ما حصل في جلسة «تفخيخ الأجور»، أمس الأول، لم يشكل استثناءً بل كان حلقة جديدة من حلقات التعامل الهزيل مع الملفات التي ترمى على طاولة مجلس الوزراء، الذي لم يجد طريقه إلى الإنتاج بعد. وما زال يدور حول الملفات الحيوية من دون أن يتجرأ البت بها. وإن فعل فبعد تفريغها من أي مضمون وتوزيع الانتصارات يميناً ويساراًَ.
على الرغم من حرص أهل الحكومة في الداخل والخارج، على بقائها، إلا أن ثمة إجماعاً ضمنياً بين مكوناتها ومعارضيها أن وجودها مخالف للطبيعة وهي ليست سوى مخلوق هجين يحيا كل يوم بيومه، إلى أن يقضي الله أمراً كان مفعولا.
ميشال عون يرى أن مهمة كل ملف يطرح على طاولة مجلس الوزراء يعني دق مسمار جديد في نعش الحكومة. نبيه بري يبدو حاسماً في أن حكومة تصريف أعمال ليست هي الحل الأفضل حالياً وبالتالي فبقاء الحكومة أفضل من ذهابها. بالنسبة لـ«حزب الله» المصلحة تقضي ببقاء الحكومة أطول فترة ممكنة، فيما يحيد وليد جنبلاط نفسه عن ذلك النقاش، غير مكترث ببقائها أو ذهابها، ما دام موقعه محفوظاً لكن وزراءه في الحكومة يتصرفون على قاعدة أن الحكومة راحلة غدا وبالتالي ينبغي العمل والتقليل من التنظير. أما سليمان فرنجية وطالما أن قرار إسقاط الحكومة لم يتخذ بعد، فهو يثبت في كل مناسبة أنه حليف نجيب ميقاتي (في الانتخابات النيابية المقبلة) أكثر مما هو حليف ميشال عون، أو بالأحرى هو حليف سليمان فرنجية المرشح لرئاسة الجمهورية في العام 2014 ونقطة على السطر.
بعيداً عن تلك المواقف المسبقة يصعب فهم ما حصل في جلسة تصحيح الأجور. وزراء «تكتل التغيير» دخلوا إلى المجلس وفي جعبتهم مشروع شربل نحاس، المدخل الوحيد للبحث في تصحيح الأجور، الذي أسقط قبل أن يبصر النور. دافع بعض وزراء التكتل عن المشروع بشراسة، إلا أنهم لم يتلقوا أي دعم لا من الحلفاء من خارج التكتل ولا من داخله. لم يأخذوا إلا جائزة ترضية من ميقاتي الذي أثنى على جهد نحاس، قبل أن يقفل الطريق على مناقشة مشروعه، لأنه يحتاج إلى وقت ودراسة، فيما الأمر الملح كان في مكان آخر. الأولوية لم تكن لتصحيح الأجور أو تعزيز التقديمات الاجتماعية، بل لإنهاء الإضراب بأقل ثمن ممكن.
ساند وزراء حركة «أمل» و«حزب الله» ميقاتي، التزاماً بوعد تعليق الإضراب مقابل استرضاء الاتحاد العمالي ببعض التقديمات التي تبرر تراجعه عن التحرك. وفي موازاة ذلك، بث الرعب في مجلس الوزراء وخارجه تخوفاً «من استغلال الإضراب لتفجير الحكومة والبلد في الشارع».
العونيون رفضوا محاولات ترهيبهم بالأمن أو الإضراب «وماذا إذا حصل الإضراب غدا، هل ستكون نهاية الدنيا. نضع خطة اقتصادية اجتماعية شاملة بدل سياسة الترقيع».
الكباش لم يصل إلى مكان برغم طول مدة النقاش. وعندما طرحت مسألة تفويض ميقاتي متابعة الحل، برز الاعتراض الخماسي من جانب وزراء التيار الوطني الحر: نحاس، جبران باسيل، شكيب قرطباوي وفادي عبود، إضافة إلى مسايرة حزب الطاشناق للحلفاء باعتراض أحد وزرائه (فريج صابونجيان). أكد باسيل أنه لا يمكن تفويض ميقاتي لإيجاد الحل نيابة عن مجلس الوزراء، فيما المجلس لم يتفق على صيغة موحدة. وكما كان متوقعاً منذ أربعة أيام تحديداً علّق الإضراب، بعدما أعلن ميقاتي عن صيغة الحل.
