يخط العميل في رسالته، بعد التحية، الآتي: «هل تذكر ظهر ذلك اليوم، حين أخبرتك بأنني لا أؤمن بالدولة، ولا بالأحزاب، وبأنني على استعداد لسفك دماء كل أركان الدولة، لأنهم هم السبب في فقري؟ يومها، لم أكن فقيراً، بقدر ما أصبحت قبيل تجنيدي».
في الفقرة الثانية، والأخيرة، كتب العميل يقول: «أنا كصائد نساء، لا أبتغي شيئاً من فريستي، إلا إلحاق الأذى بها. الإسرائيلي ظنّ أنه اصطادني، لكنني أنا من اصطاده، ولست نادماً. لا تحاول زيارتي، أو الرد على الرسالة، فأنا أعرف ماذا ستقول، ولماذا».
يتكتم صديق العميل، بأسلوب يحاول من خلاله سبغ صفة الوفاء، على تفاصيل حياة «صائد النساء» العاطفية، محاولاً قدر الإمكان عدم التوغل في موضوع خاص، رغم «الفتاوى» المتعجلة، كتبرير مفاده أن كشف أسرار عميل «يُعتبر عملاً وطنياً وبطولياً».. حتى لو كانت أسراراً عاطفية.
ومتتبعاً الأسلوب ذاته بتجهم واضح، يتمسك صديق العميل بخيط يصرّ على اعتباره أخلاقياً: «إنه يثق بي، ولذلك أرسل ما كتب. وتوقيته هذا، يدلّ على أنه ما زال متأثراً بتلك القصة، وهي عاطفية لا تفيد أحدا، أي إنها ليست أمنية».
بدا الرجل، في أثناء إعادة قراءة الرسالة، متأثراً، على عكس الأيام التي أميط فيها اللثام عن عمالة صديق عمره، حيث بادر آنذاك إلى تخوينه، ومنع كل صديق قريب أو بعيد، وحتى أفراد عائلته، من ذكر اسمه بأي ذريعة وفي أي لحظة.
غير أن علامات تأثره تغدو، شيئاً فشيئاً، بعيدة كل البعد عن علامات التضامن والأسف، كما يُخال في بادئ الأمر، بل انها تتسم بشيء من الاحتقار، فيه الكثير من العتب والسخط: «المعضلة التي تحيّرني، هي لماذا يطلب مني، بطريقة غير مباشرة، أن أحتقره أكثر مما فعلت؟».
حاول العميل، ربما، أن يغمز من قصة عاطفية قديمة أصابته، ليبرر لنفسه، قبل صديقه، أنه لم يقدم على خيانة وطنه، إلا عندما تأكد من أن «هذا الوطن قد خانه»، لمّا حوّله إلى فقير، تماماً كما خانته بطلة القصة العاطفية التي يتكتم الصديق على ذكر تفاصيلها.
هو، العميل الذي ساهم في قتل أبناء وطنه، ما زال يبحث عن تبريرات تساعده، ربما، على إبعاد شبح الأرق الذي يلاحقه، محاولاً «اختراع» مسوغات تفضي إلى نتيجة مفادها: الخيانة العاطفية (بغض النظر عن أسبابها)، وخيانة الدولة (بمفهومه هو) صنوان.
بذلك، تتحول السبل إلى غايات تبرر الوسيلة، من دون التمييز بين القتل المتعمد، لأطفال وشيوخ وشباب، وبين الانتقام من امرأة يجزم بأنها أقدمت على خيانته.
وبما أن العميل اكتشف، في سياق زمني متتابع، أن العمالة لإسرائيل، تحوّلت من خيانة يُعاقب عليها بالقتل أمام الملأ، بقرار من الدولة، إلى مهنة يعيش منها الـ«فقير»، والمتوجس من اغتيال مفاجئ، والمنتقم من حزب لم يسلّمه مراكز عليا، وصائد نساء، فإنه قرر إرضاء ذاته بهدوء.
ولأنه لا يؤمن بالدولة، ولا بأركانها، فإن مخيلته لم تسعفه في ابتكار سبل مغايرة للانتقام من خيانة الدولة، إلا بخيانة شعبه، في أفظع الأساليب وأبشعها، التي مهما حاول تبريرها، فإنها لن ترفعه إلا لمرتبة واحدة: الاحتقار.
وإلى أن يحلّ اليوم الذي تُرفع فيه مشانق العملاء، أمام الملأ، فإن كثيرين سيكتشفون مبررات ترضي ذواتهم، فيلتحقون في ركب قطار لن يتخلى عنه العدو الإسرائيلي، الذي استطاع الوصول إلى مراكز حساسة في الدوائر الأمنية الرسمية، وعند بعض الأحزاب والتيارات السياسية المحلية، والخارجية.