يستضيف حزب الكتائب اليوم لقاءً للإعلان عن مؤتمر حقوقيي 14 آذار الذين سيقدمون قراءة قانونية للقرار الاتهامي والرد على العضو السابق للمجلس الدستوري المحامي سليم جريصاتي. ما الأهمية الكامنة وراء هذه الخطوة، وما أهمية أن يأتي الإعلان عن مؤتمر سيعقد بعد أسبوع من بيت الكتائب؟ أليس مستغرباً أن يستضيف الكتائبيون هذا المؤتمر وهم علّقوا عضويتهم في الأمانة العامة الخاصة بهذه القوى، وتمايزوا عن مواقف حلفائهم في الكثير من المناسبات؟ ويكون السؤال معكوساً: لماذا تريد قوى 14 آذار مراضاة الكتائب؟ إنها جائزة ترضية يسعى الحلفاء إلى منحها للكتائبيين. ويسهل على الطرفين الإجابة بأنّه «لا صوت يعلو فوق صوت المحكمة التي حين تكون هي محور البحث تزول كل الحواجز والخلافات من أمام مكونات ثورة الأرز». لا يمكن الكتائبيين التباهي بعلاقتهم بحلفائهم. فعلاقة الحزب بتيار المستقبل يشوبها الكثير، أكان في ما يتعلّق بإذاعة صوت لبنان أم في ما يخص محاولات الرئيس أمين الجميّل التواصل مع الرئيس نجيب ميقاتي قبيل تأليف الحكومة الحالية. أما مع القوات اللبنانية، فحدّث ولا حرج. ولا يمكن أياً كان أن يقنع نفسه قبل الآخرين بأنّ العلاقة بين هذين الحزبين مستقيمة. وتبقى الأمانة العامة لقوى 14 آذار التي علّق الكتائبيون عضويتهم فيها قبل سنتين. نديم يهدد أمين أمام سامي الجميّل عقبة تبدو جدية في الحزب، تتمثل في النائب نديم الجميّل. فالوريث الشرعي لبشير الجميّل كان لا يزال يحتفظ بصمته حيال ما يجري داخل الكتائب، لكن مؤخراً يبدو أن نديم تشجّع قليلاً وقرر مواجهة سامي والوقوف بوجه قراراته. فهو لم ينسحب من عشاء إذاعة لبنان الحر كما فعل باقي نواب الكتائب. وعلى عكسهم أيضاً، لم يقاطع الاحتفال التي أقامته القوات اللبنانية لإطلاق ورشتها التنظيمية، في اليوم التالي لواقعة «لبنان الحر».
لماذا كل هذا التوتّر؟ تفسير واحد: سامي الجميّل. فهذا النائب الشاب يحاول بلا ملل التمايز عن الجميع: في العائلة، في الحزب، في مجلس النواب، في 14 آذار، حتى في نبرة صوته. وربما في علاقاته الشخصية. فهو يحاول إبراز وجه آخر لحزب أمين الجميّل المساوم والهادئ، حزب «ثائر» شبابي يأبى الصمت عن الخطأ ويعجز عن التفاوض. بمعنى آخر، شخصية «النمرود».
ومن يتابع سامي الجميّل عن قرب ويستمع إلى مداخلاته في مجلس النواب وعلى مآدب الغداء وفي الاجتماعات المغلقة والمفتوحة، يعِ أنه يريد المحافظة على صورته أمام الجميع، وأولهم الجمهور المسيحي. لذلك، لم يعد فتى الكتائب يخفي طموحاته الواسعة بإعادة بناء حزب الـ70 ألف منتسب من العمال والبورجوازيين، حزب السلطة والكنيسة. وتقيّداً بأحد موجبات النشيد الكتائبي، «نبني الذي تهدم من مجدنا العظيم»، يبحث سامي عن ساحة يطوّر من خلالها رقعة التأييد له، وأولى هذه الساحات جمهور التيار الوطني الحرّ. يرى النائب الشاب أنّ العماد ميشال عون «بات طاعناً في السنّ»، وأن بإمكانه كشاب نشيط و«حِرِك» أن يرث جزءاً من الجمهور البرتقالي. فمن باستطاعته مجاراته؟ سليمان فرنجية؟ لا، باعتبار حدوده السياسية «تكاد لا تلامس المدفون». جبران باسيل؟ طبعاً لا، فهذا الوزير لن يصمد أشهراً في السياسة في حال زوال الامتيازات التي يمنحه إياها «عمّه».
وفي خلاصة الموضوع، من غير سمير جعجع قادر على الوقوف بوجه طموحات الفتى الكتائبي؟ لذلك تجد أنّ لسان سامي يكرّر منذ بدء الألفية الحالية عبارة «انتفاضة 12 آذار 1985»، التي قام بها كل من جعجع وإيلي حبيقة على فؤاد بو ناضر، ابن عمّة سامي، التي قطعت يد آل الجميّل عن قيادة القوات اللبنانية. وقبل هذه العبارة، كان سامي يتسلّح بـ«سمير جعجع هجّرَنا إلى باريس»، لتبرير مواقفه العدائية من القوات ومحاولة إقناع من هم حوله من الشبان الجامعيين بأنه مظلوم يجب الوقوف إلى جانبه.
