رغم ذلك، على إنجاز يتيم هو قدرة الجيش "الاسرائيلي" على إثبات قوته الردعية بدليل الهدوء الذي يخيِّم على جبهة "اسرائيل" الشمالية مع جنوب لبنان. غير ان الغالبية والاقلية اتفقتا على أن الهدوء القائم قد يكون موقتاً لأن مرده قرار سياسي اتخذه حزب الله بدافع انشغاله حالياً بالوضعين اللبناني والسوري المضطربين.
قيادة "اسرائيل" كانت قد استوعبت دروس الحرب الثانية، وباشرت إعادة نظر شاملة في الجيش "الاسرائيلي"، تنظيماً وتسليحاً وتدريباً وأجهزةً واستخبارات وتنسيقاً مع سائر مؤسسات الحكومة والبلديات في ما يُعرف ببرنامج تحصين الجبهة الداخلية. الى ذلك، صعّدت "اسرائيل" بالتنسيق مع الولايات المتحدة "الحرب الناعمة" ضد سورية وإيران وقوى المقاومة العربية المتحالفة معهما.
الحرب الناعمة، وقوامها مجهودات استخبارية لإشعال الفتن الطائفية والمذهبية والعرقية، ولإيقاع الفرقة والشرذمة في المجتمعات التعددية، تتخللها احياناً فصول ساخنة كضرب "اسرائيل" مجمّعاً سورياً لتصنيع الصواريخ قرب حلب سنة 2006، وتدميرها مبنى قيد الإنشاء قرب دير الزور سنة 2007، بدعوى انه كان يُعَدّ ليكون مأوى لمفاعل نووي. ومع اندلاع الحراكات الشعبية للمعارضة الوطنية الإصلاحية في سورية منتصفَ شهر آذار الماضي، حاولت قوى معادية لسورية استغلالها في دس مجموعات مسلحة في مناطق درعا وتلكلخ وجسر الشغور، بقصد إشعال اضطرابات امنية لإضعاف الحكم وحمله على وقف دعمه لقوى المقاومة اللبنانية والفلسطينية والخروج من تحالفه مع ايران.
اذ صعّدت الولايات المتحدة حملتها على سورية بقصد إضعافها بإطالة امد ازمتها الداخلية، اتخذت "اسرائيل" موقف المراقب المترقب، متحاشيةً إظهار انخراطها السري والواسع في مختلف اوجه الحرب الناعمة، واحياناً الساخنة، ضدها. وهي تتعاون، في هذا السياق، مع اميركا على إطالة امد الازمة لإرهاق الاقتصاد بما هو مقتل الحكم في هذه الآونة.
بالتزامن مع انخراطها الفاعل في الحرب الناعمة بجميع وجوهها، تتابع "اسرائيل" استكمال متطلبات استراتجيتها العليا، محلياً واقليمياً ودولياً، وتستعد لتنفيذ ما تجد نفسها قادرة على تحقيقه مرحلياً. في هذا المجال، ترى "اسرائيل" في القدرات النووية والصاروخية الإيرانية المتعاظمة خطراً داهماً، كما ترى في تحالف سورية والمقاومة اللبنانية والمقاومة الفلسطينية خطراً رديفاً للخطر الإيراني ومكمّلاً له. غير انها لا تجد في نفسها القدرة الكافية لضرب ايران وتعطيل برنامجها النووي. لذلك تحاول مستميتةً حمل اميركا على القيام بهذه المهمة أصالةً عن نفسها ونيابةً عنها. فواشنطن تستشعر خطر ايران النووي وتدرك انعكاساته السلبية على مصالحها النفطيـة في المنطقة، كما على أمن "اسرائيل". لكن اميركا ليست في وارد خوض حرب ضد ايران بسبب عجزها عن تغطية تكلفتها الباهظة في غمرة ازمتها الاقتصادية والمالية الراهنة من جهة، وبسبب عدم وثوقها من قدرتها على الانتصـار فيها من جهة أخرى.
الى ذلك، تعلم "اسرائيل" ان امتلاك ايران اسلحة نووية لا يعني بالضرورة الرغبة في استعمالها. فالسلاح النووي لم يستعمل قط منذ العام 1945 وربما لن يستعمل ابداً، لا في الحاضر ولا في المستقبل، نظراً إلى ما يجرّه على الاطراف المتحاربة من اضرار جسيمة متبادلة. غير ان "اسرائيل" تتخوّف من قدرة ايران على صنع اسلحة نووية تكتيكية، اي ذات مدى قصير وفاعلية محدودة، ومن احتمال تسليم هذه الاسلحة الى تنظيمات المقاومة في لبنان وفلسطين، لأن من شأن ذلك وضع سلاح خارق لتوازن القوى الراهن في يد اعداء "اسرائيل" ما يؤدي الى إضعاف قدرتها الردعية ووضعها تالياً تحت رحمة المقاومة. لذلك ترى "اسرائيل" ان الطريقة الأفعل لتفادي هذا الخطر الشديد الاحتمال هي في "قطع" اليد التي يمكن ان تستعمل اسلحةً نووية تكتيكية، اي "قطع" يد المقاومة اللبنانية والمقاومة الفلسطينية.
