أنت تتصفح أرشيف موقع بنت جبيل

«حيّ الكندرجيي» بالأبيض والأسود

الخميس 28 تموز , 2011 01:00 بتوقيت مدينة بيروت - شاهده 3,023 زائر

«حيّ الكندرجيي» بالأبيض والأسود

«شو بتشتغل عمّي؟»... كندرجي. قبل 41 عاماً، سئل قزحيا سلامة هذا السؤال، عندما حضر لطلب يد زوجته. يومها، كان سهلاً على الشاب إرضاء العمّ، فهو يملك كل شيء: الوسامة والطموح، وأهم من ذلك كلّه «الوظيفة» التي يمكنه من خلالها إعالة ثلاثة أنفار و«زيادة». في ذلك الزمن، لم تكن مهنة الكندرجي، أو الإسكافي، مهنة فقراء الحال، كما هي عليه اليوم. كانت «متل الجندُرما»: لقمة عيش تضمن حياة لائقة، ولو على الهامش.
في الحيّ البيروتي العتيق، في عين الرمانة، يعيش الآن قزحيا سلامة. الكندرجي القديم، الذي أكلت السنون من يديه، لا يعرف العيش في مكان آخر... ولا يريد أصلاً. فهنا، عاش الحب وأسّس العائلة السعيدة، والمحل الصغير الذي لا يزال على حاله منذ عام 1977: غرفة كغرف السجن المنفردة، لكنها جميلة، تدخلها الشمس فلا تفارقها طوال ساعات النهار. جدران المحل مقسّمة إلى رفوف صغيرة للأحذية وشرائطها، البويا والنعول، وما بقي منها عُلّقت عليه صور بالأبيض والأسود، كأنها منبوشة من ذاكرة بعيدة، تعود بك إلى زمن آخر، ربما لأن ما يصنع فيه من «هيداك الزمن». كأن الحرب التي مرّت عليه نسيته لصغره، فبان كعلامة فارقة بين المباني الضخمة أو حتى الصغيرة، تلك التي توحي بأنها من زمن الـ«ما بعد». في ذلك الدكان الصغير، مرت أربعة وثلاثون عاماً على الرجل قابعاً في المكان نفسه: خلف السندان وفي يده المطرقة التي لم تتعب منها اليد المخطوطة بالعروق. يعمل بلا كلل، رغم التغيرات التي مرت بها المهنة، فاليوم لم يعد الكندرجي كما كان في السابق، «رجعت المهنة لورا»، يقول. ولربما «بعد موت من يعملون فيها، لن يبقى من مهنتنا إلا الذكرى». لا ينتظر الـ«لماذا» كي يجيب عما آلت إليه المهنة، ففي جعبته دستة أسباب، منها «عتق المهنة» و«رخص الأحذية المستودة من الصين» و«ابتعاد الناس عن الأحذية المفصّلة الغالية الثمن»، والأهم من كل ذلك «أنني لا أطمح أبداً إلى تعليم أبنائي هذه المهنة». هذا الخوف على أبنائه من «المعيرة» لم يكن موجوداً في زمانه. يتذكر أيام العزّ، عندما كانت المهنة تدرّ أموالاً. فمنها، عاش الرجل، اشترى محلاً ومنزلاً وعلّم أولاده وأمّن المصاريف والحاجات. تنقل في حينها بين عدة أماكن «عملت في مصالح الجيش بالزناجر، بعدها انتقلت للعمل في معمل للأحذية في منطقة الكفاءات». كان العمل «رائعاً، وكانت كسّيبة ومرتبة، وقتها كنا نصنع قلاشين نسواني ونصدّرها إلى ألمانيا وأميركا وكنا نأخذ على الجوز ليرة»، وبعدما ازدهر العمل، افتتح محله الأول في «الدورة، وبعدها انتقلت إلى عين الرمانة، فقد كانت أكبر معامل الأحذية فيها، منها red shoe، لكنه أقفل مع طفرة الأحذية المستوردة». اليوم، لا تطعم المهنة شيئاً، «بس شوية مشاركة في المصروف»، لكن، لا طاقة له على تركها، هو الذي أمضى الجزء الوفير من عمره فيها، وأصبحت الآن «سلوتي» أكثر من كونها «للجني».