شربل نحاس اليساري قبل أن يكون عونياً، مارس قناعته وهو متهم في هذه الأيام بأنه بات في دائرة التأثير على ميشال عون، «أكثر من جبران باسيل». شكيب قرطباوي مارس سياسة الانضباط وليس القناعات. جبران باسيل هناك حساب مفتوح بينه وبين رئيس الحكومة وباقي الحلفاء، عمره من عمر مشروع الكهرباء ومن بعده مشروع المياه الذي يواجه السيناريو الأول نفسه. أما فادي عبود، فحدث ولا حرج. من سمع وزير السياحة يتحدث عبر الشاشة، أمس، ظن أن عدنان القصار أو محمد شقير أو نجيب ميقاتي أو نقولا نحاس. تحدث كرب عمل وصاحب مصنع وليس كوزير برتقالي.
إذا كان الاتحاد العمالي قد علّق الإضراب أمس الأول، بعد أيام من شد الأعصاب والمفاوضات والخلافات داخل الحكومة، قد يكون من المفيد التذكير أن الإضراب أعلن أصلاً منذ أشهر، وحدد موعده في 12 تشرين الحالي. عندها قيل أن ذلك الإعلان وتاريخه مرتبطان حكماً برسائل موجهة إلى ميقاتي من ثنائي «حزب الله» و«أمل»، هدفها الضغط عليه في مسألة تمويل المحكمة، على اعتبار أن الحكومة يفترض أن تعد الموازنة العامة، المتضمنة لمسألة التمويل في بداية تشرين الاول. وهو ما رأى فيه البعض سبباً رئيسياً لتأخير طرح الموازنة إلى 18 الجاري. كان ذلك قبل أن يحصل ميقاتي من بري على تعهد بإلغاء الاضراب، طالباً منه مسايرة الاتحاد العمالي وإعطاءه بعض مطالبه، وعندها جزم ميقاتي أن لا بطانة سياسية للاضراب، خاصة أن هناك من جاء يهمس في أذنه: «عليك أن تدفع ثمن موقفك في مجلس الأمن عندما حرّضت نواف سلام على التهديد بالاستقالة، اذا لم يصوت لبنان بالامتناع في موضوع العقوبات ضد سوريا».. وتبين لاحقا أن الموضوع أصبح وراء ظهر «حزب الله» وبري.. ومعهما دمشق.
ويؤكد متابع لمجريات المفاوضات، أن كل ما كان يصدر عن رئيس الاتحاد من تهديدات بمتابعة الإضراب لم تزعج ميقاتي الذي كان واثقاً من النتيجة سلفاً، بعدما استطاع أن يقنع الأوصياء على الاتحاد أن المصلحة تقضي بعدم تعرض الحكومة لهزات قد يستفيد منها أخصامها، من دون ان ينسى التذكير بأن الحل السحري لمسألة التمويل في جيبه.
وكان لافتاً للانتباه في هذا الصدد أن الأخصام ولا سيما القوات و«المستقبل» بدوا مترددين ومربكين ويجاذبهم اتجاهان: الأول، يقول أن لا ضرورة لاستغلال الشارع لمواجهة ميقاتي وذلك للأسباب التالية: الحكومة تهتز اعتماداً على تناقضاتها، واستعمال الشارع ضدها قد لا يؤدي إلا إلى شد عصب أقطابها وإعادة تعويمها وإعطاء شرعية لتحركات الاتحاد العمالي وهي الحجة التي اندلعت منها أحداث 7 أيار.
الاتجاه الثاني، في المعارضة، عبرت عنه الوقائع وكان هو الوازن. فجأة تقرر «القوات» العودة الى النقابات العمالية. «المستقبل» يحاول تعزيز وضعه في الهيئات النقابية. محمد شقير يقود تحرك الهيئات الاقتصادية من مبنى تلفزيون «المستقبل» أو الأمانة العامة لـ«ألتيار الأزرق». يقدم عدنان القصار أجوبة ايجابية سرعان ما يطيح شقير بها، ليتبين أن «جماعة المستقبل» هم الجهة التي تقود الى الرفض في المقلبين: عند الهيئات العمالية والاقتصادية، والنتيجة يجب أن تكون واحدة وهي النزول الى الشارع وتلطيخ سمعة حكومة ميقاتي بعناوين معيشية واجتماعية!