اليوم يتجدد خطاب سامي المعادي لجعجع، فلا يتأخر بالقول إنّ القوات «اجتاحت المتن سياسياً وشعبياً»، مستنكراً أداء سمير جعجع في ما يعدّه الكتائبيون «محميّة الحزب»، أي المتن الشمالي. وفي هذا الإطار، ليس غريباً أن يكون أول اسم يعلن جعجع ترشيحه للانتخابات عام 2009 هو إدي أبي اللمع. وكان ذلك لقطع الطريق على أي نقاش محتمل مع الكتائب بشأن الترشح في المتن، وجاء ذلك حتى قبل إعلان اسمي ستريدا جعجع وإيلي كيروز المضمون ترشّحهما في بشّري إلى الأبد.
وفي الواقعة الأخيرة بين الطرفين قبل أكثر من شهر، خلال عشاء إذاعة لبنان الحر، عبّر النائب إيلي ماروني عن امتعاضه لتفاهة الإشكال الذي وقع بين مرافقي سامي الجميّل ومرافقين من القوات اللبنانية، وعدّ ماروني ما حصل «مشهد ولاد بولاد». ولحسن حظه أنه لا يقصد بهذا التعبير سامي بل المرافقين، لكن المفاجأة تجلّت في اليوم التالي مع تصعيد ماروني للموقف واعتبار الموضوع «إهانة للحزب»، وذلك بتوجيهات من سامي، الذي سحب كل من النواب ماروني وسامر سعادة وفادي الهبر من الاحتفال، وذلك بهدف «جعل الحبّة قبّة».
التوتر الموجود اليوم بين القوات والكتائب لم يكن موجوداً في وقت سابق، وهو ما يدفع البعض إلى الترحّم على قيادة الوزير بيار الجميل للحزب. مع العلم أنّ جعجع لا يترك مناسبة إلا يتقرّب فيها من أمين الجميّل. فيوم اغتيال نجله تحدث جعجع بصفته الكتائبية لا القواتية، وعند خوض الجميّل المعركة الانتخابية المتنية الفرعية وضع سمير جعجع كل إمكاناته بيد الكتائبيين، في «محاولة ليست بريئة أيضاً»، بنظر بعض الكتائبيين. حتى إنّ جعجع يرفض التعليق اليوم على أي موضوع يخص الخلاف الموجود مع الكتائب، ويكتفي بالحديث عن أمين الجميّل بصفته «شخصية وطنية».
يفتح النقاش بشأن مرحلة ما قبل وما بعد بيار الجميّل الكثير من الأبواب، وأهمها بشأن تبدّل العلاقة بين الكتائب والأمانة العامة لقوى 14 آذار. ولم يعد خافياً على أحد أنّ حزب الكتائب طالب على نحو علني، خلال الاجتماعات التنظيمية التي عقدتها قوى 14 آذار، بعد إقصاء الرئيس سعد الحريري من السلطة، بحلّ الأمانة العامة واستبدالها بإطار تنظيمي آخر يخضع لإدارة الأحزاب لا للشخصيات المستقلة في التجمّع. في تلك الاجتماعات التي ترأسها النائب فؤاد السنيورة، عارض سمير جعجع بشدة هذا الطرح الكتائبي، وأعلن تمسّكه بالصيغة الحالية للأمانة العامة، وهو ما جعل من شكوك سامي الجميّل واقعاً ملموساً: منسق الأمانة، فارس سعيد، يعطي ولاءه للقوات اللبنانية، وهو ينفذ في هذه الهيئة التنظيمية إملاءات جعجع.
هذا أحد أسباب اعتراض الكتائبيين على الأمانة العامة وصيغتها التنظيمية، لكن ثمة ما هو مدفون في النفوس: هل يذكر أحد ميشال مكتّف؟ لمن لا يعرف هذا الاسم أو يفضّل استبعاده عن مائدة النقاشات، يمكن تعريف ميشال مكتّف وفق الآتي: هو الرئيس السابق لمجلس الأقاليم والمحافظات في حزب الكتائب، أحد الموثوق بهم من الوزير الشهيد بيار الجميّل وذراعه اليمنى، الصهر السابق للرئيس أمين الجميّل. كل هذه الصفات لم تشفع لميشال مكتف ليبقى في الحياة السياسية، لا بل زادت حياته تعقيداً.
