وهناك من يعتقد أن الكباش على الكهرباء كاد يأخذ في طريقه بعض المقومات الأساسية لاتفاق الطائف، ولا سيما ما يتعلق منها بصلاحيات الوزير. والمفارقة في هذا المجال، كما يلاحظ أحد المراقبين، هو أن الفريق الذي يبالغ عادة في إبداء الحرص على «الطائف» اندفع في اشتباكه مع العماد ميشال عون الى حد محاولة المسّ بحقوق جبران باسيل في وزارته، متجاهلاً او متجاوزاً النص الدستوري، بينما بدا «الجنرال» مصمماً على عدم السماح بأن تمس شعرة واحدة من صلاحيات الوزير، مستندا الى أحكام الطائف الذي كان قد أخرجه من قصر بعبدا.
ويلتقي رئيس مجلس النواب نبيه بري مع عون في دفاعه عن صلاحيات الوزير، مشدداً على ان اتفاق الطائف جعل الوزير، أياً كان، رأس وزارته وبالتالي لا يجوز أن يؤخذ منه بالضغط السياسي ما هو حق له بالنص الدستوري.
وإذا كان فريق 14آذار قد وجد صعوبة في هضم مشروع إنقاذ للكهرباء يحمل بصمات عون، فان الخبراء في الـ«دي آن آي» العوني، يشيرون الى ان حماسة الجنرال الشديدة لخطة الكهرباء ودفاعه الشرس عنها، إنما يحملان العديد من «الرسائل المشفرة» العابرة لخطوط التوتر العالي، والتي يمكن اختصارها كالآتي:
أولا: يتطلع عون الى تكريس مفهوم التوازن والشراكة الذي أعاد الاعتبار اليه عند إصراره على تمثيل تكتل التغيير والإصلاح في الحكومة الحالية بحصة مسيحية وازنة، وهو يأمل الآن في «تسييل» ذهب حجمه الوزاري عبر قرارات وخطوات ملموسة، تثبت أن المسحييين عادوا فعلياً، وليس نظرياً، شركاء في السلطة والنظام بعد سنوات من التهميش والتحجيم، وهذه الرسالة يمكن ان تصل الى كل بيت بواسطة «البريد الكهربائي»، في حال جرى تمرير المشروع الذي أشرف على حياكة خيوطه بشكل رئيسي وزير الطاقة جبران باسيل.
ثانيا: يدرك عون أن إضاءة «لمبة» هي أفضل بكثير من ان يمضي الوقت في مؤتمراته الصحافية الاسبوعية وهو يلعن الظلام والفساد، وبالتالي فإن إقرار خطة الكهرباء سيعطي قوة دفع للتيار، وسيعزز مصداقيته ومن ثم قدرته على الاستقطاب الشعبي في مواجهة خصومه الذين سيظهرون وكأنهم لا يجيدون سوى الثرثرة في مقابل إنجازات الجنرال.
ثالثا: يفترض عون ان مشروع الكهرباء يشكل نقطة تحول مفصلية في مسار طويل ومتعرج، بدأ مع كسر ظهر الدولة مالياً واقتصادياً في عهد الرئيس أمين الجميل، ثم استكمل طريقه نزولا حين دخلت «الحريرية السياسية» الى معادلة السلطة والمال تحت شعار إعادة الإعمار والنهوض بالبلد، لتكون النتيجة إغراق اللبنانيين في بحر هائج من الديون التي أنفق جزء كبير منها، هباء وهدراً، على قطاع الكهرباء بسبب سوء التخطيط.. وسوء النية. وبهذا المعنى فإن عون يريد ان يقدم نموذجا مختلفا او مدرسة مغايرة على مستوى الأداء الانمائي والخدماتي، في ما يشبه «الثأر» من الماضي ورموزه.
رابعا: يسعى عون الى استنهاض دور «الدولة الراعية» وتفعيل حضورها في المجالات الحيوية التي تتعلق بمصالح الناس ومتطلباتهم، في مواجهة محاولات تقليص وظائفها لمصلحة توسيع مساحة الخصخصة التي يراهن البعض عليها، كبديل إستراتيجي عن خطة باسيل الكهربائية. ويعتقد «الجنرال» أن تعزيز علاقة الدولة بالمواطن على قاعدة الإيفاء بواجباتها حياله، هو أمر ضروري ليس فقط بالمعنى الخدماتي، وإنما بالمعنى السياسي ايضاً، لأن من شأن هذه العلاقة إذا انتظمت ان ترفع تدريجياً منسوب المواطنية وان تحد من الارتباط بين اللبناني وطائفته ومذهبه اللذين يتعزز موقعهما كممر إلزامي لضمان مصالحه وحاجاته كلما تراجع موقع الدولة وانكفأت عن تأدية مهامها.
خامسا: يبدو عون في عجلة من أمره وهو الذي يخوض سباقا محموما مع الزمن لاعتقاده بان هناك حاجة ملحة الى الاسراع في معالجة ملفات مزمنة تحتاج برأيه الى نفضة عاجلة لوقف النزف المترتب عليها. والى جانب ذلك، فان هناك مبارزة شخصية بين الوقت وعون الذي يدرك ان كل دقيقة من عمره هي ثمينة وبالتالي فهو يريد ان يختصر المراحل ويحقق أكبر قدر ممكن من الإنجازات في أقصر مهلة متاحة. لذلك، يستعد عون بعد الانتهاء من معركة الكهرباء للغوص في ملفات حساسة في وزارة العمل التي يتولاها شربل نحاس ومنها ضمان الشيخوخة والضمان الاجتماعي الاختياري، إضافة الى تحدّ آخر لا يقل أهمية ويتعلق بتعديل النظام الضرائبي في اتجاه تحقيق المزيد من العدالة الضرائبية، ما دفع البعض في التيار الوطني الحر الى القول بأن ميشال عون يكاد يكون أحد اليساريين الحقيقيين القلائل في لبنان، في مواجهة الرأسماليين المتوحشين...
سادسا: لا شيء مقدساً عند عون بما في ذلك الحكومة، حتى لو كانت «حكومته» ويمتلك فيها حصة وازنة، ذلك أن السلطة بالنسبة اليه هي وسيلة لتحقيق أهداف تغييرية، فاذا توصل في لحظة ما الى قناعة بان بلوغ تلك الأهداف ليس متاحاً عن طريق التركيبة الحاكمة الحالية، سيكون أشد المتحمسين - قبل المعارضة - لإسقاط الحكومة، وكل من يسعى الى تخريب تجربتها أو جعلها امتداداً لتجارب سابقة..