هدوء تام في الشوارع. لا زينة حقيقية ولا أضواء. فقط بضع لافتاتٍ ترحب «بالضيف الكريم». في الماضي، كان الشهر يبدأ قبل شهر: زينة الشوارع وزحمة الأسواق واللوحات الإعلانية للخيم الرمضانية والعروض على السلع الغذائية في المحال التجارية وعناوين المسلسلات وحتى الإعداد للمائدة الأولى كان «غير». أما اليوم، فقد انقلب كل شيء. ما عاد الضيف الكريم «كريماً»، وكأنه بات عبئاً؛ ذلك أنه بعيداً عن روحانيته، يناقشك الراغبون في الصيام في تفاصيله المادية كما يناقشون استحقاقاً حلّ على حين غرة.
هكذا، انقلب رمضان هماً من «الفئة الأولى»، بعد اتحاد كل أنواع الهموم، المعيشية منها والاقتصادية والاجتماعية والنفسية التي بدأت «عوارضها» تظهر حتى قبل التفكير بالجوع والعطش. والأهم من كل ذلك، الخوف من رمضان الصيفي الذي يحلّ هذا العام في شهرٍ، الحرارة فيه أصلاً استثنائية. خوف يكبر شيئاً فشيئاً، كلما تعزّز الشعور بأن الصوم سيكون شاملاً: صوم عن الأكل والشرب وقهوة الصباح... والكهرباء والمياه أيضاً.
منذ أمس، بدأت الأسئلة تتزاحم في الرأس عن كيفية المواءمة بين الصوم وكل تلك الأشياء، فكيف ستكون الحال مع اللهب، ارتفاع الأسعار، وجع الرأس، اشتراكات المولدات الكهربائية، ومن دون كهرباء ومياه؟ كل تلك الأسئلة انهالت دفعة واحدة فوق رأس السيدة السبعينية التي استيقظت صباح أمس، وهي تفكّر في الثلاثين يوماً المقبلة.
لم تكن تلك السيدة قد نفضت آثار النعاس من عينيها الصغيرتين، عندما بدأت بـ«النق»، ولم يكن في جعبتها إلا سؤال واحد «كيف؟»؛ إذ يبدو أن هذه «الكيف» عامة بين البشر الخائفين من الصوم «12 ساعة بلا نقطة مي؟ وبلا ما نروّق راسنا بفنجان قهوة؟ ومع عدّاد كهرباء لم يعد قادراً على احتمال كل هؤلاء البشر؟ وأسعار بدأت بالارتفاع قبل دخول الشهر؟».
الكل يؤرّقه الحديث عن الأيام المقبلة، التي «تعدنا بالمفاجآت»، يقول محمد علي دقماق. الموظف الحكومي همه الأول أسعار المواد الغذائية التي تصبح في رمضان «مثل الأعمار بيد الله». يستاء الرجل من الارتفاع الذي بدأ «حتى قبل أن نصوم. يعني مثلاً باقة البقدونس في بعض المحال بات سعرها 500 ليرة والدجاج زاد على الكيلو ألف ليرة والألف تجرّ ألفاً». يستفيض الرجل في الحديث، وبالكاد تظهر عيناه من تقطيبة الحاجبين «إن أردت إعداد مائدة محترمة في رمضان، فأنا أحتاج إلى 50 ألف ليرة بالميتة وقس كم 50 ألفاً سندفع طوال الشهر». يضرب الرجل الـ50 بـ30 يوماً، فيأتي الجواب «أعلى من الراتب البالغ أصلاً 900 ألف ليرة لبنانية». يبتسم الرجل ساخراً، ويقول: «لو كنت أعيش في زمن آخر لما كنت بحاجة إلى كلّ هذا المصروف، بس أنا مش النبي محمد لصوم وأفطر على ملح وتمر، وبعدين النبي ما كان عنده فراريج مشوية ولا بطاطا مقلية». ما يعانيه الموظف الحكومي يعانيه آخرون بالكاد تكفي رواتبهم لشراء حاجات رمضان، وهم الفقراء الخائفون من موارد عيشهم المحدودة. لهذا السبب، لجأ البعض إلى شراء «المواد التي لا تتعرض للتلف قبل جنون الأسعار». هذا ما فعلته فاطمة الموسوي. ثمة بعض آخر دهمته الأسعار قبل أن يفكّر بما فعلته الموسوي، فاتخذ قراراً يقضي «بشراء الضروريات فقط في هذا الشهر»، تقول ربى السيد.
رمضان من دون إضافات إذاً. ولا خيارات أمام الصائمين إلا «التقشف» و«التقنين» في المصاريف، وفي الكهرباء أيضاً. فقبل دخول الشهر، بدأت «الدولة» بروفاتها الكهربائية، في محاولة لتعويد الصائمين على حالها. تقنين أكثر من قاسٍ، فالكهرباء بالكاد تزور بعض الأحياء، وخصوصاً تلك التي تشهد اكتظاظاً سكانياً، وإن زارتهم، فلا تكاد تأتي حتى تغيب. وقد زادت «تكاتها» الآن مع طفرة البناء والسكان أيضاً، بحيث أصبح الحي حيّين بمحطةٍ كانت لا تكفي أصلاً للساكنين القدامى، فكيف الحال بالطارئين؟ ففي حي الرمل العالي مثلاً، الذي أصبح بعد الطفرة «رملين»: «رمل عالي ورمل واطي»، ما عاد «عداد الدولة» اليتيم هناك قادراً على احتمال هذا الكم الهائل من البشر، فبات «يتكّ» في كل حين، و«يتكّ» معه كل شيء: النور. البراد. المكيّف.. وحتى السهر. وبين التكة والتكة، تكّة أخرى، وهكذا دواليك. هناك، لا يحمل قاموس الساكنين إلا كلمتين «إجت» و«تكت»، وإن زادت تلك الكلمات فلا تتعدى في معظم الأحيان سوى كلمة ثالثة «انقطعت».
وما يزيد الطين بلة أن هذه الحال ازدادت قبل أسبوعين من شهر رمضان، وهو ما لا يجده الساكنون مبرراً، وهم الهاربون من لهب الخارج، ليطفئوه بهواء بيوتهم المبردّة، غير أن هذا «الترف» لم يعد مضموناً الآن، بسبب محدودية قدرة محطات الكهرباء الرسمية. ومن لا طاقة له على تحمل هذا القيظ، يلجأ إلى المياه حلاً أو في أحسن الأحوال «الاشتراك بكهرباء المولدات الخاصة»، يقول محمد الحركة. لكن على ما يبدو، الحرمان سيطاول الكهرباء الخاصة، إذ إنه ابتهاجاً بالشهر الكريم، بدأ أصحاب المولدات الخاصة برفع أسعار الاشتراكات لديهم، حتى «وصلت لدى البعض إلى حدود الزيادة ما بين 15 و30 دولاراً لكل 5 أمبير». والعشرة؟ «شي 50 دولاراً زيادة»، يتابع الحركة. ومن لا طاقة له على هذه الزيادة في شهر الدفوعات، لا يجد إلا الدعاء سبيلاً، كما يفعل أحمد «يا مقسّم الكهرباء، اجعل لنا منها حصة ولا تجعل في قلوبنا غصة، ونور ليالينا بالأمبير، أو هبها لنا ولو بالسحور لنعيش فجرنا بفرح وسرور».