بدا أن الاتجاه الثاني هو الأفعل، وتقاطع ذلك مع معلومات قدمها مدير المخابرات في الجيش اللبناني العميد ادمون فاضل، عصر أمس الأول، خلال اجتماع بعيد عن الأضواء عقد في مديرية المخابرات في اليرزة، مع وفد من الاتحاد العمالي العام، وأطلعهم خلاله على المعلومات المتوافرة لدى المديرية عن توجه بعض المجموعات، للنزول الى الأرض ومحاولة قطع الطرقات، وبالتالي عرقلة مهمة الجيش والقوى الأمنية المولجة بحماية الأمن وأية تجمعات. ولذلك، تمنى الجيش على الاتحاد العمالي أن يأخذ هذه المعطيات في الاعتبار، وهو المناخ نفسه، الذي حكم الاتصالات التي أجرتها قيادة الجيش بكل من بري وميقاتي و«حزب الله».
لهذه الأسباب، شكل العامل الأمني ـ السياسي، أحد أبرز عناصر الضغط على الاتحاد العمالي لتجميد تحركه، وفي المقابل، يردد أحد الوزراء أن الحديث عن الخطر الأمني لم يكن إلا فزاعة استعملت لإفشال التحرك، وهو ما عبر عنه صراحة الوزير غازي العريضي الذي كان أشد المعترضين على طريقة التعامل مع حقوق العمال، برغم أنه عاد وفوض ميقاتي يإيجاد الحل.
بعد الجلسة، صار عون متأكداً أن معركته الحقيقية هي مع ميقاتي. وبعدما كان يظن أن وجود الأكثرية الجديدة في الحكم سيسمح له بتنفيذ بعض «برنامجه الاصلاحي» الذي حارب من أجله، مستفيداً من عشرة وزراء للتكتل، وجد نفسه في مواجهة مستمرة مع رئيس حكومة يملك «أجندة» مختلفة عنوانها الأول عدم استفزاز الشارع السني وتحديداً شارع «المستقبل». لم يحقق عون أي انجاز حتى الآن. بات على ثقة أن وجود الحريري في سدة الحكومة كان أفضل. عندها على الأقل نجح في إقرار خطة الكهرباء، فيما ميقاتي كان اول من واجهها. في التعيينات يعرف عون أن مشكلة أخرى تنتظره، عندما يقرر ميقاتي الخوض في التعيينات المارونية والمسيحية ويساير ميشال سليمان على حسابه.. ونموذج التشكيلات والترقيات في السلك الدبلوماسي هو أوضح مثال.
الغضب العوني منصب أيضاً على «حزب الله»، الذي لم يدعمه في مشروعه الاصلاحي، برغم انه صد عنه الكثير عندما كان واجهة معارك الحزب مع الحريري. أما المشكلة بالنسبة للحزب فهي محاولاته الدائمة التوفيق بين خطين أحمرين الأول هو عون والثاني هو بقاء الحكومة. أما قمة الاحراج فتكون عندما يضطر إلى الانحياز لصالح أحدهما.
من يتابع عون يمكنه أن يلاحظ أنه لا يفوت فرصة إلا ويؤكد معارضته لتمويل المحكمة. يجزم أحد المتابعين للمسار العوني أن هذا الموقف موجه بالدرجة الاولى إلى حليفه. فهو يتخوف أن ينتهي الحزب بالموافقة على صيغة تقضي بتمويل المحكمة بشكل موارب، تحت الشعار نفسه: حماية الحكومة.
المعركة أمس الاول كانت معركة أحجام. بدا عون وحيداً في المعركة، بعدما تخلى عنه حتى الأقربون، لكنه لم يهدد بالاستقالة كما فعل أيام «الكهرباء»، فهو يعرف أن المعادلة ليست في صالحه.
هل بات يمكن القول إن عمر الحكومة هو من عمر انتهاء مهلة التمويل؟