كيف السبيل الى ذلك ؟
من مراجعة التقارير والتحليلات والدراسات الصادرة عن خبراء ومحللين ومراكز ابحاث استراتيجية، يمكن استخلاص مفاصل استراتيجية "اسرائيل" لمواجهة اعدائها، ولا سيما سورية وحزب الله وحماس، على النحو الآتي:
اولاً: تحصين الجبهة الداخلية باعتبارها هدفاً مركزياً لهجومات اعدائها، وإعدادها لتحّمل اعباء حرب طويلة نسبياً.
ثانياً: التزوّد بكميات كبيرة من المنظومات الدفاعية المضادة للصواريخ البالستية بعيدة المدى، والصواريخ الثقيلة والصواريخ قصيرة المدى، وخصوصاً منظومات "حيتس" و"العصا السحرية" و"القبة الحديدية"، ونشرها في جميع أنحاء الكيان الصهيوني ليصبح ـ بحسب المحلل العسكري اليكس فيشمان (صحيفة "يديعوت احرونوت" 13/7/2011 ) ـ "اكثر دولة في العالم محمية من الصواريخ حتى سنة 2015".
ثالثاً: تصعيد الحرب الناعمة المقرونة بفصول ساخنة بغية إضعاف اعدائها الرابضين في جوارها الجغرافي، اي سورية وحزب الله وحماس، ومحاولة شلّهم وحتى إخراجهم من حومة الصراع اذا تيّسر لها ذلك.
رابعاً: استكمال مرامي الحرب الناعمة واغراضها في مدى 18 الى 24 شهراً كحد اقصى، وهي المدة اللازمة لاستكمال ايران قدرتها على صنع اسلحة نووية تكتيكية وتجهيز أعداء "اسرائيل" في جوارها الجغرافي بها من جهة، ولاستكمال نشر منظومات "اسرائيل" الدفاعية المضادة للصواريخ من جهة اخرى.
خامساً: استباق اي تهديد خطير وبازغ من ايران وحلفائها بشن حربٍ شاملة على لبنان وحزب الله (وعلى سورية اذا ما بدا انها عازمة على نجدته)، وكذلك على قطاع غزة وحماس وسائر فصائل المقاومة.
الحرب "الاسرائيلية" الثالثة على لبنان والمقاومة ستكون، بحسب تصريحات القادة العسكريين والمحللين الاستراتيجيين "الاسرائيليين"، شاملة ومدمرة وبكل أسلحة البر والبحر والجو. غير ان ميزتها الفارقة، هذه المرة، ستتركّز على استعمال القوات البرية بكثافة لتمكين "اسرائيل" من تحقيق غايتين بالغتي الاهمية في نظرها : الاولى: محاولة اقتلاع المقاومة او تدميرها على الاقل. الثانية: اذا تعذر تحقيق الغاية الاولى ـ وهو امر شديد الاحتمال إن لم يكن محتوماً ـ محاولة السيطرة على اوسع مساحة ممكنة من الاراضي اللبنانية التي تجاور سورية من الشرق والشمال بقصد ضمان استصدار قرار من مجلس الأمن يقضي بنشر قوات دولية على طول الحدود اللبنانية – السورية لعزل لبنان وقطع الإمداد اللوجيستي عن حزب الله ومقاومته.
يدرك القادة العسكريون "الاسرائيليون" ان الحرب الشاملة ضد لبنان (وسورية) مُكلفة للغاية، بشرياً واقتصادياً وسياسياً، فضلاً عن ان النجـاح فيها غير مضمون لثلاثة اسباب:
اولها: تجذّر المقاومة في جميع قرى الجنوب والبقاع ما يجعل نجاح الهجوم البري "الاسرائيلي" صعباً إن لم يكن مستحيلاً.
ثانيها: امتلاك المقاومة عدداً كبيراً من الصواريخ القصيرة والمتوسطة والبعيدة المدى ما يمكّنها من تدمير "اسرائيل" عمراناً واقتصاداً وسكاناً وجيشاً على نحوٍ لا تستطيع تحمّله.
ثالثها: ارجحية انخراط سورية في الحرب ما يؤدي الى مضاعفة تكلفتها الباهظة على "اسرائيل".
خيار "اسرائيل" الارجح هو الاستمرار في اعتماد الحرب الناعمـة وتصعيدها، وعدم اللجوء الى الحرب الشاملـة إلا في حالة واحـدة : خروج او إخراج سورية – لا سمح الله – من حومة الصراع.