أنت تتصفح أرشيف موقع بنت جبيل

حماية من برودة مستقبل لبنان

الثلاثاء 21 حزيران , 2011 01:00 بتوقيت مدينة بيروت - شاهده 3,013 زائر

حماية من برودة مستقبل لبنان
حين تجرأت أن قررت، الكتابة عن أحمد بيضون: «علم المعاني والمباني» منشورات الجامعة الأنطونية، لم أقصد أن أحصيه، كنت أنتوي الكتابة عن رجل «متين»، ذلك كل شيء. كل هذا الذي قرأته في شهادات عنه من أصحابه، حول المفارقات الشخصية والإبداعية الفاصلة وما إلى ذلك، لا تسبق حقيقة رؤيتي إليه، ولكن تنبثق منها. وحدث أثناء كتابتي، أن فكرت أنه يقرأها، ويدرك فجأة أنني لم أضف شيئاً، إلى ما كُتب، وإلى قواه العقلية والروحية بالدرجة الأولى، فيزعل منّي. إذا لم يكن أحمد بيضون سيداً، فمن هو السيد إذاً؟ لبنان في فكرته، يتحرك عبر الفراغ من دون أحمد بيضون، ومن هنا مدخلي إلى بيضون، وقد أزيح عنه مع ذلك.
جائز أنني لم، أو تعمدت عدم قراءة ما كتبه من كتب عنه، لأُعلي فكرتي الصغيرة، فكرتي الخاصة التي لملمتها من ملامح في بالي وحده، عن الرجل. هذا ليس دقيقاً ما يكفي ولكن ليس محزناً. بيضون لا يستنطق واقع لبنان في مراحله السياسية، بل حياة لبنان. حياة لبنان في مجال إمكاناته، وأمراضه، ووفرته. كل شيء يمكن أن يكونه لبنان، كل شيء يستطيعه، وبيضون في كتاباته يرسم خريطة حياة لبنان، من إمكاناته الإنسانية قبل السياسية.. نقّبت في كتابه الفاتن الضجر: «بنت جبيل ـ ميشيغان»، فوجدت فصولاً منجّمة، وإشارة إلى أخي الذي أحبه، فسوّغت لنفسي التمتع أكثر، ذلك أنه أخي من أحبه بيضون، وهي ميشيغان التي عرفتها جيداً، وجاهدت يوماً، الإمساك بها كاحتمال، وفشلت. ميشيغان كإمكانية كاشفة لبيضون، ظل يرغب أن يصفها كما هي. ما زلت أقول إن الولاء «للصورة» مسألة ثانوية بالنسبة لبيضون، بالنظر إلى القيمة الإنسانية. بيضون ليس مؤرخاً ولا نبياً، إنه مستكشف للحياة. يبقى هادئاً في عالمية كتابته، كما لو أن كتابته هي الرحمة الباقية من التفوق، التي يمكن أن تحميه ضد برد مستقبل لبنان الذي لم يبق فيه شيء يستحق الكتابة، ولا الاحترام.
متعة ومؤانسة
أحمد بيضون هو تعصّب المعرفة في هذه الحفلة التنكرية الكبيرة التي هي الإسفاف. حملت إليه يوماً أربع عشرة قصيدة لي، وسألته ترجمتها إلى الفرنسية، فأحملها معي إلى مهرجان «لوديف» في فرنسا. لم يقل لي إنه في غمرة انشغالاته، وفي عزّ استغراقه في تصحيح مسابقات تلامذته، بل عكف على ترجمة قصائدي إلى فرنسية تعرفون جمالياتها عنده. هذه الخبرية الصغيرة هي نوع من المثل الرمزي لإحدى خصال أحمد بيضون، إظهار الجانب اللاسببي، اللامحسوب، بل الكريم للفعل البشري. يقول حازم صاغية إن أحمد يخشى الإيقاع السريع لمدن الغرب الكبرى، وهو يمشي ببطء، ويحرص على قيلولة بعد الظهر، وأظن أنه لا يتصور العمل إلا منطوياً على متعة ومؤانسة. هل ترجم لي أحمد بيضون أربع عشرة قصيدة في غمرة انشغالاته الكثيرة، عن متعة ومؤانسة، آمل ذلك، وإن كنت أحسب أنه لا يردّك عن رغبتك وإن طارت القيلولة، ومعها المتعة والمؤانسة.
إذاً ليس عندي الكثير، أقوله في أحمد بيضون، سوى هذه الأجزاء الشخصية، ورهبة الخوض في ما كتبه بيضون، فإنني أقدّر للقناعة حدودها هنا، ليس بدون التخلي عن يقين أن باستطاعتي أن أكتب عنه مجلدات. لا ألتقيه إلا في ما ندر، لذلك أدعي أنني أعرفه جيداً كما لو عاشق يتوجب عليه أن يهجر حبه، ليكون قادراً على وصفه.
حين أكون أقرأ في كتبه، ليس من دون توجس من الدقة والثبات فيها، لكنني أعرف أنه قد عاش هو نفسه، وكتب بكل وضوح ضد القبح في كل شيء، شعراً وسرداً وبحثاً، ذلك لأنه وهو يكتب، يفعل ما يمكن تسميته عطلة من الجهل، وهو عثر في الكتابة، على ما منحه السلام. كتب كل ما وقع بعيداً في الماضي، وفي المستقبل، ولا يمكن تأجيله. لقد اتضح له الشغور الكبير في الثقافة وفي الحياة اللبنانيتين بشكل مهدد، لذلك دارى الانجراف بعقل كبير هادئ وإحساس غامر. أتصور نوافذ غرفته مضاءة في الليل تطل على لبنان، فيما جلست أفكاره الكبيرة حوله مثل زبائن في عيادة طبيب، تستعجله الدخول. أفكار كبيرة، مُخلّصة وندية، وتملك ما يجعل القارئ يود أن يعانقها وأن يدفن وجهه المبلل بالدموع فيها.
مؤرخ ولغوي ومفكر سياسي وشاعر وروائي. أترك لعباس بيضون وحسن داوود وحازم صاغية وآخرين.. زهو استعراض معرفتهم به، وتفلية معارفه وكتاباته. أنا لن أقوم بمغامرات في هذا المجال، لكنني توصلت بعد استغراق معذّب في التفكير إلى أن أحمد بيضون، يميل إلى مثل شخصيته الغنية، ويحبها. نحن نحبه بالمقابل، في قلب طبيعة العوام، الميالين إلى الغنى.

Script executed in 0.19327688217163