مبررين الموقف بالحرص على لبنان وشارك في التبني والترويج اكثر من طرف لبناني وغير لبناني، ترويج يفرض السؤال عن امكانية ذلك وقبله ما هو المعنى المقصود.
أ- ونحن نرى ان لعبارة العزل بين الدولتين اكثر من معنى:
1) أولها: وهو الابعد مدى ويتمثل بقطيعة تامة على الصعد والمستويات الرسمية والشعبية شاملة السياسة والاقتصاد وكل اوجه الحياة الاخرى وتترجم في الميدان باغلاق الحدود كليا والتعامل بين البلدين كما لو كانا في حالة حرب او هدنة بعد حرب ترسي حالة العداء.
2) ثانيها: الفصل بين الساحة السورية و الساحة اللبنانية و منع تسرب ما يجري في اي منهما الى الاخرى، كما و الحؤول دون امداد احداهما من الاخرى بما يمكن من التأثير على الامور فيها سلبا او ايجابا. الامر الذي يترتب عليه وقف التعامل الاقتصادي والمالي ووقف التنسيق الامني وعدم الترويج الاعلامي، وعدم السماح بعبور الاشخاص الذين يشكل عبورهم مساً بمجريات الساحة هنا وهناك، وحظر نقل المواد التي يؤثر نقلها على الاحداث في اي من الساحتين.
3) ثالثها: الفصل بين السياسي و الرسمي من جهة، و الاجتماعي والمعيشي من جهة اخرى. بحيث يكون العزل متناولا الفئة الاولى وتترجم بفتور سياسي ووقف التنسيق الامني وحرمان الدولة من اي مكسب او رئة تتنفس فيها عبر الدولة الاخرى، مع الاستمرار في التبادل المحدود في العلاقات الاقتصادية والروابط الاجتماعية.
4) اما الرابع من الوجوه في العزل فيتمثل في حصر الامر بالمجال الامني فقط حيث يتوقف التنسيق بين الطرفين وتمارس كل منهما في ارضها ضبطا للامن يمنع التسرب الى البلد الاخر. دون ان يمس ذلك بالمواضيع الاخرى من العلاقات سياسية كانت او اقتصادية او اجتماعية او سواها.
وانطلاقاً من المواقف المتخذة او المصرح عنها او الموحى بها من الداخل اللبناني او الخارج، نجد ان من ينادون بالعزل ليسوا واحداً في المواقف والمعاني المعتمدة، ففي حين ان المواقف الغربية خاصة الاميركية تحض لبنان على قطيعة مع سورية والبعد عنها دون ان يشكل لبنان عامل تأثير ايجابي او سلبي في الازمة السورية نجد البعض في لبنان خاصة من هم جزء من الحكومة قالوا بالعزل و الامتناع عن تقديم لبنان التسهيلات لسورية او تشكيل الرئة التي يتنفس منها الاقتصاد او المالية السورية خشية ان يتعرض لبنان لانتقام اميركي، كما ان هناك فريقاً لبنانياً اخر يرى ان يعزل لبنان نفسه عن تقديم اي معونة او متنفس للنظام في سورية مهما كانت طبيعته و الاستمرار في مساندة الفئات المتمردة على النظام وامدادها بكل ما هو متاح من مال وسلاح واحتضان اعلامي ومعيشي لتمكينها من مقارعة النظام حتى اسقاطه.
وعلى الاتجاه المقابل نجد فرقاء لبنانيين يرفضون فكرة الحياد او العزل برمتها ويرون ما يجري في سورية يؤثر في لبنان بسلبياته وايجابياته وان فكرة العزل بذاتها تخفي نوايا خبيثة يقصد منها الاساءة للنظام ولأغلبية الشعب السوري المؤيد له ويوفر فرصا للتمردين الذين يمارسون العصيان المسلح، ويدعم الخارج الذي يفرض الحصار الاقتصادي والسياسي على سورية، حتى يوفر فرص تحقيق اهداف الهجوم الغربي عليها. ويرى هؤلاء ان ظروف لبنان وموقعه الجيوسياسي تمنعه من السير بأي طريق تؤدي الى قطيعة مع سورية او فتور في العلاقات معها او دعم للحركة المسلحة التي تستهدف امنها واستقرارها، او تضييق مالي او اقتصادي عليها لان كل ذلك سيرتد على لبنان سلبا بشكل حتمي.