كان ميشال مكتف، خلال ولاية الأخ الأكبر لسامي في الحزب، موكلاً مهمات تمثيل الكتائب في هيئة المتابعة التي ألفتها قوى 14 آذار بعد «ثورة الأرز» عام 2005، وذلك قبل أن تتبلور هذه الهيئة وتتحول إلى الأمانة العامة بشكلها الحالي. يروي المطلعون أنّ مكتف كان ناشطاً في هذا الإطار. لا «يعوّف» اجتماعاً إلا يحضره، ولا يغيب عن أي صالون يجتمع فيه اثنان أو ثلاثة من «الثوار». ومع تطوّر شكل الهيئة وتحوّلها إلى الأمانة، تابع مكتف مهمّاته فيها على نحو طبيعي إلى أن ساءت الأمور في العائلة، وانفصل عن نيكول أمين الجميّل، وخرج من حزب الكتائب. فعُيّن كل من ساسين ساسين وميشال الخوري لتمثيل الحزب في الأمانة العامة بدلاً منه. ولم يكتف سامي بهذا القدر من التشفي بمكتف، بل «أخذ الأمر إلى أبعد الحدود»، إذ طلب من قيادة الأمانة عدم التعاون مع الرجل والتعامل معه وفق منطق «اتفضّل من غير مطرود»، لكن الكتائبي السابق تابع نشاطه على نحو شبه عادي في مكاتب الأمانة العامة، ورأى أنه بات لا يمثل غير نفسه ومن حقه الاستمرار في عمله السياسي الفردي.
وترافق نشاط مكتف مع عدم استجابة فارس سعيد للطلب الكتائبي، لكن سعيد حاول قدر المستطاع مراعاة مشاعر سامي الجميّل والكتائبيين من جهة، ووجود مكتف بقربه من جهة أخرى. رفض التخلّي عن «الضحية الكتائبية» باعتبار أنه لا يمكن القضاء على أي شخص في حال اختلافه في الرأي والتنظيم مع أي كان. ويبدو أنّ سعيد استعاد تجربته في قرنة شهوان، ولم يجد أي مانع في تكرار سيناريوهاتها، إذ إنه في ذلك الحين استقال كل من توفيق الهندي وجان عزيز من القوات اللبنانية، لكنهما استمرا في حضور اجتماعات القرنة بصفتهما الشخصية. وبالتالي وجد مخرجاً لهذه الأزمة، فتمسك أخلاقياً بمكتّف، وحاول عبر هذا المنطق حمايته وإنقاذه، هو أو غيره من الشخصيات المستقلة، من حيتان الأحزاب في 14 آذار، وخصوصاً أنّ مبدأ عمل الأمانة العامة يقتضي فتح المجال أمام الشخصيات غير الحزبية لتفعيل نقاشها مع الأحزاب ودورها في ما يسمى «المجتمع المدني».
حَقَد سامي الجميّل على الأمانة العامة أكثر وأكثر، وخصوصاً مع تكرار هذا الاشتباك مرة جديدة بسبب خلاف بين أحد مستشاري الرئيس أمين الجميّل وإحدى شخصيات الأمانة العامة، لأسباب كسروانية بحتة. وبعد الانتخابات النيابية عام 2009، وجد سامي ورفاقه «الثوار» في الكتائب أنّ الوقت قد حان لإطلاق النار على الأمانة العامة، فشنّوا حملة كبيرة في الإعلام وخارجه على هذه الهيئة، سائلين عن تمويلها وميزانيتها والشفافية المالية فيها.
ضاق الخناق حول الأمانة العامة، ما استوجب من سعيد الردّ على الموقف الكتائبي، فرفع بدوره مجموعة من الأسئلة عن تمويل الكتائب وميزانيته والشفافية فيه، وبثّها من حوله متحاشياً الكاميرات ومسجلات الصوت. الأمر الذي دفع الكتائبيين إلى تعليق عضويتهم في الأمانة، وسحب ساسين والخوري احتجاجاً على أداء سعيد، وهو القرار الذي لا يزال سارياً حتى اليوم.
كل هذه الوقائع لا تلغي كون سامي الجميّل النائب الأنشط بين حلفائه، والأقوى في اجتذاب الناس، على الأقل للاستماع إليه، لكن سياسة الشاب في الكتائب حتى اليوم تقلق كثيرين، فماذا لو تقيّد فعلاً بنشيد الحزب وطمح إلى بناء بيت كتائبي على الكواكب؟
وثمة ما هو «أهمّ» من ذلك، إذ يؤكد البعض أنّ نديم بات يملك سلاحاً فتاكاً يطوّع به عمه، الرئيس أمين الجميّل. ففي مناسبات عديدة، لم يتردد نديم في طرق مكتب الرئيس الأسبق للجمهورية والجلوس فيه محتجاً على بعض المسائل، وملوّحاً باستقالته من كتلة الكتائب النيابية وانضوائه في كتلة القوات اللبنانية. وبالعودة إلى أيلول الماضي، هل يذكر أحد أنّ النائبة السابقة، صولانج الجميّل، حين دعت سمير جعجع إلى حضور قداس ذكرى اغتيال زوجها، قالت إنّ جعجع «حمل الشعلة بعد بشير»؟ وهو أمر يرفض سامي حتى اليوم الاعتراف به، باعتبار أن القوات مؤسسة للعائلة «جرى الاستيلاء عليها».