في ذلك الحي العتيق، حيث يقضي سلامة عمره الباقي في «الخرازة»، ثمة من يشبهونه. إسكافيون كثر. خمسة. ستة. سبعة وربما أكثر يجتمعون هناك «بالصدفة». وإن قصد أحد الحي للسؤال عن «كندرجي» يفاجأ بأن هناك «كندرجيي». فما إن تسأل عن إسكافي في المنطقة، حتى يأتيك الجواب «من تريد؟ الياس ولا قزحيا ولا أبو علاء ولا جهاد ولا أبو علي...؟». جواب يعيدك عشرات السنوات إلى الوراء. يريك عين الرمانة «بالأبيض والأسود»، يقول أبو علاء، الإسكافي الحلبي. منطقة على صغرها، إلا أنها تكاد تكون من المناطق القليلة التي تحتفظ برائحة تلك المهنة التي باتت غريبة على بعض الأماكن، حتى بات البعض يختصر المنطقة باسم حيّ «الكندرجية». وإلى الآن، لا تزال مقصد الكثير من الفقراء الذين لا طاقة لهم على شراء حذاء في كل حين. ويذكر الياس سرحال، صاحب «مستشفى الأحذية» ومن بات أول كندرجي في العين، أن أكثر زبائنه من «برا». يحسبهم بالنسبة، فيقول «شي 70% من الزبائن». ترتبط المهنة لدى أبو فادي، الذي بات على عتبة الخمسين فيها، بذاكرة الحرب. ففي السبعينيات ورغم القتل والدمار، كان عزّها. يعيد الرجل السبب إلى «هجرة الكثيرين إلى المنطقة، وهذا سبب كافٍ كي تزدهر». يضاف إلى كل هذا أن «الناس كانوا يلجأون إلى تفصيل الأحذية، وكان عندي 4 موديلات، وكانت بوقتها كافية». اليوم، بالكاد «نفصّل، والذين يمرون عليّ أصحاب أكتر من الزبونات، بس ماشي الحال».
أما أبو علاء الحلبي، فيحمل في جعبته حديثاً آخر عن عمله، وإن كان موقناً بأنه تراجع مقارنة بما كان عليه قبل التسعينيات، إلا أن المهنة «ما بتوقف أبداً، لأن الناس ولا بعمرها رح تمشي حافية». ثمّة سبب آخر لهذه الطمأنينة، هو أن «الحذاء صار عم ينتزع أكثر من أول، وخصوصاً أن كل شيء بات مستورداً ونوعيته عاطلة، وكلما كانت النوعية رديئة، بقيت مهنتنا شغالة».
ثمة ما يفتقده الإسكافيون في عملهم، وهو «التوصايات». خفت كثيراً الآن، إلى درجة أنها باتت تمثّل نسبة «1%»، يقول جهاد، الإسكافي الصغير في الحي. يبرّر الرجل هذا الأمر «في وجود المستورد والرخيص، ما حاجة الناس إلى حذاء يبدأ سعره من الخمسين دولاراً؟». لا طاقة لهؤلاء على خفض سعر «التوصاية» أكثر، وخصوصاً أن «سعر الجلد ازداد كثيراً، وتعب اليد أيضاً»، يضيف جهاد. لكل هذه الأسباب، يكتفي جهاد وزملاؤه من الإسكافيين بما بقي من هذه المهنة، وإن كانت لا تعوّضهم عن التعب الكثير، لكن كما هي حال الكثيرين من العاملين فيها، ومعظمهم من الكبار نسبياً في السن، لا أحد يستطيع تركها لمهنة أخرى، ربما لأنه «لم يبق من العمر أكثر مما مضى».

Script executed in 0.19204497337341