ب- على ضوء ذلك نتساءل هل يمكن عزل لبنان عن سورية وبأي معنى من الاربعة المتقدمة الذكر ينفذ العزل اذا اعتمد؟
هنا نرى ان من واجب الباحث عن الاجابة ان يتذكر مسلمات لا يمكن القفز فوقها او اغفالها ونعرضها كالتالي:
1) ان سورية هي البلد الوحيد الذي يتشارك لبنان معه في حدود برية مفتوحة لان الحدود البرية الاخرى هي مع «اسرائيل» التي تقوم معها حالة عداء وحرب، ما يعني ان لبنان اذا عزل نفسه عن سورية بالمفهوم الاول اي القطيعة التامة واغلاق الحدود فهذا يعني ببساطة انه سجن نفسه ضمن حدود برية مغلقة ما يقوده الى الاختناق ومن دون مناقشة بقية الجوانب نكتفي بالقول ان العزلة بمعنى القطيعة هي حمق لا يرتكبه عاقل وبالتالي يكون هذه الوجه ساقطا تلقائياً.
2) ان الترابط بين لبنان وسورية هو ترابط عضوي يظهر على كافة الصعد:
- فعلى الصعيد الامني نعلم ان مقولة الامن الوطني المستقل باتت من الماضي بعد ان تطورت الاتصالات والمواصلات والتقنيات وبات للامن المعمول به بفاعلية مرتبتان اساسيتان «الامن الاقليمي» و«الامن الدولي» ويبقى الامن الوطني تفصيلاً لا يمكن ان يؤتي ثماره ان لم يُكمّل بأمن اقليمي. فإذا لم نغلق الحدود (وهو مستحيل كما بيّنا) هل يمكن لأي من الدولتين ان تحفظ امنها بمعزل عن الاخرى وتنشر على حدودها قوى لتؤمن العزل الامني ؟ طبعا لا.
- وعلى الصعيد الاقتصادي لا يمكن لعاقل ان ينكر ان سورية هي الرئة البرية الوحيدة التي يتنفس منها الاقتصاد اللبناني، ولا يمكن للبنان ان يقفل او يقطع قناة حياته البرية الوحيدة.
- وعلى الصعيد الاجتماعي قد يغيب عن البعض مدى الترابط في العلاقات العائلية بين البلدين ترابط وصفه الرئيس حافظ الأسد بأن في البلدين «شعب واحد في دولتين».
وبالتالي لا نرى واقعية في القول بعزل الساحتين عن بعضهما لا بل نقول باستحالة عملية في ذلك، والعزل ان وقع لا يمكن إلا ان يتضرر لبنان منه ضررا يفوق الضرر السوري الذي تبقى له حدود مفتوحة مع اكثر من دولة.
3) اما ادارة الظهر لما يجري في سورية من احداث امنية او سياسية، والاكتفاء بالتعامل الاقتصادي والاجتماعي فهو أمر غير ممكن ايضا. فلبنان سيتأثر حتما بأي شيء يجري على الساحة السورية أمنيا وسياسيا. إذ لا يمكن للبنان ان يمنع دخول السوريين اليه اذا اضرمت نار الفتنة بين طوائف الشعب السوري وتم تهجير بعضهم، ولا يمكن للبنان ان يبقى بمنأى عن مفاعيل فقدان السيطرة على الامن السوري مع وجود الحركات الارهابية والتخريبية وتناميها، ولا يمكن للبنان ان ينجو من مفاعيل انهيار النظام المركزي القوي لان اي تفتيت لسورية سينسحب حتما على لبنان.
لكل ذلك نقول ان من يطالب بعزل لبنان عن سورية، انما يخفي في الحقيقة طلبا او قرارا اخر، وهو حضّ لبنان على الانخراط في منظومة البلدان التي تعادي سورية وتعاقبها وتنخرط في المؤامرة التي تستهدف نظامها الذي يحتل موقعه المميز في منظومة المقاومة، وهو امر يرتد على لبنان بأسوأ ما يؤثر في سورية. ولهذا السبب لا نرى امكانية للعزل، خاصة وان هناك انقساماً لبنانياً حاداً حولها ان الاكثرية الشعبية اللبنانية ترفض هذا العزل ولن تسمح بتمريره طالما انها ممسكة باكثرية نيابية واكثرية في مجلس الوزراء. اما المواقف التي صدرت عن هذا او ذاك في لبنان وأوحت بالعزل فانها ليست اكثر من مواقف شخصية لا يمكن ان تجد طريقها الى التنفيذ الفعلي.