة. ونتحدى الغرب بأن نفرض النقاب على كل النساء. وسنغلب اللبنانيين، بأن نفرض على الرجال إطلاق اللحى وصبغها بالحنّة. وما دام الشعب حكم بقسوة أربعة عقود، سنأخذ وقتنا في إعادة ترتيب أموره. ولا بأس في هذا المجال بأن يأتي شويخ من صحراء الموت ليرث رامي مخلوف في مملكته الاقتصادية. وليُعمَّم مفهوم العرعرة والصيصنة، فهم أشفى حالاً من صبيان مكة الوهابيين. ولنجعل الإخوان المسلمين يجربون حظهم في بناء إمارة في حماه مثلاً، فإذا نجحوا يكون لنا أجر، وإذا فشلوا، نستعين بالجيل الجديد من طالبان. وإذا كان المسيحيون يخشون على وجودهم في بلاد الشام، فليس لهم الآن إلا الطاعة، بينما على الدروز والعلويين والشيعة إشهار إسلامهم أو يقع عليهم حد السيف. وفي هذه الأثناء، سنفعل أيضاً مثل اللبنانيين. سنترك للكتبة مكاناً ينشرون فيه هواجسهم، أما حسابهم فيأتي لاحقاً.
هذا ما هو مأمول لبلاد العرب، وطبعاً هذا لا يشمل «ممالك العائلات السوداء» التي تحكم بالقهر والتي صار من الضروري التخلص منها بعدما صارت لا تكتفي بقهر من عندها. وهذا مثل البحرين لمن لم يتعلم الدرس بعد.
بناءً عليه، ولأننا نحن اللبنانيين، نحن الأصل في هذه الثقافة، سننتقل الآن من مرحلة الحكم الذاتي إلى مرحلة الحكم الفردي. وسندعو العرب ليأخذ كل نصيبه من الثروة، نفطاً كان أو غازاً أو ذهباً، ولا حاجة إلى عدالة كاملة، ليفعل العرب كما نفعل هنا في لبنان... الشاطر بشطارته.
أما بشأن فلسطين وأهلها، فسنسمح للأسرى من أهل المقاومة بأن يصرخوا صبح مساء في زنازينهم: زحفاً زحفاً نحو القدس!